أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: دفاعاً عن الفلسفة.. رفض ادّعاءات ستيفن هوكينغ؟
ستيفن هوكينغ، عالم الفيزياء البريطاني (1942-2018) لطالما أربك المناخ الأكاديمي عبر تأليفة لكتاب (التصميم الكبير)، وتكراره للمقابلات مع المحاورين والصحفيين، في ان الفلسفة القائمة حاليا هي مضيعة للوقت وان الفلاسفة بلا فائدة. وبشكل أدق، هو كتب بان الفلسفة "قد ماتت" طالما هي لا تتماشى مع أحدث التطورات في العلوم وخاصة الفيزياء النظرية. في أوقات مبكرة اعترف هوكينغ بان الفلاسفة لم يحاولوا فقط مسايرة العلوم وانما أنجزوا من جانبهم احيانا مساهمات علمية هامة. مع ذلك، هم الان، ليس لهم أي تأثير وقد اصبحوا عقبة امام التقدم من خلال استمرارهم اللامتناهي في التفكير حول نفس القضايا القديمة المتعلقة بالحقيقة والمعرفة ومشكلة الإستقراء وغيرها. لو ان الفلاسفة أولوا المزيد من الاهتمام للادبيات العلمية لكانوا قد توصلوا الى ان تلك القضايا لم تعد حية لكل من يتابع آخر التطورات الفكرية. خياراتهم ستكون اما غلق المحل والتوقف عن التمثيلية الاستعراضية المسماة "فلسفة العلوم" او الاستمرار في نفس النهج المثير للسخرية في موقفهم من عدم مواجهة الحقائق وتغطية رأسهم بالرمال.
يمكن القول ان الصحفيين ذهبوا ليجدوا أنفسهم فلاسفة صديقين لوسائل الاعلام يجادلون في قضية معاكسة بطريقة قوية. وعلى العموم، اولئك في أجوبتهم بدوا قلقين للغاية من الحرص على توجيه مذكرة تصالحية، او منح اطروحة هوكينغ بعض المعيار للحقيقة كما حُكم عليها طبقا لمعايير جماعة العلوم الطبيعية.
يمكن القول ان الموقف يحتاج الى التأكيد القوي وربما أقل لباقة طالما ذلك يشبه انسحابا اجباريا لتغطية فوضى داخلية. بالاضافة الى ذلك، هناك سبب جيد لتأسيس دفاع أقوى بكثير على اسس مبدئية. هذا له علاقة بحاجة العلماء للتفلسف وما درجوا عليه من ميل للتفلسف السيء او ارتكابهم لأخطاء معينة يمكن تجنبها لو أولوا اهتماما لما يقوله الفلاسفة.
العلم هو فلسفي
البروفيسور هوكينغ ربما كان يتحدث الى الفلاسفة الخطأ، او انه التقط افكارا خاطئة حول انواع النقاش الذي يجري الان في فلسفة العلوم. انكاره لكامل المشروع كحقل بلا جدوى وزائف علميا يفشل في حساب العديد من الحقائق الهامة حول الطريقة التي كان يطبق بها العلم منذ بدايته الحديثة (القرن السابع عشر) وحتى التطورات في القرن العشرين مثل ميكانيكا الكوانتم والنسبية.
العلم تضمّن دائما عنصرا فلسفيا كبيرا، سواء على مستوى الإفتراضات المسبقة الأساسية المتعلقة بالدليل والسببية وبناء النظرية واستدلال صالح واختبارات الفرضيات وغيرها، او في مرحلة التأمل حين يتجاهل العلماء الإرشاد المقدم من فلاسفة ذوي اطلاع جيد لكي لا يقعوا في مختلف انواع المغالطات الخادعة او الخيال. تلك هي "أصنام المسرح" التي حذر منها فرنسيس باكون في عمله (الاورجانون الجديد عام 1620)، وهذه – وان كانت في مظهر فلسفي مختلف – الافكار المخادعة، طبقا لكانط، يمكن ان تقودنا الى ضياع الطريق نحو التحقيق الآمن او التحقيق الباحث عن الحقيقة. وبينما لا رغبة في إثقال العلم بأمتعة ميتافيزيقا كانط، نرى ان هذا التشخيص ينطبق على العديد من الافكار التأملية الحالية المطورة من جانب فيزيائيين نظريين بضمنهم مؤيدو نظرية الأوتار (هوكينغ أحدهم) وبعض التخمينات الكوانتمية الغير مألوفة. هؤلاء المفكرون يبدو غير قلقين وغير مبالين بحقيقة ان نظرياتهم غير قادرة على الإثبات او التأكيد، او التكذيب المطلوب حسب كارل بوبر وأتباعه. في النهاية، السمة الغريبة لهذه النظريات هي انها تؤكد وجود ذلك، وهي بذلك تتملص حاليا والى الابد من أي شكل من التأكيد بواسطة الملاحظة او التجربة.
نعم، العلم حقق بعض التقدم الملحوظ عبر المغامرة وراء حدود الدليل الواضح. لقد فتح في كثير من الأحيان آفاقا جديدة عبر اتّباع بعض خطوط التفكير التأملي التي تستلزم الإستعداد على الاقل حاليا للعمل بدون احترام وضمان الطريقة العلمية الجيدة. في الحقيقة، هذا الإعتماد على تبنّي نظري يتجاوز أقصى نطاق للإختبار التجريبي هو شيء ما يعزوه بعض الفلاسفة الى القوانين الفيزيائية الأساسية او الحقائق العلمية المسلّم بها على نطاق واسع. حسب رؤيتهم لا وجود هناك لدليل ذاتي تجريبي واضح طالما يتم دائما إبلاغ الملاحظات نظريا. وبنفس المقدار، النظريات العلمية هي دائما "ليست يقينية" بواسطة أفضل الأدلة المتوفرة، بما يعني ان الدليل هو دائما مفتوح للتفسيرات الاخرى العقلانية المساوية في ضوء بعض التعديلات في تلك الفرضيات المساعدة او في عنصر قابل للنقاش في العقيدة الخلفية.
رغم ذلك، لا احد يريد هنا الاندفاع بهذه الحجة بعيداً، لأنها اصبحت الآن بين بعض فلاسفة العلوم مادة للايمان، دوغما يتم الحفاظ عليها بثبات مثل أي مبدأ من مبادئ العقيدة الوضعية القديمة التي لم تتم إعادة بنائها. علاوة على ذلك، لقد ادّى ارتفاع نطاق الاتجاهات السوسيولوجية النسبية او القوية التي تستعمل اطروحات نظرية مثقلة ومفتقرة لليقين لإلقاء الشك على أي تمييز بين النظريات الصحيحة والزائفة، الفرضيات الصالحة وغير الصالحة، او بين العلم والعلم الزائف.
من المحتمل جدا انها افكار من هذا النوع – أفكار لها تربتها الأصلية في السوسيولوجي او الدراسات الثقافية او على العوالم الواسعة والطبيعية لفلسفة العلوم – التي شجعت البروفيسور هوكينغ لإصدار إعلانه. غير ان تلك ليست لها صلة وثيقة بالرؤية حول العنصر التخميني القائم في العديد من حلقات التقدم العلمي الكبير وكيف لعبت الفلسفة دورها التمكيني والتنظيمي المشترك في تلك العملية. بهذا نعني دورها كمصدر للأفكار الجديدة او الفرضيات النشطة وايضا كمصدر لمبادئ توجيهية بشأن قضايا مثل دليل تجريبي، صلاحية منطقية، فعل استقرائي، تأييد، تكذيب،اختبار فرضيات، استدلال سببي، وزن احتمالي وغيره. هذه تساعد في وضع العلم تحت السيطرة وتمنعه من اتخاذ انعطاف مغري نحو تأمل خالص غير راسخ او فنتازيا من نوع الخيال العلمي. ولاشك ان قدرة العلماء على القيام بذلك بانفسهم امر صحيح بما يكفي لكنها نتيجة طويلة الأمد لعمل الفلاسفة. منذ ارسطو كانت هناك علاقة قوية وان كانت متقلبة تاريخيا بين العلوم الطبيعية وتلك الفروع من الفلسفة التي عملت لتزويد العلم بفهم اوضح للاتجاهات المنهجية الخاصة بها. كذلك، كان هناك احيانا تحولا في المنظور الفلسفي الذي أحدث بعض التغيير التاريخي في النموذج العلمي مثل تلك التي بواسطتها حسب تعبير الفيلسوف الأمريكي كواين Quine، "حلّ كبلر محل بطليموس، وأينشتاين محل نيوتن، ودارون محل ارسطو".
لا خلاف على كراهية هوكينغ لفلسفة العلوم بالقدر الذي جرى تحفيزه بواسطة نموذج النسبية الكلي الذي كان كواين يسعى للترويج له. وفقا لرأي كواين (وكذلك توماس كن) يجب ان نفكر بتغيير النظرية العلمية باعتبارها تتضمن تحولا جذريا في المخططات المفاهيمية بحيث تجعل تاريخ العلم غير قابل للمسائلة عقلانيا وتجعل فلسفة العلم علاقة ضعيفة (نظرا لأنها تعتمد كليا) على علم الاجتماع وعلم النفس السلوكي. اذا كان هذا هو الموقف الوحيد المتاح لفلاسفة الحاضر نتيجة للفشل الواسع النطاق في التيار الفكري عندئذ فان هاوكنغ سيكون مبررا كليا في شنه هجومه المضاد على الفلسفة. لكن هذا يتجاهل التحوّل القوي نحو اتجاه واقعي وتوضيح سببي كان السمة الأكثر وضوحا لفلسفة العلوم أثناء العقدين الماضيين. وبدلا من ذلك الانحراف النسبي المبكر، يدعو هؤلاء المفكرون الى تصوّر قوي لأنواع طبيعية الى جانب هياكلهم الأساسية، خصائص، وميول سببية. من المهم جدا في السياق الحاضر ان اتجاههم يوفر سيطرة قوية في قضايا مثل: ما الذي يُحسب كتحقيق علمي وما الذي يجب ان يُصنف كحدس ميتافيزيقي او انه مجرد اختراع.
لذا فان فلسفة العلوم الآن تبدو وُضعت لتشغل أرضيتها الأصلية في العودة لتكون في تماس مع الفيزياء. هذه ليست فقط مسألة دلالية تافهة نسبيا حول العلوم الطبيعية كونها جرى وصفها بالفلسفة الطبيعية حتى وقت متأخر. بل انها مسألة ان النظريات العلمية - خاصة النظريات المفرطة في التأمل التي تشغل الفيزيائيين النظريين مثل هوكينغ – تستلزم كمية كبيرة من التفلسف الخفي الذي قد يعزز او لا يعزز مصالح المعرفة والحقيقة.
كان من الأفضل ادراك هذا اذا اردنا الاّ ننخدع بالإحتكام الكاذب الى سلطة العلم كما لو انها حازت على نوع من الدليل الذاتي الكامل او أمر لا جدال فيه يمكنه الادّعاء بنبذ الفلسفة كبقايا من ماضي ما قبل العلمي. خاصة عندما يبدي الفلاسفة احترامهم المبرر للعلم وانجازاته الهامة الى حد التخلي عن كل السلطات حول قضايا تكمن ضمن مجالهم التنافسي. وهكذا انها نتيجة مضادة لكل من يتعلق بهم الامر، فلاسفة وفيزيائيين، عندما يقترح كوين وغيره باننا يجب ان نرغب دائما بتغيير القواعد الاساسية للمنطق لكي تساعدنا بالعثور على مساحة لبعض النتائج الشاذة والمحيرة جدا. ربما يمكن ازالة مؤقتة لوخزة مفارقة ثنائية الموجة/الجسيم الكمومية عبر رفع القواعد الكلاسيكية للازدواجية او الوسط المستبعد، اي، تلك التي تتطلب قبولنا اما بالقول "الضوء ينتشر كموجات" او القول "الضوء هو تيار من الجسيمات" ولكن ليس كلاهما. غير ان الحل الإصلاحي التعديلي يؤدي الى ظهور مشاكل أكثر استعصاءً على الحل طالما تترك كل من العلماء والفلاسفة عالقين في عجز معياري كبير. بعد كل ذلك، لو انهم قبلوا اقتراح كوين عندئذ هم سوف يفتقرون الى معظم المصادر المفاهيمية الأساسية لتقييم الادّعاءات والنظريات او الفرضيات من حيث انسجامها المنطقي الداخلي او حتى فيما يتعلق بالمدى الذي تبقى فيه موحدة مع أشكال اخرى للتقاليد العلمية.
هنا مرة اخرى يسعى الفلاسفة للعمل بشكل أفضل وأيديهم على الزناد، ورفض هذا الخط المعين من المقاومة الضعيفة والتمسك بالإحترام الذي لا غنى عنه للقاعدة الكلاسيكية في ثنائية الحقيقة والزيف. ذلك لا يعني على الاطلاق انها قد تتمكن من تحقيق ما يبدو ان هاوكنغ يتصوره في الفقرة الأخيرة من كتابه عندما يندهش من فكرة كيف ان "المنطق المجرد" يمكنه طرح الوفرة الهائلة للمعرفة العلمية الحالية.هنا تحتاج المسألة الى توضيح – وهو ما يشهد عليه كتابه بشكل واضح – ان المعرفة المعنية نتجت عن مشروع تحقيق منضبط لكنه غالبا ما يكون مبتكرا للغاية حيث التفكير "المجرد" يلعب دورا حاسما منتجا مع انه بعيد عن كونه شاملا او مكتف ذاتيا.هذا المشروع يضم الاجراءات الاساسية للمنطق،مثل،الفكر الافتراضي الاستنباطي والاستدلال الاستقرائي على الدليل مع نطاق كامل من المصادر المساعدة مثل المقارنة، التجارب الفكرية، التخمين العقلاني، وإدراج كل تلك الاستدلالات في التفسير الأفضل والاكفأ.
على طول الكتاب يقدم هوكينغ أمثلة هائلة عن استعمال كل واحدة من هذه الادوات الفلسفية، الى جانب حالات اخرى يتجسد فيها العمل المشترك لتلك الادوات باعتبارها الطريقة الوحيدة التي توضح الكيفية التي استطاع بها العلم تحقيق النجاحات. ومع ذلك، هو مجبر بـ "المنطق المجرد" لعلمه العقائدي على دفع هذه الادلة مؤقتا بعيدا عن الانظار عند اعلان عدم اهمية الفلسفة كليا لأي شخص يمتلك رؤية عالمية مناسبة (مبلغة علميا). في الحقيقة، ربما من الافضل للفلاسفة تذكير العلماء كيف ان تفكيرهم المنتج كثيرا ما يستلزم تبادل معقد للبيانات التجريبية، النظريات، الفرضيات الصالحة،التخمينات القابلة للاختبار وحتى احيانا قصص خيال تأملية. ونفس الشيء يغيب عن تفسير هوكينغ دور حارس بوابة الفلسفة في اكتشاف تلك الحالات التي يتيه فيها العلم عندما تُرفع قيود معينة واضحة وحين يفتح التخمين العقلاني التجريبي الطريق لخيال خالص.
الى جانب هذا، من المفترض هناك نظريات قاطعة يتضح منها عند الفحص الدقيق، تكرار غير مقصود للأفكار الماضية من تاريخ الفكر الذي سبق وان انتُقد وبالنهاية نحي جانبا. كتاب هوكينغ يطرح نظريتين، واحدة في "M theory"ذات العلاقة بالأبعاد المتعددة – 11 بُعد – والتي تشكل الواقع النهائي الذي ما وراء الظهور رغم ان تصوراتنا الحسية محددة بثلاثة أبعاد اضافة الى عالمنا الزماني- المكاني المألوف. وفق هذا التفسير لا يمكن ان تكون هناك "نظرية لكل شيء" شاملة وواحدة من النوع المفضل لدى المتفائلين أمثال ستيفن وينبيرغ لكننا نأمل في الحصول على نطاق كامل لنظريات مفصلة خصيصا ومحددة بمنطقة معينة تشير فيما بينها نحو طبيعة وتركيب الواقع النهائي. النظرية الاخرى وهي مرتبطة بقوة بالاولى، هي فكرة هوكينغ عن "الواقعية المعتمدة على نموذج" model-dependent realism كاتجاه يتسامح (طبقا لميكانيكا الكوانتم) مع تأثير الملاحظة على الشيء المُلاحظ والذي مع ذلك يحتفظ باحترام كافي لموضوعية الحقيقة العلمية.
هنا يبيّن هوكينغ في جداله كل علامات الانجراف غير المنضبط بين مختلف المواقف المتبناة من جانب مختلف الفلاسفة بدءا من كانط وحتى الوقت الحاضر. هو صرف المزيد من الوقت على ما يبدو في إعادة صياغة غير مقصودة لحلقات في تاريخ الفكر المثالي ، حلقات ألقت ظلا طويلا على فلسفة العلوم في مرحلة ما بعد كانط. تلك الظلال لاتزال تكمن بكثافة بفكرتي هوكينغ الأساسيتين M theory و الواقعية المعتمدة على نموذج. هما كلاهما تبدوان وُضعا لإعادة فتح الإنقسام الكانطي القديم بين الشيء في ذاته المستقل عن الحواس "noumenal"وهو الواقع النهائي ما وراء معرفة الانسان، وعالم الظهور "phenomenal"الذي نحن مقيدين فيه بفعل حدود تصورنا وفهمنا. لذا، اذا كان هوكينغ صائبا في اتّهام بعض الفلاسفة بالجهل الجسيم بالعلم عندئذ هناك مساحة للمغالطة . لأنه وبنفس القدر من المساواة ان العداء او اللامبالاة نحو الفلسفة يمكن ان تقود احيانا العلماء، خاصة اولئك ذوي الموهبة التخمينية القوية، ليس فقط لإعادة اختراع العجلة وانما لإنتاج عجلات لاتسير بشكل مباشر وبالنتيجة تميل للإضرار بالمركبة.
ان الفهم القوي لهذه القضايا كما نوقشت من جانب الفلاسفة خلال العقود القليلة الماضية خفف من احتقار هوكينغ وايضا زاد من حدة نقده لمظاهر معينة للفيزياء النظرية الحالية. ما يجب ادراكه انه ليس الجرعة القوية من الواقعية الفلسفية ربما قصّت أجنحة التأمل هذه بل ان الفلاسفة ماهرون جدا في توجيه المسار عبر هذه المياه المتلاطمة، او في النجاح بالإبحار رغم كل الدوامات المتأثرة بإلتقاء العلم والميتافيزيقا والتأمل غير التقليدي. بعد كل ذلك، الفيزياء قد اعتمدت دائما على التفكير التأملي المنضبط الذي اخترعه الفلاسفة أساسا وطوّروه ومن ثم انتقدوه عندما تجاوزوا حدود التخمين المسؤول عقلانيا. تلك التجارب الفكرية التي تدّعي تاسيس اطروحة هامة ليست ساذجة بل تتعلق بطبيعة العالم المادي بوسائل من التفكير الصارم الذي يؤسس حقيقة (او يظهر زيف) أي ادّعاء او انكاره.
لاشك ان هناك مساحة للنقاش فيما اذا كانت هذه مواقف من اكتشاف علمي حقا يستحق الانتباه تحقق من خلال ممارسة التفكير القبلي ام انها كانت نوع من الحشو والتكرار المخفي . مع ذلك،هناك العديد من الأمثلة في تاريخ العلوم – بدءا من تجربة غاليلو الفكرية التي بيّنت خطأ ارسطو حول سقوط الاجسام الى عدد من النتائج الحاسمة المتصلة بالكوانتم – لكل من يجادل بشكل مقنع ان النتائج المتحصل عليها في "مختبر الذهن" يمكنها فقط اثارة إعجاب الفلاسفة الحريصين في الدفاع عن رقعتهم، هناك احساس يقف فيه المشروع العلمي او يسقط حول صحة الاستدلال الشرطي المضاد، أي، الاستدلال بما سيكون عليه الحال بالضرورة في حالة توفر شروط معينة او فرضيات معينة. في مظهره السلبي، هذا النوع من التفكير يستلزم تفكير في ما كان يمكن ان يحدث اذا لم تكن بعض العوامل ذات الصلة سببيا او ماديا فعالة في بعض الحالات. هوكينغ يثق باستمرار بمثل هذه المبادئ الفلسفية لكي يعرض ويبرر ادّعائاته حول التقدم الحالي وربما المستقبلي في الفيزياء. بالطبع هو مرحب به جدا لكن من الأفضل ان يعترف بمصادر لطرق التفكير وبروتوكولات حجج صالحة تستلزم أرضيات فلسفية وعلمية متميزة.
هذا يعيدنا مجددا الى النقطة التي تحفز معظم المقاومة من جانب العلماء – الفيزيائين النظريين خصيصا- الذين في الحقيقة يكسبون الكثير من أي زعم بمطالبة الفلسفة للاستماع في مثل هذه المسائل.ذلك ان العلماء يميلون للتيه عندما يبدأون التأمل بقضايا تتجاوز ليس فقط أفضل دليل حالي مُلاحَظ وانما حتى نطاق ما يمكن تصوره حاليا من حيث الاختبار. وللحديث بوضوح اكثر: احدى المهام المفيدة لفيلسوف العلوم هو معالجة الأخطاء والالتباسات التي يقع بها العلماء من الفيزيائيين النظريين عندما يُطلق لهم العنان للتأمل العقلي.
في كتاب نظرية الكوانتم والرحلة من الواقعية هناك حالات عديدة لتوضيح المسألة في أقوال منظّري الكوانتم بدءاً من نيل بوهر الى المناصرين الجدد لنظرية "تعدد الاكوان" ومنهم هاوكنغ.
استنتاج
لاشك ان هناك مقدار من الفلسفة البليدة والسيئة التعريف او ذات رؤية ايديولوجية التي اما ترفض او تحاول لكنها تفشل في الإنخراط باهتمامات العلوم الحالية. يمكن للمرء فهم عدم صبر هوكينغ او سخطه الصريح من بعض المفاهيم غير الناضجة التي طرحها الرافضون والذين سيكونن منخرطين ايضا على حد سواء. ومع ذلك، فانه من الأفضل له ان ينظر الى الدور المثبت تاريخيا والذي اصبح في الوقت الحاضر أكثر حيوية من أي وقت مضى للفلسفة باعتبارها فرعا نقديا. انها تستمر في تقديم أنواع من المحاججة التي يتطلبها العلم لكي تزيل ليس فقط أوهام اليقين الساذج او الدليل الذاتي الحدسي وانما ايضا الإلتباسات التي يقع بها الفكر التأملي عندما ينفصل عن أي مناشدة مقيدة للمبادئ التنظيمية مثل الإستدلال على أفضل تفسير. يمكن لنا الإسترشاد باقتباس من كانط من سياق مختلف لكنه ذو صلة:
فلسفة العلوم بدون مدخلات علمية تكون فارغة، بينما علم بدون توجيه فلسفي يكون أعمى.
***
حاتم حميد محسن
.....................................
المصادر
1- ستيفن هوكينغ و ليونارد ملودينو، التصميم الكبير: أجوبة جديدة لأسئلة الحياة النهائية، مطبعة بانتام،2010.
2- كرستوفر نورس، نظرية الكوانتم والرحلة من الواقعية: ردود فلسفية لميكانيكا الكوانتم (دار روتلج،2000).
3- ديفد بابينو، فلسفة العلوم،مطبوعات جامعة اكسفورد،1996.