أقلام فكرية
علي محمد اليوسف: الزمكان تداخل مفهومي العلم والفلسفة (2)
تمهيد: نبدأ من حيث انتهينا سابقا في الجزء الاول من هذه الورقة برأي الفيلسوف الكبير عمانوئيل كانط قوله في كتابه الشهير نقد العقل المحض الى ان الزمان والمكان ليسا موادا او كيانات بذاتها وانما هما وسيلتا ادراك. بهذا القول لكانط تصبح نظرية الزمكان على انها فراغ استيعابي مطلق لا يجانس المطلق الكوني ولا هو جزءا منه فهو ذو قدرة كبيرة على احتواء كل شيء ولا يحتويه شيء فرضية صائبة لا اقر انا بها لسبب بسيط ان علماء الفيزياء اعتبروا الزمكان مادة محددة باربعة ابعاد(الطول، العرض، الارتفاع، والزمن) لكنه ليس مادة موجودة انطولوجيا يمكن ادراكها ولا موضوعا خياليا للعقل. مفارقة ان تجد في الوجود المادي لشيء يثبته العقل ادراكا حسيّا على انه غير موجود.
صحيح ان وجود المادة موضوعا مدركا للعقل هو تجريد لغوي تعبيري عنها لكن هذا لا ينفي وجود المادة انطولوجيا موضوعا مستقلا عن العقل ماديا.. ويدركها العقل وعيا تجريديا ايضا. حسب الفيلسوف الامريكي سيلارز الوجود لغة كم تعجبني هذه العبارة العبقرية التي تختصر مجلدات من نقاشات معرفية معاصرة تدور حول مركزية فلسفة اللغة.
هذا الخلط بين لامادية الزمكان كونه فراغا استيعابيا وبين كونه (مادة) بابعاد رباعية يمكننا تحديد وجوده الانطولوجي. هذا تناقض غير مسوّغ ولا مقبول وخلط بين صفات المادة وصفات الزمكان.. فايهما الاصح؟
من المرجّح ان الزمكان كما اشار له كانط وسيلة ادراك افتراضية لا يمكن البرهنة التجريبية على ماديتها هي الصحيحة وذكاء كانط يظهر بهذه الاشكالية حينما لم يتورط باضفاء ابعاد المادة الاربعة على الزمكان. لكن الخطأ الاكبر حينما اضفى بعض علماء الفيزياء ابعاد المادة على الزمكان وهو جوهر غير مدرك عقليا كما هي المادة مدركة حسيّا. المهم ان علماء الفيزياء ارادوا اثبات الزمكان فراغا استيعابيا موجودا انطولوجيا خارج العقل في حين اعتبر كانط الزمكان وسيلة الادراك العقلي للاشياء والعالم من حولنا وبغياب تفكير العقل يغيب الزمكان. والاهم من كل ذلك ان كانط كان يعالج ثنائية الزمكان الارضي وليس الكوني كما ذهب له علماء فيزياء الفلك والفضاء.
قياس الزمن
نقع بداية على عبارة اوغسطين قوله الزمن بحاجة الى كائنات يقصد الانسان ليقوم بقياسه الزمن وهذا القياس يترتب عليه ادراكنا الزمن من عدمه.. ونفهم من هذه العبارة السطحية ان الزمن لا يعود موجودا غير مدرك ولا منظور على الارض بغياب من يقيسه من البشر. فالزمن حتى الارضي كتحقيب وقتي له نفس الخصائص من حيث الصفات بالدلالة ومن حيث الجوهر او الماهية مع المطلق الزمان الازلي السرمدي.
والصحيح ان الزمن باستثناء ما توصله العلم قياس الزمن بساعات متطورة صناعية ذرية ذكية تقيس تجريد الزمن الافتراضي الملازم بحيادية للمكان. لكن في حال رغبنا قياس الزمن الذي يستغرقه قطع عداء رياضي مسافة 100 متر فان ذلك يترتب عليه بدء قياس انطلاقة العداء ووصوله خط النهاية على وفق ضبط ساعة توقيت تعمل بالثواني واجزاء من الثانية متطورة.
بمعنى يصبح قياس الزمن هو قياس مقدار حركة جسم في قطعه مسافة معينة وهو مشروط بطاقة العدّاء وسرعة ركضه. اي لا يمكن معرفة مقدار الزمن الا بدلالة حركة جسم داخله. والزمن لا يعرف عنه فيزيائيا انه يمتلك حركة ذاتية خاصة به بمعنى الزمن امتلاء ثابت في ملازمته احتواء الكون والطبيعة الارضية معا..
لكن الزمن يتأثر ويحضر في غالبية المعادلات الفيزيائية والرياضية والكيمياوية وفي ضروب بحثية علمية اخرى كدلالة علائقية ترتبط بغيرها. كما ان قوانين الطبيعة مثل الجاذبية لها تاثير على الزمن كحركة ملازمة لغيرها لا تمتلك استقلالية تلك الحركة زمنية مستقلة. حتى قوانين النسبية العامة في الفيزياء هي بدورها لها ذلك التاثير على رصدها الانثيالات الموحية للزمن بوجود المادة والطاقة لكنها تعجز تلك القوانين وضع هذا الزمن في زاوية الرصد الادراكي المباشر له الغير المستقل لا بالماهية ولا بالصفات من غير ارتباط تلك الصفات بعلاقات مع ظواهر فيزيائية اخرى.
وحين نتصور مع نظريات بعض علماء الفيزياء ان الزمكان فراغا احتوائيا يمتلك ابعاد المادة لكنه ليس بمادة يدركها العقل هنا تحضر مقولة كانط في اننا ندرك الزمكان كثنائية موحدة لا تقبل الانقسام على نفسها هو انهما الزمان والمكان قالبان فطريان مركوزان بالدماغ هما وسيلة ادراكنا الاشياء لكنهما ليسا موضوعي ادراك للعقل حسب مقولة كانط الشهيرة. وبحسب عبارة كانط هذه يتاكد بطلان الزمكان يمتلك ابعاد المادة في نفس وقت ان لا يكون موضوعا للعقل. وهنا علينا الانتباه ان كانط يتكلم فلسفيا وليس علميا تجريبيا حول علاقة العقل المحض السابق على التجربة بالزمكان. الشيء الاختلافي بين كانط وعلماء فيزياء انشتاين وستيفن هوكنج انهم منحوا الزمكان فلكيا ابعادا مادية يدركها العقل ومنعوا امكانية ان يكون الزمكان مادة مدركة خارج العقل بل هي فراغا احتوائيا لكل شيء قابل للادراك الحسي والعقلي.
كانط كما ذكرت في سطور سابقة لم يقع في مطب الزمكان يمتلك ابعاد المادة والا اصبح الزمكان موضوعا يدركه العقل. وهو ما لا يقر به علماء الفيزياء ان الزمكان مادة يدركها العقل.ولا كانط ايضا يقر ان الزمكان موضوعا لادراك عقلي بل هو وسيلة ادراكعقلي فقط.
وهم الزمن
يشهد تاريخ الفلسفة انه جرت مناقشات مستفيضة ليس على صعيد حضارة اليونان وانما يرجع الى الريادة الفلسفية القديمة الى مصر الفرعونية قبل 2500 عام قبل الميلاد وحضارة قبائل الانكا في بيرو الاقدم منها حيث كانوا يعتبرون الزمان والمكان مفهوم واحد اطلقوا عليه باشا pascha.
واعتبر ابو البركات البغدادي الزمن وهم لا وجود واقعي له. وانا كنت في مقالاتي التي يضمها كتابي ( الزمان والفلسفة) والتي نشرت مقالات الكتاب على مواقع عربية محكمة مثل الحوار المتمدن والمثقف ذهبت هذا المنحى متماهيا مع البغدادي الذي لم اكن قد اطلعت على منظوره الفلسفي حول وهم الزمن ولا زلت على هذه القناعة من زاوية نظر فلسفية وليس علمية تخصصية بمباحث الفضاء الكوني... كما ادين بالفضل لمقالة الباحث الفلسفي القديرحاتم حميد محسن نشرها على موقع المثقف استعرض فيها كتابا جديدا صدر بالولايات المتحدة الامريكية تاليف ثلاثة من علماء الفيزياء ذهبوا فيه الى ان الزمن وهم الحقيقة الفلسفية التي تفتقد اثباتها.
وهناك من الفلاسفة ممن اعتبروا الزمن (ذاتيا) كل فرد منا يدركه بقدراته الفكرية باستقلالية غير ملزمة له تجاه الاخرين وكان القديس اوغسطين من اوائل القائلين بذلك. وهناك من ربط الزمن بالنفس مثل جاستون باشلار وجاك لاكان وغيرهما ممن ربطه بالجيولوجيا والاركيولوجيا واخرين ربطه بالانثروبولوجيا وغير ذلك من ضروب بحثية فلسفية.
اما التحقيب الزماني الارضي فهو برأيي تحقيب وقائع وحوداث تاريخية بدلالة زمنية وليس زمنا بدلالة تاريخية. فعلى حد تعبير احد الفلاسفة (فالماضي لم يعد موجودا سوى بالذاكرة) من حيث الماضي كزمن هو عملية استرجاع استذكارية لوقائع الماضي التي حدثت في زمن متعارف عليه.. والزمن بالنسبة للماضي كتاريخ انما هو دلالة تعريفية مخزّنة بالذاكرة ومركزية كتاب باشلار(الزمن والمكان) يشتغل على هذه الاشكالية القائمة بين الماضي كزمن والتاريخ كوقائع ثابتة. وقد عالجها باشلار برومانسية نفسية خاصة به.(تناولت نقد هذا المنحى النفسي لدى باشلار في اكثر من مقال منشور على عدة مواقع عربية وتحتويها مؤلفاتي).
انكر يوحنا النحوي ان يكون للزمن بداية معروفة ولا نهاية متوقعة معللا قوله (لا يمكن ان توجد نهائية فعلية). وهذه المقولة الصائبة يترتب عليها ان نسبية التحقيب الارضي للزمن كماض وحاضر ومستقبل هي من التداخل الفلسفي الافتراضي بما يعطل واقعيته على حساب افتراضيته التي تمليها القوانين الكونية الفضائية التي تنحى منحى العلم التجريبي الفيزيائي في نظامنا الشمسي بضمنها قوانين المجموعة الشمسية التي تجعل من التحقيب الزمني الى ماض وحاضر ومستقبل تقويما صائبا بدايته الثانية والدقيقة والساعة فاليوم والاسبوع والشهر والسنة وهكذا امر مفروغ من صلاحيته التنظيمية للحياة بدلالة صحة تجارب قوانين الفيزياء على الارض في تعالقها مع القوانين الفيزيائية الفلكية المطلقة الفضائية التي تحكم الكون.. وتعالق تلك القوانين مع مجموعتنا الشمسية. لكن تبقى حقيقة ان الماضي ليس زمنا مستقلا بذاته بل هو لازمة دلالية لتحقيب وقائع تاريخية حدثت في زمن ماض لا يدركه العقل خارج تعالقه مع وقائع التاريخ.
وجود الزمكان
الموقف الواقعي من وجود الزمكان كحيّز وجودي مادي احتوائي مستقل عن العقل بموجوديته وليس بعلاقته الارتباطية بين الاثنين كمادة وادراك لها. اي انهم وهنا المفارقة اعتبروا الزمكان مادة لكنها لا تدرك من قبل العقل موضوعا له. رغم ان الزمكان حسب نظريتهم المستمدة من نسبية انشتاين خلعوا ابعاد المادة الطول والعرض والارتفاع والزمن على خصائص الزمكان وانكروا معاملة الزمكان كمادة لها ذات الخصائص الفيزيائية التي تجعل منها مادة يدركها العقل.
الشيء الذي لا يمكن تجاهله ان اكتساب الزمكان خصائص المادة جعل منه كيانا موجوديا خارج العقل رغم ان العقل يعجز ان يعتبره موضوعا له حسب نظرية بعض علماء الفيزياء المعاصرين. وهذا خطأ فادح كبير اذا ما قارناه معياريا فيزيائيا علميا ان الزمكان حيّزا احتوئيا لغيره من مدركات العقل للاشياء..
لقد كان ارسطو اكثر وضوحا منطقيا في رفضه ان يكون للعالم بداية اونهاية وقال الزمن قديم وليس محدثا لا بداية له ولا نهاية وهو لا متناه. وقد اخذ الرواقيين يتقدمهم لاحقا افلوطين ان ارسطو في تناوله الزمن ادخل نفسه في دوران دائري منطقي حين قال الحركة مقياس الزمان والزمان هو مقدار الحركة وليس هو بذاته حركة يمكن رصدها باستقلالية. رغم مضي عشرات القرون على افكار ارسطو حول الزمن الا انه اعطى مفاهيما ليس من المتاح تخطئتها لحد الان منها ان الزمن كجوهر غير مدرك الفات ولا الماهية لن يكون موضوعا للعقل والثانية مقولته الرائعة (الزمن لا يحدّه زمنا) مؤكدا مطلقية الزمن التي لا تنقسم لا على الارض ولا في الفضاء. .
خاتمة
عل حد تعبير دكتور جواد بشارة قوله (تصف النظرية النسبية العامة لانشتاين ان الزمكان بنية منحنية بوجود المادة والطاقة مما يؤدي الى ظهور ظواهر مثل الجاذبية)1.
هنا من المؤكد ان انشتاين يصف الزمكان في الفضاء الكوني وليس الزمكان الارضي وكلاهما محكومان غير توليديان ولا ناتجان عن قانون الجاذبية الذي يحكم كل شيء في الكون وعلى الارض. حين اجمع بعض علماء الفيزياء تماشيا مع نسبية انشتاين العامة ان الزمكان يمتلك خواص المادة المدركة ارضيا وليس فراغا احتوائيا يهضم كل شيء داخله ويمتلك جاذبية عالية جدا. اصبح مسلما ان حقيقة الزمكان ارضيا هي غيرها حقيقة الزمكان الكونية.
وهذا الفهم الجاذبي الاحتوائي لكل شيء في الزمكان يشبه الى حد كبير خصائص مليارات الثقوب السوداء الحلزونية الدودية الفضائية الابتلاعية لاموات مقبرة الفضاء الكوني التي تقوم بابتلاعها هذه الثقوب السوداء الكونية والتي تمتلك جاذبية تسحب حتى اصغر اجزاء مكونات الذرات في السديم الكوني الهائل ولا زالت لغزا محيّرا لعلماء الفيزياء. وتصل سرعة الجاذبية في احتوائها اموات مقابر الفضاء من نجوم وكواكب وكل ما يقع تحت سطوتها الى اسرع من سرعة الضوء بالثانية.
***
علي محمد اليوسف /الموصل