أقلام فكرية
سامي البدري: الفلسفة وقبة هيكل النجاة
إذا كانت الفلسفة، في ماضيها أو مجد تألقها، قد أفلحت في التأطير والإضاءة لبعض الجوانب، فإنها خسرت معركة تحريرها الأساسية لبقعة الأرض التي نشأت بسببها (الحرب) التي وجدت من أجل خوضها، والتي اختصرها الفيلسوف سورين كيركغارد في السطور التالية من روايته المعنونة مراجعة: (يغرس الواحد منا اصبعه في التربة فيعرف الأرض التي ينتمي إليها من الرائحة التي يشمّها، وأغرس أنا اصبعي في الوجود فينم عبيره عن اللاشيء، فأين أنا وكيف جئت إلى هنا؟ وما هذا الشيء المسمى بالعالم؟ كيف وصلت إليه؟ لماذا لم أسأل ولماذا لم أؤهل لأتطبع بطرقه وعاداته؟ قذفت إلى جوعه وكأني اشتريت من خاطف ملعون أو تاجر أرواح.. كيف أصبحت مهتماً به؟ هل هو أمر طوعي؟ وإذا كنت مرغماً على تمثيل دور فيه، فأين هو المخرج؟ أحتاج أن أراه!)، وهذه هي بقعة الأرض موضع النزاع التي لم تحرر، وهي مازالت بيد المجهول الذي يقبض عليها بيد من حديد؛ والأهم هو إننا مازلنا لم نحررها، بل وتتجدد كل يوم وتتضاعف حاجتنا إلى تحريرها! وبسبب عدم تحريرها أو عجز الفلاسفة عن ذلك، اقترح افلاطون انتحار الفلاسفة، ولكن الفلاسفة وبدل انتحارهم – بالمقصد المجازي طبعاً – خنقوا الفلسفة أو حاولوا حرفها عن هدفها، كل منهم حسب رؤيته.
ومقولة كيركغارد السابقة تعني ببساطة أن النظام الذي اقترحه هيجل لم يكن أكثر من محاولة أخرى لخداع النفس، وبالفعل فقد اندحر نظام (فلسفة) هيجل ولم يتبق منه غير الهيكل الذي تحشى به الكتب التي تدرس في أقسام الفلسفة الجامعية، أما على أرض الواقع فبقي (الرعب! الرعب!) بتعبير جوزيف كونراد، وبقيت أحداث (المسابقة غير المثيرة) تجري بنفس الوتيرة من التصميم وعدم توضيح الأهداف (وبكآبة غير مستحبة، ولا شيء حولها أو في قاعدتها، إنها بلا متفرجين، بلا صراخ، بلا روعة.. تجري في جو باهت ومريض من الشك، بلا إيمان في حقك أو حتى في خصمك.. كنت أود التصريح في آخر فرصة، ووجدت أن لا شيء عندي لأقوله)، بتعبير نفس الروائي، وهنا ينهض السؤال في أنصع وجوه جديته: ألا يعتبر الموت محطة وصول؟ وإجابة الإنسان الحديث والوجوديون قبله، تأتي بصيغة سؤال هي الأخرى: وصول إلى أين الذي يؤدي إليه الموت وهو ليس أكثر من مجهول تحللي وماحق للإنسان؟
الموت الذي سيكون محطة وصول مقبولة هو الذي يأتي كنتيجة إيمان في حق الفرد، وإيمان كبير أيضاً، في كل شيء وفي كل ما يعن له أو يراه، مهما كان صغيراً أو لا يجده (الاتفاق البورجوازي) أو النظام الاجتماعي مبرراً بما فيه الكفاية. وأيضاً، وهذا هو الأهم، هو الإيمان الذي يسبقه فرصة التصريح وبأعلى صوت، ولو من أجل قول أف أو لإطلاق سيل من اللعنات غير المعنونة!
لا أحد ينكر على الفلسفة إنها كانت، في جوهرها، دعوة للجنس البشري للتخلي عن أوهامه، وأوهامه الضرورية على وجه الخصوص، إلا أنها لم تطرح بديلاً مقنعاً، وبدل أن تطرح ذلك البديل انقسمت على نفسها إلى مذاهب ومدارس، وانصرفت للعناية برسم خرائط حدود ملكية تلك المذاهب والمدارس وبناء الأسيجة الملونة لها، بدل أن تبني لنا قبة هيكل النجاة ـ بمقصد العبارة المجازي طبعاً ـ وتفتح لنا باب الخروج من مُطهره باتجاه العودة إلى جلودنا الحقيقية، والمغتصبة من قبل جهة ما، أو (الموت كالبشر) على أقل تقدير.
وها نحن الآن وصلنا إلى أكبر أسئلة الفلسفة التي كان من المفروض أن تكرس نفسها للإجابة عليها: هل فعلاً لنا أو كان لنا (جلود حقيقية) واغتصبت أو سرقت؟ وهل كان الأجدى التحقق من هوية (سارقها) وتحديد صفاته وملامحه، من أجل رسم صورة توضيحية له، أم كان الأجدى القبض عليه قبلها أو تحديد مكانه، على أقل تقدير؟
ورغم أن الوجوديين كانوا الأكثر تشاؤماً في محاولة الاقتراب من إجابة هذين السؤالين، إلا أنهم كانوا الأكثر جرأة على نبذ الأوهام وتحديد الحرية الذاتية كبوابة دخول للهيكل، دون أن يدعوا أنه هيكل نجاة.
وإذا كان البعض، من الفلاسفة والنقاد منهم على وجه الخصوص، قد أخذ على الوجودين في قصر تلك الجلود على الذاتية التي نادوا بها، فإن الذاتية أثبتت ومازالت تثبت، إنها ليست مجرد رد فعل على موضوعية العلم وعقلانية الفلسفة التي أحالت الانسان إلى مجرد أداة في نظام وتكوين مادي يثير الاشمئزاز والشفقة على بؤس منتجيه، سواء كانوا علماء أو فلاسفة أو قادة نظام اجتماعي وسياسي أو نظام اقتصادي نفعي، استهدف بكل جهده قيم الانسان وحريته وصادر فرديته التي هي أهم عناصر شعوره بكينونته وطريق إيمانه بها وبأهميتها وجدواها.
ولعل تجربة موقف الفرد وإيمانه بفرديته ودفاعه عن ذاته، أظهرتها بجلاء ردة فعل المواطن في المعسكر الاشتراكي، بوجهها السياسي على الأقل، عندما استغل مواطنو ذلك المعسكر أول عملية ارتخاء لقبضة السلطة عن خناقهم، وثورتهم في سبيل استرداد حريتهم في بولندا، قبل انتشار نار تلك الثورة في باقي دول ذلك المعسكر، والتي توجها الالمان الشرقيون بتحطيم جدار برلين وعبورهم لأنقاضه إلى جهته الثانية، رغم أن جهته الثانية لم تكن سوى الخطوة الأولى في طريق الحرية الذاتية، أو الخطوة الأولى في تحطيم القشرة الخارجية (للاتفاق البورجوازي، وهي مقولة لهرمان هيسه مقصدها أن الانسان خدعة صنعها البورجوازيون)، الذي كان يسميه قادة المعسكر الشيوعي بسلطة الشعب، والتي لم تكن في حقيقتها، حالها في ذلك حال سلطة الاتفاق البورجوازي الرأسمالي، والتي تسمى في هذا النظام سلطة الديمقراطية وحكم الشعب، وهي في كلا النموذجين ليست أكثر من عملية مصادرة للحرية الفردية... مقابل نظام وحماية المجاميع الاجتماعية واتفاقاتها البورجوازية، المصادرة للحرية الفردية والسعادات البدائية أو الحيوانية، إن شئتوا، التي كان يتمتع بها انسان ما قبل ذلك الاتفاق.
إذن بمقدورنا أن نقول أن لنا جلوداً أولى، وإن تلك الجلود اغتصبت فعلاً، وعلى مراحل التأريخ، اجتماعياً وسياسياً واكليروسياً وطائفياً ومناطقياً وروحياً... وأخيراً فلسفياً وعلمياً. ورغم أن عودتنا إلى تلك الجلود لا تمثل إلا عودتنا للوقوف أمام بوابة الغابة، إلا أن هذه الغابة (غابتنا نحن) وسندخلها بمزاجنا وتوقيتنا نحن، والأهم من أجلنا نحن لا من أجل نظام أو اتفاق مفروض علينا!
هل يعني هذا أن مشكلتنا في أساسها هي مشكلة حرية، وأن إحالة الفلسفة أو ابتسارها في (نظام) أو هيكلية أو صيغة تنظيمية كان سبباً من أسباب المشكلة أو إشاعتها، ذلك الشيوع الذي ترتبت عليه آلاف العقبات (التنظيمية والتقنينية) التي حلت محل الفلسفة واستحوذت على مكانها، بصفتها بديلاً واقعياً... بل وفلسفياً، عند منظريّ (الاتفاق البورجوازي)؟
مثل صيغة الطرح أو الاختصار المتعجل هذه، تمثل ابتساراً آخر للفلسفة، بحد ذاتها، لأن الفلسفة مثلت وتمثل التطلع الصريح لقيمة الانسان في حد ذاته؛ كما إنها تمثل تجاوزاً متعسفاً على الفلسفة، بصفتها الوسيلة والطريقة التي نالت رضا الانسان في تقرير ذاته وإعلائها وتمكينها من الوعي الذي يلزمها.
إذاً الفلسفة كتلة أو جسد يجب أن يكون بحجم الانسان ذاته وتطلعاته وتشوفاته، وأولها الحرية طبعاً، لأنها طريق عودته الوحيد إلى (جلده) المستلب، أو وعيه بهذا الجلد، بعبارة أكثر دقة.
وبهذا المعنى تكون الفلسفة وهدفها، ليس تأسيس الفرضيات، على طريقة الوضعيين المنطقيين والمثاليين، والمفاهيم، وفق رؤية جيل دولوز، وإنما ترسيخ دائرة الخصومات وتأكيدها، على طريقة فريدريك نيتشه، لأن المشكلة الأخطر التي واجهت الفلسفة ومازالت معلقة، هي ليست معاناة الانسان من فقدان النظام الذي شغل هيغل، على سبيل المثال، إنما في مواجهة السؤال الأكثر مضاضة، والذي اختصره المفكر الانكليزي، هربرت جورج ويلز: (نحن نعرف إنك تعمل وتعيل عائلة وتأتي بالنقود وتحب وتكره، ولكن ماذا تعمل)؟
هل الإجابة على هذا السؤال كانت تحتاج كل التعقيد الذي أنتجته الفلسفة، والذي تحول إلى تراث جاثم، على طريقة جثوم أبي الهول، لا ليقدم اجابة مختصرة على سؤال ويلز المختصر وإنما ليدرس في الجامعات لطلبة يدرسونه لطلبة أقل تخصصاً منهم؟.
***
الدكتور سامي البدري