أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: وقفة مع النظريات الثلاث للحقيقة
هناك ثلاث نظريات للحقيقة (truth) وهي نظرية المطابقة للواقع، و نظرية التماسك والثالثة النظرية البرجماتية، سنتطرق لكل من هذه النظريات تباعا:
1- نظرية المطابقة: وهي النظرية هي الأكثر شيوعا والأوسع انتشارا في فهم طبيعة الصدق والزيف. هذه النظرية تجادل بان الصدق "truth" هو كل ما يطابق الواقع. الفكرة المطابقة للواقع هي صحيحة (صادقة) بينما الفكرة التي لا تطابق الواقع هي زائفة. من المهم ملاحظة ان الصدق هو ليس خاصية للحقيقة الموضوعية "fact". هذا قد يبدو متناقضا في الوهلة الاولى، لكن التمييز جرى هنا بين الحقائق الموضوعية facts والمعتقدات. الحقيقة الموضوعية هي مجموعة من الظروف الموجودة في العالم بينما العقيدة هي رأي حول تلك الحقيقة. الحقيقة الموضوعية لا يمكن ان تكون اما صادقة او كاذبة، انها ببساطة تجسيد للطريقة التي يبدو فيها العالم. اما العقيدة، فهي قادرة على ان تكون صادقة ام كاذبة لأنها قد تصف او لا تصف العالم بدقة (1).
في ظل نظرية المطابقة، نحن نصف عقيدة معينة بانها "صادقة" وذلك بسب كونها تتطابق مع تلك الحقائق حول العالم. وهكذا، فان العقيدة بان السماء زرقاء هي "صادقة" بسبب حقيقة ان السماء هي زرقاء. والى جانب العقائد، نستطيع اعتبار الأقوال والفرضيات والجُمل، قادرة على ان تكون صادقة او كاذبة. الفكرة بان الصدق يكمن في كل ما يماثل الواقع يمكن تعقّبها الى زمن افلاطون وارسطو. لكن النقّاد وجدوا لاحقا مشكلة جرى التعبير عنها بمفارقة يوبوليدس Eubulides،وهو أحد التلاميذ في مدرسة ميجارا الفلسفية والتي كانت في تضاد مع افكار افلاطون وارسطو.
طبقا ليوبوليدس، ان نظرية مطابقة الحقيقة تتركنا في مأزق عندما نواجه أقوال مثل "انا كاذب" او "ما أقوله هو كذب". هذه أقوال او بيانات، وعليه يمكن ان تكون صادقة او كاذبة. لكن، لو كانت صادقة بسبب كونها تتطابق مع الواقع، عندئذ هي تكون زائفة، واذا كانت زائفة بسبب كونها تفشل في مطابقة الواقع، فهي يجب ان تكون صادقة. وهكذا، لا يهم ما نقول حول الصدق او الزيف في هذه الأقوال، نحن حالا سنناقض أنفسنا. هذا لا يعني بان نظرية المطابقة خاطئة او بلا فائدة، وفي الواقع، من الصعب التخلي عن هكذا فكرة واضحة بديهيا في ان الصدق يجب ان يطابق الواقع. ومع ذلك، النقد أعلاه يجب ان يشير الى انه من المحتمل ان لا تكون نظرية المطابقة توضيحا شاملا لطبيعة الصدق. يمكن اعتبارها وصفا منصفا لما يجب ان يكون عليه الصدق، لكنها ليست وصفا كافيا للطريقة التي يعمل بها الصدق في أذهان الناس وفي المؤسسات الاجتماعية.
نظرية التماسك The coherence Theory of Truth
وهذه هي النظرية الثانية من حيث الانتشار بعد نظرية المطابقة وهي قد تبدو وصفا دقيقا للطريقة التي يعمل بها تصوّرنا للصدق. وبعبارة مبسطة: العقيدة تكون صادقة عندما نكون قادرين على دمجها بطريقة منطقية ومنظمة في نظام من العقائد أكبر واكثر تعقيدا، وبتبسيط اكثر، العقيدة تكون صادقة عندما تتناسب مع مجموعة من عقائدنا الاخرى دون إحداث اي تناقض.
احيانا هذا يبدو طريقة غريبة لوصف الصدق. العقيدة يمكن ان تكون وصفا غير دقيق للواقع ومع ذلك تتناسب مع نظام معقد ايضا غير دقيق في وصف الواقع. طبقا لنظرية التماسك، ان العقيدة غير الدقيقة لاتزال تسمى "صادقة" حتى عندما لا تصف حقا الطريقة التي يبدو فيها العالم. فهل سيكون لهذا معنى؟
السبب هو لأن الأقوال لا يمكن التحقق منها في معزل عن العالم. عندما نختبر فكرة، نحن ايضا نختبر في نفس الوقت مجموعة كاملة من الافكار . فمثلا، عندما انت تلتقط كرة بيدك ثم ترميها، فان ما يُختبر هو ليس فقط العقيدة حول الجاذبية وانما ايضا عقائدنا حول مجموعة من اشياء اخرى من بينها ادراكنا البصري. لذا، اذا اختُبرت الاقوال فقط كجزء من مجموعة أكبر، عندئذ يمكن للمرء ان يستنتج بان القول يمكن تصنيفه كـ "صحيح" ليس بسبب انه يمكن التحقق منه مقابل الواقع وانما بسبب امكانية دمجه ضمن مجموعة معقدة من افكار يمكن اختبارها بمجملها مقابل الواقع. في هذه الحالة، نظرية التماسك ليست بعيدة عن نظرية المطابقة والسبب هو انه اذا كانت الاقوال الانفرادية يمكن الحكم على صحتها او زيفها بناءً على قدرتها على التماسك مع نظام اكبر، فانه يُفترض ان ذلك النظام هو الذي يتطابق بدقة مع الواقع. وبسبب هذا، فان نظرية التماسك تنجح فعلا في التقاط شيء هام حول الطريقة التي نتصور بها الصدق في حياتنا اليومية. ليس غريبا ان نرفض شيئا باعتباره زائفا لأنه يفشل في التماسك مع نظام من افكار نحن واثقون من صحتها. نعم، ربما النظام الذي نفترض صحته هو تماما غير صحيح، لكن ثقتنا به تكون معقولة طالما يستمر في النجاح وقادر على إجراء تعديلات بسيطة في ضوء بيانات جديدة.
النظرية البرجماتية للحقيقة
هذه النظرية تقرر ما اذا كانت العقيدة صحيحة ام لا بناءً على فائدتها التطبيقية في العالم . اذا لم تكن كذلك، فهي ليست صحيحة. وكما في نظرية التماسك للحقيقة، الصدق في هذا المعنى لا علاقة له بالطريقة التي يبدو فيها العالم حقا وانما هو فقط وظيفة لإمكانية استعمال الفكرة كنموذج لعمل تنبؤات مفيدة حول ما سيحدث في ذلك العالم. وبالنتيجة، الحقائق البرجماتية يمكن تعلّمها فقط من خلال التفاعل مع العالم: نحن لا نكتشف الحقيقة فقط بالجلوس وحيدين في غرفة والتفكير بشأنها.
هناك بالطبع عدد من المعارضات الواضحة يمكن إثارتها بوجه النظرية البرجماتية. احدى تلك، ان فكرة "ما يعمل" هي غامضة جدا. ماذا يحدث عندما تعمل العقيدة بطريقة ما لكنها تفشل في اخرى؟ فمثلا، العقيدة بان شخصاً ما سوف ينجح في عمله قد يعطيه قوة سايكولوجية مطلوبة لإنجاز الكثير لكن في النهاية، هو قد يفشل في هدفه النهائي. هل عقيدته كانت "صادقة"؟
كذلك، عندما "تعمل" العقيدة في هذا المعنى، لماذا نسميها "صادقة"؟ لماذا لا نسميها "مفيدة"؟ العقيدة المفيدة ليست بالضرورة نفس الشيء كعقيدة صادقة، وما هو أسوأ، هو ان الناس لا يستعملون عادة كلمة "صادقة" في المحادثات العادية لتعني مفيدة. فمثلا، لدى معظم الافراد، القول "من المفيد الاعتقاد ان صديقي مخلص" لا يعني ابدا نفس القول "من الصدق ان صديقي مخلص". نعم، ربما العقائد الصادقة هي ايضا عقائد مفيدة، لكن ليس دائما. وكما يذكر نيتشة، احيانا اللاصدق اكثر فائدة من الصدق.
حاليا، البرجماتية هي وسيلة سهلة للتمييز بين الصدق واللاصدق. مع ذلك، بالنسبة لتلك الحقائق التي هي صادقة يجب ان تعطي نتائجا يمكن التنبؤ بها في حياتنا. لكي نقرر ما هو الواقعي وما هو غير الواقعي، فليس من الغريب التركيز اساسا على تلك الحقائق العملية (التي تعمل).
***
حاتم حميد محسن
...................
الهوامش
(1) يميّز البعض بين الحقيقة الموضوعية والصدق باعتبار ان الحقيقة الموضوعية fact هي كمية من المعلومات يمكن التحقق منها بالدليل. فهي عبارة عن أحداث معينة او مواقف او ظواهر يمكن ملاحظتها وقياسها، وبالتالي يمكن اثبات صحتها او بطلانها. مثال على ذلك القول ان "درجة الحرارة خارج الغرفة 25 درجة مئوية" هو حقيقة يمكن اثباتها بجهاز القياس. اما الصدق truth فهو مفهوم أوسع يتجاوز حقائق معينة. انه يتصل بالمعتقدات والآراء والادّعاءات، فهو ذاتي يعتمد على عنصر الايمان. كل حقيقة موضوعية هي صدق ولكن ليس كل صدق هو حقيقة موضوعية.