أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: قيم الليبرالية الجديدة ومظاهر الفساد والاحتيال؟
نرى احتيال الشركات سائدا في العديد من الاقتصاديات الليبرالية سواء في الدول العالية الدخل ام في الدول الفقيرة. فضيحة الغش في الانبعاثات الملوثة لشركة فولكس فاجن هي ربما الأكثر إثارة للدهشة، لكن صناعة السيارات هي فقط واحدة من عدة قطاعات، بما في ذلك المصارف وصناعة الأسلحة، حيث اصبحت الفضائح امرا شائعا. ممارسات وقيم معينة في دول الشمال كان الناس في السابق يعتبرونها صادمة نراها الان اصبحت مظهرا روتينيا في الحياة العامة.
القطاع المالي، سواء كان في الولايات المتحدة او بريطانيا او ألمانيا، اصبح يتميز الآن باحتيال مكثف ومتصاعد. يمكن القول، ان أصحاب المصارف ومدرائها لم يصلوا الى هذه الحالة من اللاشعبية في أي وقت مضى مثلما هم الان. ليس من الصعب معرفة السبب. الناس الاكثر ضعفا في المجتمع عانوا الكثير نتيجة لتخفيض الانفاق في القطاع العام في اوربا الغربية. يمكننا رسم علاقة مباشرة بين هذا التخفيض في الانفاق العام وعمليات انقاذ البنوك (دفع اموال هائلة لها) التي جرت بعد عام 2008 والتدخل الحكومي لإنقاذ السوق.
الانتقادات الشعبية للمصارف والمصرفيين نجدها على الصفحات الاولى لصحف اليمين التقليدية، الصحف التي كانت نادرا ما تهتم بنقد الرأسمالية.
نقد أخلاقي
هذه الانتقادات ليست تهديدا اساسيا للمكانة الحقيقية لأصحاب البنوك. هم وغيرهم من النخب المؤثرة يمكن ان يقاوموا مثل هذه الانتقادات بدون ان يكون لها تأثير كبير لأن نظام السلطة الذي يحافظ عليهم ليس حساسا امام هذا النوع من النقد الاخلاقي الرمزي. هذا النظام يطرح عددا مكثفا من الادّعاءات الأخلاقية التي هي اكثر تعقيدا (ويصعب اكتشافها او فك رموزها) من اسئلة مثل ما اذا كان المصرفيون يستلمون كثيرا او قليلا، او ما اذا كانوا غير اخلاقيين. يمكن القول ان اصحاب المصارف لديهم بوصلة أخلاقية واضحة وعالية التعقيد ترشدهم في أعمالهم اليومية. هذا يمكن ان يطبق بشكل واسع ايضا، وينسحب على مهن اخرى مثيرة للجدل مثل المضاربون على الملكية، أصحاب الاملاك، السياسيون، رؤساء الشركات التنفيذيون، ورؤساء الاتحادات الرياضية. هذا مخالف للبديهة (كيف يمكن ان يصبح المصرفيون اخلاقيين؟). ولكن ليس من المفيد توضيح الخداع والاحتيال في الاقتصاد الحالي بصوت خافت وخجول بأسباب تتعلق بضعف الأخلاق او غيابها. هذا الموقف بالأساس يرى ان الناس الذين يؤذون الآخرين من خلال ممارسات احتيالية، هم فقدوا اخلاقهم او ليس لديهم اخلاق اطلاقا. وفي بعض التحليلات الأقل تعقيدا، جرى افتراض انه في المعركة بين الخير والشر، كان الفساد هو شيء "سيء"، او خلل مرضي، او مظهر لشيء ما خاطئ في ادارة الدولة.
ترسيخ النظام
يمكن القول، ان كل من رؤساء الوزراء البريطانيين الأخيرين دعا في مختلف الاوقات لرأسمالية اكثر أخلاقية (توني بلير وغوردن براون)، او قطاع أعمال أكثر أخلاقية (ديفد كاميرون) استجابة لعدد من المشاكل بما فيها الرشوة ونشاطات مالية عالية الخطورة، وتثبيت سعر الفائدة وارتفاع اجور مدراء الشركات. هذه الفكرة في ان هناك حاجة الى اخلاق اكثر او اقل كانت معيبة جدا.
الممارسات الاقتصادية (بما فيها استخدام الخداع، التخويف، العنف اثناء كسب العيش) جرى دعمها سلفا بقواعد أخلاقية معينة وبفهم وأفضليات وادّعاءات. بكلمة اخرى، الاقتصاد الليبرالي الجديد الحالي يشكل فعلا نظاما أخلاقيا سواء أحببنا الأخلاق السائدة فيه ام لم نحب.
نستطيع تعريف الليبرالية الجديدة هنا كوسيلة لتعزيز حكم السوق، وتحويل القوة الاقتصادية من القطاع العام الى الخاص. وفي اثناء تطبيق النماذج الليبرالية الجديدة للنمو، تُنفق كمية هائلة من طاقة الحكومة. قيل للناس ان دعم الشركات الكبرى هو مطلوب لضمان المستقبل، وان ما هو جيد للشركة هو جيد للمجتمع. التأكيد البلاغي على أهمية السوق الحرة ومرونة العمالة والحرية ومجتمعات منفتحة والعدالة، كل هذا يُضاف الى القواعد الأخلاقية للحياة اليومية. باختصار، الليبرالية الجديدة مدعومة بقيم اجتماعية معينة وقواعد ومعتقدات. اذاً كيف يتم قياس هذا الصالح العام؟ اولا، الليبراليون الجدد يطرحون ادّعاءات كبرى دفاعا عن ما يسمونه حرية اقتصادية. هذا الادّعاء يأتي عموما من موقف مناهض للدولة وللجماعية ويؤكد على الحرية الاقتصادية للأفراد. الحريات النقابية الجماعية والحقوق الاجتماعية هي من هذا المنظور، يُنظر اليها كأعداء للحرية عندما تتدخل الدولة لمصلحة مصالح اجتماعية عامة أوسع. ادّعاءات كهذه هي معيارية طالما هي تسعى لتصوير السياسات الليبرالية الجديدة كأنها تصب في المصلحة العامة (تقود المنافسة والنمو والصادرات)، وتحقق مساهمات لخير المجتمع. وهكذا، خطاب الليبراليين الجدد لحرية السوق ببساطة يربط المصلحة العامة بمصلحة السوق والقطاع الخاص.
اتجاه سيء
هذه الأفكار تسعى لتتسلل الى كامل الرؤية الاخلاقية للعالم. لذلك، فان إعادة الهيكلة للّيبرالية الجديدة هي اقتصاد سياسي ومشروع أخلاقي يستهدف ليس فقط الاقتصاد وانما ايضا المجتمع والثقافة، بهدف إعادة خلق مجتمعات سوق رأسمالية اكثر سخافة من أي وقت مضى. وكما ذكرت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر في مقابلة مع صحيفة الصندي تايمز: "الاقتصاد هو طريقة لكن الهدف هو تغيير الروح". أي نوع من الروح تريده تاتشر للناس؟ روح مرتكزة على الفردية المادية والنظرة القائمة على المصلحة الذاتية.
اذاً، لو أردنا فهم لماذا ظروف الفساد تبدو ناضجة الان في جميع الدول الرأسمالية وفي كل مستويات المجتمع، لابد من الاعتراف بانه ليس بسبب نقص الروح او غياب الاخلاق، وانما لسبب يكمن في صلب المشروع الليبرالي الجديد، توجد هناك مجموعة واضحة من القواعد والقيم والمواقف جرى تشجيعها بقوة، وصوّت الناس لها، والتي يجدون الآن من الصعب جدا تبريرها او فهمها.
***
حاتم حميد محسن