أقلام فكرية

علي عمرون: فرويد وتلامذته.. حدود الاختلاف ومواطن الاتفاق

"اللاوعي ليس فقط هذا الشيء او ذاك لكنه المجهول الذي يؤثر فينا مباشرة"
"أنا لست ما حدث لي، انا ما اخترت ان أكون"
كارل غوستاف يونغ

***

مدخل اشكالي:
يعد التحليل النفسي من اهم النظريات التي حاولت مقاربة الظواهر النفسية وفق منهج جديد اختلف اهل الفكر في تصنيفه منهم من صنفه ضمن دائرة العلوم ومنهم من نظر اليه كتجلي لفكر فلسفي تأملي في النفس وعلاقتها بالجسد والعالم الخارجي ويقصد بالتحليل النفسي الفرويدي ذلك المذهب الذي أسسه فرويد وميز فيه ثلاثة مستويات: فهو على الصعيد الأول طريقة في الإستقصاء تتلخص أساساً في تبيان المعنى اللاواعي لكلام وأفعال شخص ما، وكذلك معنى إنتاجه الخيالي (من أحلام وهفوات، وهذيانات) وهو على الصعيد الثاني طريقة في العلاج النفسي وهو على الصعيد الثالث مجمل النظريات النفسانية والنفسية المرضية التي تنظم من خلالها المعطيات التي تقدمها الطريقة التحليلية النفسية في الإستقصاء والعلاج.
وقد استخدم فرويد باديء ذي بده مصطلحات التحليل، وتحليل النفس، والتحليل النفساني، والتحليل التنويمي، وذلك في مقالته الأولى عام1894 ولم يدخل مصطلح التحليل النفسي إلا لاحقاً وقد قدم فرويد تعاريف عديدة للتحليل النفسي وكتب قائلا: " لقد أطلقنا إسم التحليل النفسي على العمل الذي تجلب من خلاله إلى وعي المريض ذلك المحتوى النفسي المكبوت لديه. فلماذا استخدمنا كلمة تحليل، التي تعني التفتيت والتفكيك وتوحي بالتشابه مع العمل الذي يقوم به عالم الكيمياء على المواد التي يجدها في الطبيعة، والتي يحملها إلى مختبره ؟ لقد تم ذلك لأن هناك ما يبرر ويدعم فعلياً مثل هذا التشابه، في نقطة هامة. ذلك أن أعراض المريض وتجلياته المرضية هي ذات طبيعة تبلغ درجة عالية في تركيبها، شأنها في ذلك شأن كل نشاطاته النفسية؛ ولا تعدو عناصر هذا التركيب في نهاية المطاف كونها دوافع، وحركات نزوية. إلا أن المريض لا يعلم إلا القليل، أو هو لا يعلم شيئاً عن هذه الدوافع الأولية. إننا نعلمه إذا أن يفهم تركيب هذه التكوينات النفسية البالغة التعقيد، ونرد الأعراض إلى الحركات النزوية التي تحركها، وندل المريض على الدوافع النزوية التي كان يجهلها إلى ذلك الحين في أعراضه، شأننا في ذلك شأن الكيميائي الذي يفصل المادة الأساسية، أو العنصر الكيميائي عن الملح الذي ضاعت معالمه فيه من خلال تركيبه مع عناصر أخرى ".
وهكذا يمكن القول ان التحليل النفسي عبارة عن عملية يتم من خلالها استكشاف ماضي (خبرات) اللاشعور، وأحداث وذكريات مؤلمة، فضلاً عن الصراعات والدوافع والانفعالات الشديدة التي تؤدي في النهاية إلى الاضطراب النفسي، وأن التحليل النفسي هو عملية استدراج هذه الخبرات المؤلمة من منطقة اللاشعور وذلك عن طريق التعبير الحر التلقائي (التداعي الحر free association) والتنفيس الانفعالي Catharsis ومساعدة المريض في حل مشاكله. عن طريق التعبير اللفظي والتداعي الحر وتحليل الأحلام. فهو منهج بحث لدراسة السلوك الإنساني. وهو أيضاً طريقة علاج فعالة يتم فيها كشف المواد المكبوتة في اللاشعور، واستدراجها من أعماق اللاشعور إلى مجال الشعور بهدف إحداث تغيير أساسي في بناء الشخصية وهو يرتكز على علاقة شخصية ذات طرفين هما: المعالج والمريض، وهو أحد فروع العلاج النفسي وليس هو كل العلاج النفسي، وليس العلاج النفسي مرادفاً للتحليل النفسي.
وهناك اتجاهان رئيسيان في التحليل النفسي:
التحليل النفسي الكلاسيكي: ورائده سيجموند فرويد Freud.
التحليل النفسي الحديث: وله أكثر من رائد وهم الفرويديون الجدد new Freudians. أمثال كارل يونج Jung، آنا فرويد Anna Freud، ألفريد آدلر Adler، كارين هورني Horney، أوتو رانك Rank، إيريك فروم Fromm، هاري سناك سوليفان Sulivan.
وفي مقالنا هذا سنركز على ثلاثة أسماء بارزة في مدرسة التحليل النفسي (فرويد، يونغ، ادلر) ونتساءل:
كيف يمكننا أن نميز بين فرويد وتلامذته؟ وما هي الاختلافات الجوهرية بين فرويد و تصوراتهما حول منهج التحليل النفسي؟ وهل وجود الاختلاف يؤشر على وجود قطيعة بين فرويد وتلامذته؟

بداية نقول انه على الرغم من التكامل بين اتجاه التحليل النفسي الكلاسيكي والتحليل النفسي الحديث، فإن بينهما اختلافات تظهر عند مقارنة آراء سيجموند فرويد رائد التحليل النفسي الكلاسيكي، ورواد التحليل النفسي الحديث في نقاط محددة:581 tableكارل غوستاف يونغ الذي ظل طيلة حياته يشيد بجهود شیخه فروید، حيث اشتغل معه ما بين 1907 و 1912، لم يبق طويلاً ذلك المريد القنوع بتكرار وجهات النظر الفرويدية، بل أوصلته أبحاثه إلى أن يختلف مع أستاذه حول أمور جوهرية أدت إلى قطيعة علمية بينهما، فجرها كتابه استحالات داخلية ورموز اللبيدو" سنة 1913، لا سيما حول اللبيدو الذي يعتبره فرويد محركاً لحاجيات الكائن الإنساني منذ فجر حياته. فالطفل، من وجهة نظره، لا يعيش، ولا يتلذذ، ولا يعاني إلَّا باللبيدو الجنسي. بينما يرى يونغ أن اللبيدو، عند الطفل، ينشط الوظائف الثانوية ذات الطبيعة النفسية والبدنية أكثر من الوظيفة الجنسية المحلية، فهو لا يقع تحت أولية اندفاعات جنسية وحيدة، ولكنه "قيمة طاقية يمكنها أن تنتشر في أي مجال كان(قدرة، أو حقد، أو جوع، أو جنسانية، أو دين إلخ...) من غير أن تكون نزوعاً نوعياً."
اللبيدو عند يونغ هو "اسم الطاقة التي تتجلى في إجراء الحياة التي ندركها بكيفية ذاتية على شكل أماني ورغبات" لقد استعمل فرويد لفظ لبيدو للتعبير عن "قوة متغيرة بشكل كمي، تسمح بقياس الإجراءات وتغيير المواضع في الإثارة الجنسية: " ولقد تميز يونغ، بشكل مبكر جداً، بهذا الموقف: في سنة 1909، كتب إلى فرويد "الاحظ أن صعوباتي حول مسألة اللبيدو [...] تنبعث ظاهرياً من كوني لم أقرب بعد موقفي من موقفك بشكل أكبر"
وفي سنة 1912يُشكل تصوره الخاص للبيدو بوصفه طاقة نفسية وقال: "إنني أتصور هذه كمماثلة نفسية للطاقة الجسدية [...] ولهذا أرفض كل تحديد نوعي للبيدو" لقد أراد يونغ بالفعل أن يتحرر من التجسيم الذي ارتبط إلى حدود ذلك بنظرية اللبيدو". فلم يرد الكلام إطلاقاً عن غريزة جنسية للجوع، والاعتداء، أو الجنسانية، ولكنه يرى "كل هذه التجليات مثل تعابير متنوعة عن الطاقة النفسية إن الاكتشافات المتقدمة ليونغ حول الطاقة النفسية هي مرتبطة بثقافة عصره في النصف الثاني للقرن التاسع عشر.
لقد كان يونغ دائماً متفقاً مع فرويد حول الدور المهم الذي تلعبه الجنسانية في تطور الفرد. إنها "المذهب الجنساني الشامل الفرويدي الذي لم يقنعه أبداً بشكل تام. فمنذ بداية التقائهما، سنة 1906، كتب في مقدمة كتاب "بسيكولوجيا العته البكور": "إذا قبلت، مثلاً، وجود ميكانيزمات معقدة في الحلم وفي الهستيريا، فهذا لا يدل بتاتاً [...] على أنني أمنح الجنسانية مكانة متفوقة إلى هذا الحد، وأيضاً أقل من أن أعترف لهذه الأخيرة بالشمولية البسيكولوجية المُسلَّم بها من قبل فرويد "
فبالنسبة إلى يونغ، اللبيدو الجنسي لا يستطيع بأي حال تفسير الذهان، خصوصاً(الشيزوفرينيا). وبحسب ملاحظاته، اتجه إلى انتقاد الجانب النسقي والأحادي الجانب لوجهة النظر الفرويدية، وانتهى إلى محو علاماتها. ليس لأنه قد رفض الجنسانية كما قيل ذلك دائماً بطريقة تبسيطية، ولكنه كان يعتقد أنه لا يمكن أن يتم تفسير كل شيء بالاندفاع الجنسي ولا شيء غيره، والذي على منوال الكائنات الحيوانية الأخرى، تَدْخُلُ في الحُسْبَان غرائز أخرى خلال التطور البشري. "لا يستطيع أحد نكران كثافة الحياة عند الطفل، خلال السنوات الأولى، لكن، هل يمكننا أن نقبل، مع فرويد، أن الطفل يحيلنا إما إلى صفة ما هو جنسي (sexuel) لا يعيش، ولا يتلذذ، ولا يعاني إلا باللبيدو الجنسي ؟!" يتساءل يونغ سنة 1913 قبل أن يستنتج أن "اللبيدو، عند الطفل، ينشط الوظائف الثانوية ذات الطبيعة النفسية والبدنية أكثر من الوظيفة الجنسية المحلية"
لم يتوقف يونغ، طيلة السنوات كلها التي استمر تعاونهما الودي عن محاولة إقناع فرويد ليوسع تصوره حول اللبيدو يكتب قائلاً في رسالة بتاريخ 31: "ألا يكون من الممكن التفكير، مارس 1907، مراعاة للتصور المحدود للجنسانية الذي هو مقبول حالياً، وتخصيص ألفاظ جنسية للأشكال الوحيدة القصوى "للبيدو" الخاص بكم؟". ولتعذر الوصول إلى ذلك، انتهى سنة 1911، إلى تحديد تصوره الخاص، إنه لبيدو لا يقع تحت أولية اندفاعات جنسية وحيدة، ولكنه "قيمة طاقية يمكنها أن تنتشر في كل مجال. وفي سنة 1913، في النظرية التحلينفسية، يصف ثلاثة أطوار
للحياة الإنسانية ولتطور الجنسانية. قبل كل شيء، يوجد الطور ما قبجنسي pre-sexuel، الذي يطابق السنوات الأولى للحياة، نحو5-3 سنوات، الممتلئ تقريباً، وبشكل حصري، بممارسة وظائف التغذية والنمو ". بعد ذلك طور قبل البلوغ pre-pubère الذي يمضي من الطفولة الثانية إلى البلوغ و " في أثنائه تتولد الجنسانية" وأخيراً، طور النضج الذي يبدأ في سن البلوغ، إنه سن الرشد.
لا "يُجرد" يونغ اللبيدو " من النشاط الجنسي"، لكنه يريد أن يعطي ثانية المكونات المتعددة للطاقة النفسية، مشروعيتها وقيمتها. وفي ندوة يقدمها بلندن في اوت 1913، يقول: "لقد توصلت إلى استنتاج أن الاندفاعات الدينية والفلسفية - ما يُسميه شوبنهاور "الحاجة الميتافيزيقية" للإنسان - ينبغي أن تُؤخذ بعين الاعتبار خلال العمل التحليلي. لا ينبغي أن تصير مدمرة باختزالها في جذورها الجنسية البدائية، ولكن يجب أن تسهم في خدمة غايات بيولوجية، بصفتها عوامل بسيكولوجية مقبولة."
Psychologie analytique علم النفس التحليلي مقابل التحليل النفسي الفرويدي
إن المعايشة اليومية لحالات انخفاض المستوى العقلي والاكتئاب والعصاب، والذهان، والفصام أو تفكك الشخصية (الشيزوفرينيا)، والانطواء على الذات، والنكوص، إلخ.... أخصبت تجربة يونغ مع حالات مرضية، بل إن جرأة يونغ في أن يقترح نفسه وعدداً من أفراد أسرته وأصدقائه، كذوات مجرب عليها
وقد اختار يونغ هذا اللفظ ليميز طريقته التحلينفسية عن تلك الخاصة بفرويد. لقد تردد بين عبارات مختلفة مثل "علم النفس المعقد" أو "علم نفس الأعماق"، و لقد حصل استعمال هذا اللفظ للمرة الأولى خلال محاضرة حول التحليل النفسي قدمها يونغ في لندن بجمعية الطب النفسي في أوت 1913، تحت عنوان la Psycho-Medical Sociéty "المظاهر العامة للتحليل النفسي". فاستعمله حينئذ ليسمي "علم التحليل النفسي الجديد" الذي خرج من رحم "تقنية التحليل النفسي" وفي سنة 1914، بعد استقالته من رئاسة الجمعية الدولية للتحليل النفسي ، الذي كان أول رئيس لها طيلة أربع سنوات، شكل عدد من الأطباء، حول يونغ، ما سمي حينها مدرسة زوريخ للتحليل النفسي École de psychanalyse de Zürich بالقياس إلى مدرسة فيينا Ecole de Vienne. وفي سنة 1916، نشر يونغ، في آن واحد في نيويورك ولندن، سلسلة مقالات كتبها على امتداد الأربعة عشرة

الفروق بين سيجموند فرويد، وألفريد آدلر
تركزت الاختلافات الأساسية بين أدلر وفرويد على ادعاء أدلر بأن المجال الاجتماعي (الخارجي) مهم لعلم النفس مثل المجال الداخلي (الداخلي). تمتد ديناميكيات القوة والتعويض إلى ما هو أبعد من الجنسانية، ويمكن أن يكون الجنس والسياسة بنفس أهمية الرغبة الجنسية. كما لم يشارك فرويد معتقدات أدلر الاشتراكية. ولقد كان أدلر مهتمًا بالتغلب على ديناميكية التفوق / النقص وكان أحد أوائل المعالجين النفسيين الذين تخلصوا من الأريكة التحليلية لصالح كرسيين. يسمح هذا للطبيب والمريض بالجلوس معًا على قدم المساواة إلى حد ما. جادل أدلر لصالح الكلية، ورؤية الفرد بشكل كلي بدلاً من الاختزال، حيث يكون الأخير هو العدسة السائدة لعرض علم النفس البشري. كان أدلر أيضًا من بين أوائل علماء النفس الذين جادلوا لصالح النسوية والمحللة الأنثوية، حيث جادلوا بأن ديناميكيات القوة بين الرجال والنساء ضرورية لفهم علم النفس البشري.
تتجلى بين فرويد وادلر في الجدول التالي الذي يقارن بينها:582 tableوكتخريج عام تذكر تذكر الدكتورة زهرة إبراهيم أن قطيعة يونغ مع أستاذه فرويد سنة 1913 أدت الى ظهور قناعات مفارقة وفاصلة بين رؤاهما - لا سيما حول دور اللبيدو واللاوعي، والنظرية الجنسانية في تشكيل شخصية الفرد، وتوجيه حياته النفسية - قد خدم بشكل بناء تطور علم النفس، وعلم النفس التحليلي المعاصرين، وبالتالي اجتراح مفاهيم وسعت منافذ الولوج إلى سحيق النفس البشرية. ولاشك ان هذا الامر ينطبق أيضا على ادلر حيث توجد في جميع أنحاء العالم منظمات مختلفة تعمل على تعزيز توجهات أدلر نحو الرفاهية العقلية والاجتماعية. وتشمل هذه المنظمات اللجنة الدولية للمدارس والمعاهد الصيفية الأدلرية (ICASSI)، وجمعية أمريكا الشمالية لعلم النفس الأدلري (NASAP) والرابطة الدولية لعلم النفس الفردي. توجد معاهد وبرامج تعليمية في النمسا وكندا وإنجلترا وألمانيا واليونان وإسرائيل وإيطاليا واليابان ولاتفيا وسويسرا والولايات المتحدة وجامايكا وبيرو وويلز. ترك أدلر وراءه العديد من النظريات والممارسات التي أثرت بشكل كبير على عالم الطب النفسي. تُعرف هذه المفاهيم اليوم باسم علم النفس الأدلري.
***
علي عمرون – تخصص فلسفة

 

في المثقف اليوم