أقلام فكرية
مصْطَفَى غَلْمَان: تأمُّلات "سبونفيل" وقوابضُ "أوزال"
(السخرية من الفلسفة هي أيضاً تفلسف، وإن السخرية من المعلمين، تعني الوفاء لهم والانفصال عنهم).. سبونفيل
قليلون من تجرأوا على مبارزة العدة المفاهيمية الثقيلة والهادرة للفيلسوف الفرنسي أندريه كونت - سبونفيل صاحب (روح الإلحاد) الشهير بـ(الرسالة الصغيرة عن الفضائل الكبيرة).
ذلك أن الاقتراب من سبونفيل يحيل بالقراءة الأولية إلى "تسفيه الدين" وإسقاط العقيدة" و"تمجيد الذات الفردانية "... الخ . بينما يجتاز صديقنا الباحث في الفكر الفلسفي المغربي حسن اوزال هذه الفرضيات الإبدالية، إلى أقصى درجات التأمل.. شأنه في ذلك، شأن انتشاله اليقظ والمتدور لفعل العقل والسيرورة، وعلاقتهما بمحنة الوجود ومآلية الجسد والروح ..
قراءتي المبدئية لهذه الإضاءة المبرومة لتحولات الفكر واستعاراته الجديدة، في خضم الفورة التي استبصرتها نتوءات العقل الانساني وتداعياته في سيرورة الحياة وما بعدها، يثير فينا فضول البحث المتواصل عن أسئلة الكينونة والمعنى، وموقف العقل الباطن إزاءهما..
ما الذي يريده سبونفيل من خلال مكاشفاته المترنحة في "تأملات الفلسفة"؟، ومن خلال ذلك، البحث المستعاض به عن التأمل بالقياسات الفلسفية الأخرى، التي يواجه بها الباحث حسن اوزال المبضع الذي يجتبيه صاحب الكتاب وهو يرتق كنه التفكير بالمآل، بما هو انشغال بالآخر، وبالفردانية السيئة ..
هي إذن "فلسفة مضادة"، قريبة من البناء الذي يوحد فكرة الشمول والاتقان، لكن، دون تجاوز العقل ..
في كتابه الغرائبي "لست فيلسوفا"، يشيح سبونفيل عن توجهه الفكري، حيث يبتعد تماما عن خطابية الفلسفة الاستدلالية، متمنطقا بروح جديدة وفضاء استعاري متوثب، يكافح من أجل "تطويع الحياة، وجعل أساليب ممارستها مليئة بالوهج والانتشار المستجيب للسعادة".
يحاور سبونفيل مركزية الفلسفة الكلاسيكية، مستعيدا بذلك شرائطها المكرورة في استكناه محورية الوجود وأقدميته في الوجود والسيرورة. وهو إذ يفعل ذلك، فإنما ليعيد تفكيك نظرية الخالق والمخلوق، ويثير مشكلة علاقة الفلسفة بالغيبيات. ما يفسر مذهبيته في تقييد مفازة الإلحاد، وتمطيطه ليصير" وسيلة للتواضع. إنه أن نفكر في أنفسنا على أنه حيوان، كما نحن بالفعل وأن نسمح لنفسه بأن يصبح إنساناا.
لا يعني ذلك تماما، أن مبدئية الحياة والموت، تنتهي بالإغراء الفكري بممارسة العدم، فقد استوجبت الحياة عنده شيئا من الفناء، ربما لاجتراح متاهة غامضة، أو مكاشفة لأسرار كونية بالغة التعقيد.
وقد واجه سبونفيل هذه القطيعة الفلسفية، باستنباطه المتعب لماهية الموت وسط جحيم الحياة، قائلا:
"في كل لحظة في حياتنا تتميز بالموت، مثل الظل من عالم آخر، يبدو لنا وكأنه نقطة تلاشي لكل شيء. كيف يمكن للمرء أن يتأمل في الحياة دون التأمل أيضًا في قصرها وهشاشتهاا؟"
أليس حريا بهذا الإذعان الطوعي للفرح بالحياة ومجابهة الفناء، أن يستميل عقلا يؤمن بوعاء التفلسف حوضا جامعا للفعل التحرري والرفض القاطع للتبعية والسلطة، والاصغاء العميق للحياة، منتفضا على الدوام في وجه الردة والجمود والسلبية، حيث البحث عن سعادة العيش، بما هي فن وإبداع فلسفي واع بالزمن والسيرورة والاقتدارية؟.
في كتاب "تأملات فلسفية" لا يخرج المفكر الفرنسي المعاصر أندريه كونت – سبونفيل، عن قاعدة أسلافه ممن تقصدوا تدوير أهم قضايا الفلسفة الكلاسيكية المحايثة للنصوص التي تكرس للمواضعات المفهومية المعروفة في المتن الفلسفي القديم، كالحرية والسعادة والذات والمدينة والسياسة والأخلاق وقيم المعرفة والعلاقات الإنسانية والعيش المشترك.. إلخ، وهو بذلك يكسر أطواق مجايليه ممن راكموا تجربة فلسفية معاصرة رائدة، كآلان فينكلكروت، وجوليا كريستيفا، ودانيال تشارلز، وجورج غوستورف، وإدغار موران، وغابريل مارسيل.. وغيرهم كثير.
هل يعني ذلك أن الاقتراب من التفكير في دهاليز سبونفيل السادرة والمحلحلة لمنظومة الفلسفة، بما هي ممارسة للتساؤلات اللاعقلانية، المتسيدة والخارجة عن الوعي بالمعرفة العلمية أو العقائد الدوغمائية؟، سيغير من علاقة تأسيس النص الفلسفي المتجدد والواعي بشكل ومنطق الزمان والسيرورة وتكييفاتها المتاخمة للأنماط والسلوكات؟ أم أن القدرة على فك الارتباط بكل ذلك وغيره، هو مبغى العالم ومستقبل التفكير الحقيقي؟.
***
د. مصْطَفَى غَلْمَان