أقلام فكرية
عبد الباسط هيكل: نصر حامد أبو زيد.. قراءة في مشروعه الفكري (4-4)
ركّز نصر علي التأويلية لكشف علاقة المفسر بالنص، فالتأويل -من منظور نصر- “المصطلح الأمثل للتعبير عن عمليات ذهنية على درجة عالية من التعمق في مواجهة النصوص والظواهر”.([1]) مستهدفة الوصول إلى المغزى دون القطع بأنها الحقيقة الكامنة في النص، وليس التأويل بتلك الدلالة بدخيل على التراث العربي؛ فقد عرفته الدراسات القرآنية واللغوية والنقدية، وإن كانت التأويلية عند نصر اكتسبت أبعادا جديدة من الهرمنيوطيقا في نسختها الغربية، فتأويلية نصر لا تخلو من حضور قوي للهرمنيوطيقا في بعض جوانبها عند ديلثى وهيتش وغيرهما من منظري الهرمنيوطيقا في الغرب، فهي إحدى منطلقات نصر نحو استحداث منهج جديد للعقل العربي في التعامل مع التراث، والتغلب على معضلة فهم النص، فلا يمكن لقارئ تأويلية نصر أن يفهمها دون التعرف على مفاهيم اللغة والنص وعملية الفهم والتفسير والتجربة والتاريخ وجدلية الثابت والمتغير، وعلاقة الجزء بالكل في التأويلية الغربية، فتلك العناصر اختمرت في نفس وفكر نصر منجزة تأويليته في نسختها العربية، فدشَّن نصر لتأويليته في نسختها العربية منطلقا من حوار جدلي مع النظرية في بيئتها الغربية عند أبرز كتاباها.
ولا يخلو توصيف نصر منهجَه في التعامل مع النظرية بـ (بالحوار الجدلي) من محاولةٍ لاستفزاز العقل بجمعه بين نفيضين الحوار والجدل، إلا أنّه علّل ذلك بأنّ النظرية قادمة من الغرب، فهي جزء من علاقتنا الجدلية بالغرب، فبعيدا عن الانكفاء على الذات، والتقوقع داخل أسوار تراثنا المجيد، وبعيدا عن الاستيراد والتبنّي المُطلق يأتى منهجه نقطة وسط بين الانفتاح الكامل والاكتفاء الكامل، فمنهجه كما يقول: “هو الأساس الفلسفيّ لأيّ معرفةٍ، ومن ثمّ لأيّ وعيٍ بصرف النظر عمّا نرفعه من شعارات أو نتبنّاه من مقولات ومواقف، إنّ أيّ موقف يقوم على الاختيار، والاختيار عملية مستمرّة من القبول والرفض”.([2])
وقد ارتبطت تأويلية نصر بالتراث بعلاقة متبادلة؛ فكلّ منهما أسهم في تشكيل الآخر، وتكوين رؤية مُعرِّفة به على النحو الآتي:
أولا: نظر نصر أبو زيد إلى التراث كوحدة كليّة؛ “فالتراث منظومة فكرية واحدة، تتجلى في أنماط وأنساق جزئية متغايرة في كلّ مجال معرفي خاصّ”.([3]) فتتجنّب تأويلية نصر فصل الأفكار الجزئية عن سياق منظومتها الفكرية العامة، فتعدّد التراث بين اللغة والنقد والبلاغة والعلوم الدينية؛ لا ينفى الوحدة في إطارها النّظري العام، فلم يكن سيبويه، مثلا، وهو يضع البناء النّظري، والقوانين الكليّة للغة العربية، معزولا عن إنجازات الفقهاء، والقرّاء، والمحدثين، والمتكلمين، ولم يكن عبد القاهر الجرجاني يتحدّث عن المجاز، منفصلا عن جدل المنشغلين بعلم الكلام، وأصول الفقه، حول التّأويل والتعطيل للمتشابه من آي القرآن الكريم، وكذلك، لا تنفصل معضلة تأويل النصّ عن غيرها من قضايا أكثر عُمقا تتّصل بعلاقة العالم بالله والإنسان، ومصدر المعرفة بين التوقيف من الله وحيا والاكتساب فهما وعقلا، وما سبق ذلك من اختلاف حول كون اللغة توقيفيّةً علّمها الله لآدم أم وضعيةً تعارف على وضعها الإنسان التي شهدت خصومة بين ثلاث اتجاهات المعتزلة المنطلق التأويلي لنصر وليد دراسات وتعايش طويل مع المعتزلة.
فالتراث كلّه كتلة واحدة مترابطة، وإن باتت حديثا فروعا منفصلة لا ينتبه الباحثون إلى طبيعة توحّدها، فتأويلية نصر ترى أنّ أيّ قراءة واعية للتراث، قراءة تصل الحاضر بالنصّ، وتربط النصّ بمختلف المجالات المعرفية للتراث.
“هناك فارق كبير بين الإيمان (النظري) بوجود علاقات تنتظم المجالات المعرفية للتراث، وبين التحقيق (العيني) من التأثيرات المتبادلة؛ التي تكشف عن وحدة المنظومة الفكرية للتراث. وهذا التحقّق العيني الملموس يجب أن يكون أحد هموم القراءة الواعية للتراث في أيّ مجال من مجالاته، فالقراءة التي تعكف على مجال ما عكوفا منغلقا تعجز عن اكتشاف الدلالات الحقيقية لمنجزاته المعرفية”. ([4])
ثانيا: تنطلق التأويلية، عند نصر، من موقف التساؤل الدائم، والمراجعة المستمرّة، حتى تكون القراءة للتراث منتجةً، وذلك بجعل القراءة تتحقّق في الحاضر، من خلال الانطلاق من وجود ثقافي تاريخيّ إيديولوجي، ومن أفق معرفي محدّد يبدأ من طرح أسئلة تبحث عن إجابات… “فموقف (التساؤل المستمر) و(المراجعة الدائمة) قادر – دائما- على تصحيح الأخطاء، والتقدُّم نحو مزيد من الاجتهاد. هكذا، تصبح القراءة فعلا مستمرا لا يتوقّف، يبدأ من الحاضر والرّاهن، وينطلق إلى الماضي والتّراث، ثم يرتدُّ إلى الحاضر مرةً أخرى، في حركة لا تهدأ، ولا يقرُّ لها قرار. لكنّها الحركة، التي تؤكد الحياة وتنفى سكون الموت. إنها حركة الوجود والمعرفة في نفس الوقت نفسه”([5]).
وتجد لهذا صدىً عند عبد القاهر؛ إذ يبدأ صوغ قضيته، ومناقشة فكرته، بطرح سؤال ينطلق منه.. ففي قضية إعجاز القرآن، التي تمثّل شُغله الشاغل، لا يقنع بآراء السابقين عليه في القول بالإعجاز دون ذكر الحجّة، وبيان العلّة، فيتناول القضية من خلال سؤال ينطلق منه مفاده: ما الذي يميّز كلاما من كلام؟ وما الصفة الباهرة، التي بهتت العرب في النصّ القرآني، فأحسّوا بالعجز إزاءه، على الرغم من فصاحتهم وقدرتهم البيانية: “هل سُمع قطُّ بذي عقلٍ ومُسكة استطاع أن يخرس خصمًا له قد اشتط في دعواه بكلمة يجيبه بها، فترك ذلك إلى أمور يُسفه فيها، ويُنسب معها إلى ضيق الذرع والعجز؟ أم هل عُرف في مجرى العادات، وفي دواعي النفوس ومبنى الطبائع، أن يدع الرجل ذو اللب حجته على خصمه، فلا يذكرها، ولا يفصح بها؟”([6])
ثالثا: تنفر التأويلية، عند نصر، من منطقة (اللاتعليل)، فلا يكتفى بالأقوال المرسلة، ويحرص على التفصيل في معرفة الخصائص، فالاختزال من آفات الخطاب الديني، وإحدى إشكاليات تحليل النصوص التراثية، “فاختزال الفكرة في كلمة يحول المعرفة إلى كبسولات تُغنى عن الدخول في التفاصيل استمرارا لعصر التلخيصات، التي كانت إيذانا بأفول عصر التقدُّم والازدهار في تاريخ المسلمين”([7]).
ويلتقي نصر، في بحثه عن العلل، واهتمامه بالتفاصيل، وعبد القاهر الجرجاني، الذي أنكر على القدامى عموميّة القول بلا تفصيل، وإصدار الحكم بلا تعليل، فيقول: “لا يكفي أن تقولوا: إنه خصوصيّةٌ في كيفيّة النّظم، وطريقةٌ مخصوصةً في نسَقِ الكلِمِ بعضها على بعض حتى تصفوا تلكَ الخصوصِيّةٌ وتُبيَّنوها، وتذكروا لها أمثلةً، وتقولوا: مثلَ كيت وكيت. ([8])
ولم تكن لتأويلية نصر أن تسلم من الخصومة مع المدرسة الحرفية القديمة والحديثة إذ تتبنى نمطًا فكريا تقليديا يرتكز على الثبات، والتثبيت، والدفاع عن الماضي بمضمونه مهما كان صادما، أو متناقضا مع العقل، وهذا من شأنه تزييف معرفة الحاضر بماضيه، وسدّ الطريق أمام مستقبل يتّخذ من اللحظة الحاضرة نقطة مراجعة وتقييم للماضي، الذي يؤدّي الوعي فيه إلى حُسن التخطيط للمستقبل. مما دفع إلى احتدام الصراع بين تأويلية نصر، والمدرسة التقليدية؛ لأن تأويليته تنال من أفكارهم التي توحِّدُ بين الدين والفكر، وتُلغى المسافة بين الذات والموضوع، وتحوّل النصوص الثانوية إلى نصوص أوليّة لها من القداسة ما للنصوص الأصيلة من الحسم الفكري والقطعي، وهذا يُفسّر الهجوم الذي تعرّض له في حياته وبعد رحيله.
عاش نصر قرابة أربعين عاما من البحث والدراسة مهموما بإنتاج وعي علمي بالمعنى الديني، منذ كان معيدا في تخصص الدراسات الإسلامية بكلية الآداب جامعة القاهرة؛ حتى وافته المنية وهو عميد المعهد الدولي للدراسات القرآنية بإندونيسيا- يطرح بعض الأسئلة عن طبيعة النص الديني، ويسعى لإنجاز منهج للتأويل، يفتح معنى النص للإجابة عن أسئلة معاصرة، منطلقا من الإنجازات التراثية والنهضوية متواصلا مع الفكر الإنساني، وكانت أمنيته أن يُكتب على قبره: “علامات طريق للزائرين وتعويذة تقيهم من خوف المقابر، مقابر العقول”.
***
أ.د عبد الباسط سلامة هيكل
.................................
([1]) إشكاليات القراءة وآليات التأويل. ص١٩٢.
([2]) إشكاليات القراءة وآليات التأويل. ص١٤.
([3]) السابق، ص٥.
([4]) السابق، ص٦،٥.
([5]) إشكاليات القراءة وآليات التأويل. ص٩.
([6]) الجرجاني، عبدالقاهر دلائل الإعجاز تحقيق محمود شاكر، دار المدني، جدّة، ط٣، ١٤١٣هـ -١٩٩٢م، ج١، ص ص٥٨١-٥٨٠.
([7]) أبو زيد، نصر حامد، التفكير في زمن التكفير ضد الجهل والزيف والخرافة، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط٢، تموز، يوليو١٩٩٥م، ص ص٨٥-٨٦.
([8]) دلائل الإعجاز،ج١، ص٤٨.