أقلام فكرية
واثق الحسناوي: صناعة المرأة مثيولوجيا
خلال قراءاتنا المتواضعة للتاريخ البشرية -ابتداء بالحضارة السومرية وانتهاء بوقتنا الحاضر- لمسنا ان هناك ثقافة اجتماعية مثيلوجية كوزمولوجية ابستمولوجية دوغمائية تابوهاتية، مورست ضد المرأة كآخر مقصي معني مُبعد دوني فقير ضعيف فاشل غير عاقل غير منتج، لا يصلح الا للإنجاب والعمل في المنزل ولتربية الأطفال او الاعمال الحرفية كالزراعة او نسج الاصواف ورعي الحيوانات وهكذا... وكانت ردّةُ فعل الذكورية ومنذ الميثولوجيا الأسطورية العالمية والفلسفة اليونانية، التي اسس لها سقراط وافلاطون وارسطو مرورا بـ (لاكان، وجون سيتورات، وهيغل، ف فرويد ويونغ، وجان جاك روسو، صعودا الى البطرياكية المسيحية المستمدة من اليهودية في تعاملها مع المرأة -باستثناء قصة السيدة مريم العذراء (ع)- ومحاكم التفتيش، وحركات التنوير او الاستنارة الفكرية، حتى بدايات نشوء الحركات النسوية في الغرب وفي منتصف القرن الثامن عشر ومطلع ومنتصف القرن التاسع عشر وظهور الحركات النسوية، التي اعقبت العصر الفكتوري الانجليزي والثورة الفرنسية، والبلشفية الروسية، وبزوغ الليبرالية الامريكية، والحداثة وما بعد الحداثة، اذ تبنت بعض الناشطات المدنيان النسويات نظرية المساواة والعدالة والعمل والحرية للمرأة، ووقف كل عمال التهميش والعنف والاقصاء للمرأة إرضاءً وطاعة للرجل، ووقفت موقفا معارضا وندّا وحازما تجاه الذكورية التي اقصت المرأة منذ التأسيس المثيلوجي على الرغم من الدور الكبير الذي ادّته المرأة في كافة العصور التاريخية القديمة، اذ كانت المرأة زوجة عظيم او ملكة والهة تُعبد في الديانة السومرية والاكادية والبابلية والامورية والفرعونية والاغريقية والمسيحية، (إنانا، نينهور ساغا، وارشكي جال، وباو، نانايا، نبتليل، نيصابا، عشتار وسيبيل وبلقيس، واللاة والعزى ومناة، وافروديت وهيرا، وايروس، سارة، هاجر، بلقيس، مريم العذراء، خديجة، عائشة، فاطمة، زنوبيا، زرقاء اليمامة، رابعة العدوية،.....) الا إن الذكورية تصرّ على ضعف وفشل ونقص وشرانية المرأة مستندة في ذلك على قصّة الخلق لادم وحوا وقضية التقرّب من الشجرة المنهي عنها واكل التفاحة، وعقوبة الانزال الى الأرض، وتحملت كلَّ نساء الكون جناية اغواء حواء لأدم وآكل التفاحة، وهذا خطاب يتناقض مع كل التعاليم الرسالية السامية والأعراف والأخلاق والمنطق كما جاء في قوله تعالى (ولا تزر وزارة وزرة أخرى). (فاطر/ 18). ثانيا اذا كانت المرأة عورة وفاشلة وعاطلة وغير منتجة وضعيفة وسهلة الاغواء والخداع.. فلماذا خُلِقت ولماذا مَلكت ومُلِّكت وزُّوجت وعُظّمت من قبل انبياء ورسل وملوك والهة. ولماذ عُبِدت؟! ولماذا لا ينطبق هذا التصور او هذه الرؤية على الرجال كذلك فلا توجد عصمة بشرية اطلاقا الا في مراحل ولحظات نزول الرسالات فقط. اذا الرجل كذلك غير معصوم من الزلل والخطأ والشهوة والغريزة والخداع والخيانة والضعف والشر.. فلماذا نمارس هذا الخطاب السلطوي الذي وصفه فوكو بانه يجير كل شيء لصالحه بوسائل اقناعية مغالطة لجهل الوعي الجمعي ووديماغوجية المرسل؟! علينا ان نفكك ونشرح كافة الخطابات المثيلوجية وحتى الرسالية التي تنتقص من هذا الكيان الرقيق وليس الضعيف بل فيه عوامل قوة، كما جاء في القران الكريم (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ). (يوسف/33)، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)). (يوسف/24).وقوله تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيم)). (يوسف /53). كيف يكون كيان المرأة ضعيفا، وان معظم الشعر الجاهلي تغنى وتغزل، بل بكى على اطلال المرأة وليس على المرأة نفسها؟ بل ان كثير من الشعراء مات بسب شغفه وهيامه وحبّه للمرأة؟؟!! كيف ضعيفة وانا هناك الكثير من العظماء والملوك والشعراء والعلماء قد تزوجوا بأكثر من امرأة لفتنتهن وجمالهم او ظرافتهن...؟! فلماذا لا نقول حينئذ ان الرجل كان ضعيفا في مثل تلك المواقف؟! اذا نرى ان القوة والضعف متساوية بين الرجال والنساء ولكن الخطابات المثيلوجية حاولت ان تغلب الذكورية على الانثوية بحكم القوة الجسدية وليست العقلية او الفكرية او الجمالية او الجنسية. فمن الغباء ان نحكم على المرأة بالضعف، نحن كرجال نتناسى اننا لا نستطيع العيش شهرا كاملا من دون هذا الكيان اللطيف الظريف الذي يزيل كل اعبائنا وهمومنا وسمومنا.من منا ينكر كم مِن مِلك او عالم او رجل دين عظيم ضعف امام المرأة وما زال؟! اذن نحن اليوم بحاجة الى إعادة صياغة الخطاب الذكوري المُقصِي للمرأة، والمبني على خرافات وترهات اسطورية، تتغافل عن دور المرأة العظيم في بعض المواقف والاحداث والازمان وتنال وتنتقص من المرأة بشكل عام وهذا تناقض سلوكي وفكري وعقدي نفسي بالرجل.
واذا كانت رؤية وادعاءات هذه الميثولوجيا صحيحة وحقيقية ومنطقية فكيف تنظر او نفسر الحركات النسوية العالمية اليوم التي تبلورت بنشاط ثوري فكري كفاحي سلمي، من قبل نخبة من النساء الثوريات والمفكرات والفيلسوفات والمثقفات والاديبات والمتعلمات والناقدات... امثال: (سيمون دي بفوفار، وسوزان مللر ومارغريت كافديش، اليزابيث كادي ستانتونت بيتي فرايدان، وماري ولستون كرافت، شارلوت بيرونتي، اليس شفارترز، لويزا اتو بيتراز، وجوليا كرستيفا ونناسي، ميلي دافسون، وليندا جيل شفرد، باربارا، والهندية شاندرا موهانتي ونافرمان وتاراباي وايغاري..والنسوية العربية أمثال مي زيادة، وهند نوفل وانيسة نجار، وسحر خليفة، ونازك العابد، وهدى شعراوي، ونوال السعداوي، ونازك الملائكة وفدوة طوقان ويمنى العيد، وغادة السمان وحميدة نعنع ولطيفة الدليمي وانعام كججي... الا انها اصطدمت بعدّة معوقات أولها: انها اصطدمت بمعارضة شديدة من النساء الملونات (السود) في الغرب وفي بادىء الامر، كون المرأة البيضاء (الغربية) شاركت الرجل الابيض الغربي في اقصاء وتعنيف المرأة الملونة، وكذلك اصطدمت بالمرأة الاسيوية المعارضة لها بشكل عام (الصينية والهندية والباكستانية والعربية والإسلامية..) وغيرهن ممَن يجدن ان الحركة النسوية الغربية ماهي الا هيمنة اخرى ومن نوع اخر بوصفها ثقافة غربية وغريبة عليهن تتناقض وتتعارض مع الثقافة النسوية الشرقية. كذلك اصطدمت الحركة النسوية الغربية في الحركة النسوية الاشتراكية الماركسية المادية التي نظرت الى المرآة من جانب مادي ايضا... وتعارضت مع تفاوت المستوى الطبقي والفكري واللغوي والثقافي والديموغرافي العالمي النسوي. اذا المراة ككيان بشري هي تعاني من المخاضر الفكري والثقافي البيئيى والثقافي والجغرافي والطبقي والعقائدي الذي يختلف من بلد الى اخر او منش عب الى اخر فالمجتمعات والأديان المغلقة تضع تابوهات خطرة وشديدة على المرأة يصعب على الحركات النسوية اختراقها وتفليش بناها التحتية العميقة والمتجذرة في وعي شعوبها المنغلقة، لذلك وجدت صعوبة بالغة في توحيد وجمع كل نساء العالم تحت مظلة نسوية واحدة موحدة ولكن هذا لا يعني نهاية المطاف حين تؤسس النسوية وعيا نسويا علميا ثقافيا واعيا، يستوعب كل مخاضات الاحداث التي تتعرض لها النسوية يوميا، وان يقف على ارض قوية ويناضل من اجل ترسيخ النظرية النسوية ودعم الحركة الثورية السلمية الثقافية وانتزاع الحقوق. مايهمنا اليوم هو ان تأخذ الحركة النسوية العراقية على عاتقها تشكيل اجتماعي محلي وعربي وحتى دولي نسوي حركي فكري، يأخذ بنظره الاعتبارات والدروس والتجارب النسوية السابقة، لتلافي الوقوع في نفس الأخطاء او كماشة التشريق والتغريب والبطرياكية.. وكذلك يغذّي نفسه تغذية فكرية وعلمية وثقافية وادبية شاملة ومعمقة، ويحذر شديد الحذر من الالغام التي وقعت بها النسويات الشرقية والغربية على حد سواء، (الليبرالية والاشتراكية والعلمانية والراديكالية) وان تشق المرأة العراقية لنفسها طريقا يلاءم ظروفها وطبيعة وثقافة مجتمعها وخصوصيتها داخل هذه المساحة المتاحة. بعيدا ان الانبهار بثقافة الاخر والاستسلام والتبعية له وبعيدا عن ثقافة التقليد الببغاوية او الإباحية التي جعلت من المرأة سلعة تجارية تحط من قدرها وتزعزع ثقة الرجل بها، وان تنخلع من ثقافة التهميش والاقصاء التسطيحية المحلية. وهذا يتطلب تعبئة وتوعية المرآة ثقافيا وعلميا، لتعيد ثقتها بنفسها وكرامتها المجروحة اولا، ثم التركيز على نتاجها وعطائها الفكري والعلمي والادبي والثقافي وتسويقه بصورة مهذبة ومؤدبة، ضمن خطاب متين رصين حصين لا يدخله الشك لا من شماله او يمينه، لتكسب ثقة الرجل المهزوزة بها منذ بداية الخلق، وتكسر حاجز الخوف والقلق الذي انتاب الذكور جراء السلوكيات المنفلتة لبعض النساء اللواتي استغلن طيبة او عطف الرجال لارتكاب بعض الجرائم المخيبة لهم، وبعض النساء اللواتي وجدن الحرية المنفلتة والمفرطة نوع من انواع التحرر من الذكورية والأعراف الاجتماعي كصاحبات المحتويات الهابطة والاعلانات التجارية الماجنة التي تحطّ من كيان المرآة -ككيان ظريف وجميل وانيق وحميمي ولطيف ورقيق- لتبرر استخدام العنف ضدّ الرّجال والانفصال النهائي. وهذا ما لا يليق بها كآخر صنو وشريك وصانع لهذه الحياة، اذ بلا وجودها لا حياة ولا سعادة ولا نسل ولا ديمومة ولا أطفال ولا تربية ولا رفقة ولا صداقة ولا حميمية ولا جمال ولا نشوة...
لا نريد للمرأة ان تندفع بقوّة من دون تخطيط مسبق يضمن لها الخطوات الواثقة والحاسمة والقانونية، وهذا لا يتم الا عبر سنين من التوعية المتنوعة العلوم والثقافات واللغات. علينا ان نعيد ثقة المرآة بنفسها وانوثتها وفكرها اولا بخاصة نساء القرى والارياف الامّيات. ثم دمجها للعمل في كافة مؤسسات الدولة وفي مختلف الاختصاصات والمجالات، والتركيز على دورها الانتاجي الفكري المعرفي الذي يقلّل من عمليات التعامل معها كسلعة وتوسيع عملية فهم وتفهم وتحاور المرآة مع الاخر، ودعمها اقتصاديا وقانونيا لتكون قوية وحرّة وصاحبة قرار مستقل قوي وجريء وشجاع، يخدم وجودها وكيانها وحريتها واستقلالها. لذلك تُقاس اليوم المجتمعات المتطورة والمتحررة بمدى تطور المرأة وحريتها وانتاجه. فالمسالةُ مسالةُ ازمة ثقة بين الرجل والمرأة منذ بدء الخليقة علينا ان نعيد الثقة بين الجنسين (ادم وحواء) بأبعاد النظرة الدونية للمرأة ومنحها فرصة التعبير عن نفسها وممارسة حرية عملها، ولنرى ولنلمس انتاجها قد تتغير وجهة نظرنا التي اسستها الميثولوجيا الأسطورية في غابر الازمان، فليس من المعقول ان نعشقها ونتزوجها ونعاشرها ونعتبرها أمّا حبيبة وعشيقة وزوجة وجارية وابنة واخت، وفي نفس الوقت نقتلها حيّة ونعتبرها عارا وعورة، ونتهمها بالعطل والفشل من دون ان نعطيها فرصة التعلم والعلم والعمل والتحرر والمساواة معنا، ونأتي بعد هذا كلّه ونحملّها تبعات ووزر واخطاء لا ذنب لها؟!.
***
دكتور واثق الحسناوي
العراق جامعة المثنى