أقلام فكرية
مصطَفَى غَلْمَان: من وهم المعرفة إلى مجتمع العقل؟
(البراطيل تنصر الأباطيل).. الزمخشري
كل فرد مجتمعي مطالب بتحصيل معارف جديدة، تنهض على المشاركة والتأثير، على أن تكون أدوات هذا التحصيل ناظمة لمجموعة المؤشرات والعناصر المبدعة، بدلا من مجرد التلهية والتهويم.
كانت أول مبدئية، تقوم عليها منظومة مجتمع المعرفة، هي أولوية تحفيز وإدماج الفرد في مجتمع العقل، واستثمار قواه وإمكاناته للمشاركة القصدية، ومحاولة تقديمه كمركز بديل وبؤرة ضوء متاخمة للحاجة والضرورة.
من هنا، تبرز المعرفة الجمعية، كبوصلة ترتهن عليها أجزاء المعرفة المتعددة والمختلفة، بصفتها سيرورة متوافق عليها. ومنها تنبع الرغبة في تغيير الملاذات، أو الأهداف المرتجاة، كما هو الشأن بالنسبة، لاعتبار فرضية "عدم الاتفاق بشكل كلي وحصري على تلك المعرفة الجماعية"، ما يفرض منهجيا "التفكير في المتفقات وترك الاختلافات الجانبية"، هروبا من انهيار تقسيم العمل المعرفي الذي تعوزه الوضعية.
استعمل س سلومان وف فيرنباخ، في كتابهما العميق "وهم المعرفة: لماذا لا نفكر بمفردنا أبدا؟"، مفهوم "استراتيجية توجيه النظر"، كحقل ألغام يناط به تحديد سمات انتقاء جودة المعلومات الفورية، وما تتطلبه من جهود فكرية وعقلانية لتوجيهها وتصنيفها وإدراك أبعادها وتحولاتها. وفي سياق قياس منافذ هذه الاستراتيجية وأبنيتها الدلالية والمعرفية، يقاربان سؤال الزمن وسرعته، والتقائية ذلك مع فكرة التحول، حيث يعتمد نظرهما على تأسيس حدود هذا النظر بالقول "لمعرفة اتجاه نظرك، كل ما عليك فعله، معرفة أين هي الأرض، وإلى اين أنت تنظر؟"، علاوة على أنه "لمعرفة السرعة التي يتغير بها اتجاه نظرك، كل ما تحتاج معرفته هو مدى سرعة تحرك رأسك؟".
هناك أبعاد فلسفية كبرى، تجعل من تأطير هذه المسألة المثيرة، أمرا متصلا بما يصفانه ب"حوسبة القطع"، مستدركين، أن من بين أهم سبل تواجدنا، هو استعمالنا العالم من أجل إجراء الحوسبة، للتنقل عبر المساحات الضيقة.
ولا يستدعي المثال الأخير لنظرية "وهم المعرفة"، أي جهد للوصول إلى معنى ارتباط "حقل المعرفة" بالطريقة التي ننظر بها إلى مكنوناته الظاهرة، فهي الأقرب إلى واقع "علاقة الضوء الملتقط بالأعين المجردة بسطح الأشياء"، كمثل "انعكاس ذلك على المحيط أثناء الحركة". وهو ما يؤشر على استنتاج فواعل جديدة في "مجتمع المعرفة" وعقلها، مما يشي بتدفق المعلومات الجنونية المتلاطمة، عبر وسائل الإعلام ووسائطها الاجتماعية، بشكل لا يخضع لقواعد محددة، ويرتهن على مغازلتها لأنساق جماهيرية متغلغلة، تبحث عن تقاليد وأنماط غير مسبوقة تتجذر بشكل أبطأ، وتحفر بقسوة، في بناء نموذج قيمي خارج الأخلاق.
هل معنى ذلك، أن المعرفة الآن مشروطة بإعادة معرفة فهم التكنولوجيا والتحكم فيها؟
ربما، لكن قطعا، لا يمكن التعويل على تحقيق الامتلاء المعرفي، وإغراءاته في الوصول إلى كمية المعلومات وتشعباتها، دون تطوير المواقف بإزاء حضورها في المجتمع وانتشارها بين الناس، بل وتأثيرها في المسار العام للحياة والعيش المشترك. فالخطر القادم، يظل قائما، ما دام "الذكاء المعلوماتي الفائق والشرير"، يراكم استحقاقاته الخاصة و"اللاأخلاقية" على حساب البشرية، إذ إن "الآلات التي لا تمتلك القدرة البشرية الأساسية، على مشاركة الانتباه والأهداف، لن تكون قادرة أبدا على قراءة أذهاننا، وعلى أن تفوقنا ذكاء، لأنها لن تكون قادرة حتى على فهمنا؟"*.
***
د. مصطَفَى غَلْمَان
............................
* ستيفن سلومان وفيليب فيرنباخ (وهم المعرفة: لماذا لا نفكر بمفردنا أبدا؟" ترجمة، أحمد م احمد ، مبادرة ترجم السعودية 2022 / ص 163