أقلام فكرية
سامي عبد العال: سلطة الحقيقة (4)
ستُواصل الحقيقةُ طريقها نحو (الاعتراف المُمتنِع)، وهو لونٌ من الإعتراف الباهت، حيث سيتم العودة إليها عاجلاً أم آجلاً. ولكن على كل حقيقة أنْ تخرج إلى مستوياتٍ أخرى من الوجود. الحقيقة ضرب من السعي إليها أيضاً، فهي لا تُوجد بين كائنات تأكلُّ من خشاش الأرض. إنَّ النضال لأجلها ومحاولة كشفها أمور تحسب من طبيعتها في المقام لأول. لا تعيش كلُّ حقيقة زمنها إلاَّ مع إمكانية الاعتراف بشكل من الأشكال. وهذا معناه مرحلةٌ تالية للتعامل مع الحقائق الإنسانية مثل الأحداث والممارسات سلباً وإيجاباً.
إقرار
الاقرار بالحقيقة اعتراف يأخذ صورةَ الإعلان عنها، ويتمُ طرحه بحسب الصيغ العمومية للتعبير. ومن جملةِ معاني الإقرار أنَّه منطوٍ على نبرة الحق في الوجود. وليس الحقُ غريباً على الكلمة معجمياً، لأنَّ فعل (أقرّ) يعني أنَّها لم تأتِ سهلةً من تلقاء ذاتها، ثمة ضغوط مطروحة موضوعياً وقد أتت مع أنفاس الكلمة. جعلت على المعنيين بالحقيقة أنْ يقروا بها دون تفلت إلى الوراء، عليهم أنْ ينظروا إلى الأمام دوماً.
والإقرار هو اقرار لواقع معين دون شيء آخر، أي عليك أنْ تؤكد أنَّ ما جرى قد حدث بالفعل أو أنه مازال يحدث بطرق أخرى. وهذا إقرار يُساق إليك وتساق إليه كمتابع للمسألةِ, وقد يأتي دون أسباب، وقد يكون مدفوعاً إليه المُقر بها نتيجة رغبة عميقة في القول، وألَّا يظل الإنسان صامتاً، لأنَّ الصمت معناه قطع لسان الحقيقىة. مع أنَّ الصمت في المجتمعات لون من الكلام، حتى ولو لم ينطقُ ببنت شفةٍ. إننا مطالبون بالسؤال عن السكوت المتكلم بالتبعية قبل أنْ نتكلم بالفعل. ولذلك تُسمى الحقيقة المنفية وسط الصمت بـ(المسكوت عنه)، إنها شكل من أشكال الانتماء إلى ما يجب أنْ يتكلم يوماً ما. بينما الإقرار نوع من الدمغ لهذا المسكوت عنه حتى يعرفه الجميع، أي فكْ شفراته ومعرفة ابجدياته الأساسية، تحرير ساحته من اغتصاب لسانه الفصيح كي يعبر.
الإقرار اعتراف قد وصل لتوّه بلغة الحقيقة، لكننا أدركنا أنَّ الآوان قد مضى ولا يصح التراجع عنه. فغدا الموقفُ إقراراً ممهوراً بما حدث، سواء أكان ذكريات أو أحداثاً معينة أم أفعالاً وقعت ويجب الكشف عنها. لقد واجهت حركات الثوار مع تحرير الأوطان في بداية القرن العشرين تلك المعضلة المزدوجة. متى يتم كشف الحقائق التي ارتكبتها دول الغرب في البلاد التي استعمرتها؟ وكيف يتم إقرار المستعمر بها؟ وبأية وسيلةٍ يكون المجتمع الدولي على إطلاع حقيقي بها؟! بل اتضح من الأسئلة الماضية: أنها معضلة ثلاثية الأبعاد، نظراً للأطراف الثلاثة الفاعلين في الوقت نفسه على تراب الدول والآخر والكون جنباً إلى جنب.
ألم أقل منذ قليل أنَّ الإقرار عمل تحت ضغطٍ من متغيرات عدة؟ بالقطع هذا ما يبدو عليه الأمر. إنه عمل مُوزع على تلك الدوائر الثلاث، ففي البلاد التي شهدت تطهيراً عرقياً مثل بعض البلاد الأفريقية(روندا – حالة الهوتو والتوتسي) حيث الحرب الأهلية التي شهدت قتالاً دموياً شرّد آلاف البشر وذُبح وقُطّع أمثالهم، وبعض البلاد الأسيوية(بورما– حالة البوذيين والمسلمين) التي شهدت بالأمس القريب أحداثاً دموية للاجهاز على الأقلية المسلمة. وفي الحالين يمثل اقرار الحقائق بُعداً ضرورياً لمعالجة المشكلات ومعرفة جذور الصراعات القاتلة في نسيج المجتمع الواحد.
كان الإقرار وما زال مهماً بدرجة توازي قدرتنا على الحياة، هو قدرة إيصال رسالة قوية بأن ما يحدث يمثل جرائم حرب ضد الإنسانية. وأن الاقرار يشير إلى ترجيح احتمال الاحداث لصالح من وقع في حقهم الأثر الأسوأ، وليس يجدي الإخفاء، لأنَّه إذا كان البعضُ ينتظر إخفاء (الحقائق) لأجل مصلحة طرفٍ معين، فالجميع سيتضرر ما لم تكن الحقيقة واضحةً. والإقرار إشارة إلى الكل لا البعض. أي إقرار يحمل المسألة إلى من يعنيّه الأمر ومن لا يعنيه أيضاً، هو مثل دلالة القانون الذي يؤثر في المجتمعات بقوته الناعمة (قوة ردع) لا عقاب فقط.
إقرار الحقائق أمر يُعطي لصاحب الحق فرصة أنْ ينال ما كان يبحث عنه ورد اعتبار وجودي لقضايا موضوعية كادت أنْ تفقد حياتها. وهو إعطاء حق كان ضائعاً بمنطق التناقض السلطوي. يقول طالما كون الحقيقة مُضرةً لو تم كشفها، فلن يكن هناك إقرار بها لتحقيق المصلحة. وتبلغ درجة الإقرار مرتبة حقوقية في القوانين الإنسانية العامة وفي ترسانة القوانين الدولية والقوانين المحلية لكل مجتمع. عندما أقرت بعض دول الاستعمال بجرائم تم ارتكابها أثناء فترة الاستعمار كان هذا رداً لاعتبار الشعوب، وهو إقرار بعدالة القضايا التي يدافعون عنها.
والأهم أنَّ تعتبر الشعوب مدافعةً عن حقوقها المسلُّوبة، وليست طرفاً فوضوياً ولا معتدياً على آخرين. فنحن عندما ندافع عن الحقائق، بل جينما ندخل حروباً كشفاً لها، فهذا عمل يستحق الاقرار. أي أنْ يقرر المجتمع الدولي مثلاً هؤلاء المدافعيتن عن الحقيقة التي تخصهم يقفون في دائرة النضال وليسوا إرهابيين ولا معتدين.
حُكم
لا توجد حقيقة من غير إشارة إلى جانب الحُكم بصدد حالتها، لأن ترجيح الإحتمالات والكشف عنها تباعاً بمثابة حكمٍ ينتظر الاعلان. وبالتأكيد طالما سيعرف المتابعون ملابسات الحقائق العامة تحديداً، فمن شأنهم البحث عن الأسباب والدوافع والتأثيرات.. وتلك أشياء تدل على أطراف معينةٍ وأحداث محددة.
ثمة فارق بين الإتهام والحكم بصدد الحقائق. ليست الأخيرة معنيةً في ذاتها بالاتهام، لأنَّ هذا اللفظ لفظ قانوني بكل ما تحمله الكلمةُ من معانٍ، أما الحُكم، فهو حكم تاريخي وإنساني بالمقام الأول. أنْ تكشف الحقائق فحواه أنك أصدرت حكماً تاريخياً، إنك تقول للتاريخ عليك أنْ تلتفت بقوة إلى ما جرى، أي عليك أن تسجل الأحداث، وأنْ تحتفظ بالأسرار التي ستقال للأجيال القادمة. فالحكم هو: شهادة تقرر ما حدث، شهادة يقين وشهادة توثيق وشهادة عدالة معرفة وأداء واجب النفاذ.
وهي معطيات الحقيقة على الأصالة بصرف النظر عن الإتهام من عدمه. ولن يختلف إنسان- في الظروف العادية لكلمة إنسان – حول معرفة الحق. وهذا هو رأس الأمر عندما تكون هناك ملابسات حول حقيقة صادمة مثل الجرائم أو التحولات السياسية، فالإنسان سيهتمُ بقول الحقيقة من أجل الحق لا غير أو هكذا ينبغي أنْ يكون. لدينا نحن الكائنات البشرية تلك الخاصية التي تجعل الإنسان يهب بعضاً من ذاته لقول الحق دون انتظار النتائج. وبطبيعهة الحال ليست خاصية (الاهتمام بكشف الحقيقة) متوفرةً لدى كل الناس، لكنها موجودة لدى البعض على الأصالة.
إنَّ الحقيقة برمتها تهب نفسها إنسانياً لقول الحق، حتى وما لم يتم الإعتراف بها. فما يُقال عنها كحقيقة يدخل من باب الإقرار طالما وجدت القوى التي تعطيها المساحة. والحُكم بمثاية القرار الافتراضي الذي يكمل وجودها. ولا يشترط أنْ يكون حكماً قانونياً، فالقوانين- سواء أكانت دولية أم محلية - تقبل ذلك، لكن الطريق مختلف إلى حد ما.
الأهم أنْ يكون هناك من يستطيع الحكم بمنطق التاريخ والثقافة، أي من يضع الحقائق في دائرة الشفافية، لأنَّ الإنسانية تستطيع أنْ تخطو هذه الخطوات وبإمكانها أنْ تلخص تاريخها الفعلي فيما هو متاح لكل الناس دون التعمية والحجب. في حالة الاحتلال الأمريكي للعراق على خلفية اتهام نظام صدام بحيازة أسلحة الدمار الشامل، وأنه في طريقة لتصنيع قنابل نووية، جاءت أصوات من داخل الولايات المتحدة الأمريكية لتعري النظام الأمريكي (نظام جورج بوش الابن)، أبرز هذه الأصوات صوت المفكر المعاصر نعوم تشومسكي الذي اتهم أمريكا بصناعة الإرهاب وعدّها مسئولة عن تدمير الدولة العراقية وليس ملاحقة الارهاب.
ولم يصمت تشومسكي عن تعرية أصابع أمريكا في نهب الثروات، وصناعة دوائر سياسية قذرة في مناطق الشرق الأوسط لتدمير اقتصادها وكيانها السياسي. وذهب تشومسكي إلى أبعد من ذلك معتبراً أنَّ أمريكا لا يعنيها حقوق الإنسان ولا فكرة الحرية والديمقراطية التي تلصقها بأي هدف تريد اقتناصه، ولكنها تعمل ضد هذه الإفكار الإنسانية، فهل نترك الحقائق بلا تعرية؟، هل يغيب حُكم يمكنه الإشارة إلى ما حصل؟
هذا الصوت وغيره من الأصوات الحرة كان صوتاً مُعبراً، ليس صوتاً صائحاً في البرية الفارغةٍ. هناك تيار عالمي ضد الخداع باسم السياسة من قبل القوى الدولية أيا كانت مصادرها. وليس هذا فقط، بل ويظل مهموم بكشف الحقائق، لا من أجل عودة عقارب الزمن إلى الوراء، لكنه يناضل لوضع الإنسانية على طريقها الصحيح. وهذا التيار أغلب رموزه لا ينتمون حتى إلى المناطق والبلدان التي يطالبون فيها بكشف أحداث الحروب وتفكيك الخدع السياسية التي تعصف بقوانين الهيئات الدولية لتنفيذ مآربها. وهذا التيار مكون من مفكرين وسياسيي وفلاسفة وكتاب وأدباء ونقاد كبار وممثلين لمنظمات ومؤسسات دولية. وجميعهم معنيون بتعرية الحقائق وعرضها أمام الرأي العام العالمي وقت الأزمات.
إنَّ الشعوب المنكوبة بالاستبداد يجب أن تعرف وعياً مغايراً بالحقائق، وهو ما يطرحة معنى الحكم في هذه الحالات، ليس يجدي أن تظل الحقائق غائبة، وفوق ذلك لا تدرك الشعوب قولاً فاصلاً فيها. وما لم يتوافر الوعي المغاير، ستضيع القضايا المصرية وتصبح فكرة المجتمع نفسه مهددة بالتفكك. لأن الحقائق رغم حجبها في بعض الأحيان إلا أنها توجد كخلفية لتقوية المجتمعات، فهي مصدر معرفة التاريخ وهي مصدر تماسك الجماعة البشرية، وهي المختبر الذي يتعلم فيه الناس من تجارب الحياة.
كما أن الحقائق تشكل محكمة التاريخ السرية التي تصدر إحكامها وتعطي الشعوب دروسا مجانية– وأحياناً قاسية- في الدفاع عن الحقوق. ولذلك فإن الشعوب التي تستنيم إلى غياب الحقائق، ولا تستطيع رؤية الأحداث والظواهر واضحةً لن تستفيق حضارياً، وسيُعلق التاريخ أحداثه كجرس إنذار في رقبتها طوال الزمن، حتى إذا تحركت ألتفت إليها العالم من باب السخرية ليس أكثر، لأنها شعوب لا ترى في وضح النهار.
***
د. سامي عبد العال