أقلام ثقافية

علي الطائي: ما يبقى بعد سقوط اللغة.. هذا هو الشعر!!

هل الشعر ما يُقال في لغته فقط، أم ما يبقى حين تُنزع عنه لغته؟

هذا السؤال، على بساطته الظاهرة، ينسف قرونًا من الاطمئنان النقدي، ويضع الشعر كلّه — قديمه وحديثه — أمام محكمة المعنى لا محكمة الوزن، وأمام اختبار البقاء لا اختبار الطرب.

إذا كان الشعر مجرّد موسيقى لفظية، فإن فقدان لغته يعني موته الفوري. وإذا كان الشعر معنى متجسّدًا في صورة، فإن اللغة ليست إلا جسده المؤقّت، أما روحه فتظل قادرة على العبور. هنا يقع الفاصل الحاسم بين الشعر بوصفه لغة والشعر بوصفه تجربة إنسانية. فليس كل ما يُطرب الأذن شعرًا، ولا كل ما يُوزن ويُقفى يملك حق الخلود.

القصيدة التي لا تُفهَم إلا داخل لغتها، ولا تُدهِش إلا من يعرف أسرار صرفها ونحوها، قصيدة هشّة. إنها تعتمد على الامتياز اللغوي لا على العمق الإنساني. وحين تُترجم — أي حين تُعرَّى من زخرفها الصوتي — تسقط فجأة، كتمثال من الجبس كان يبدو من بعيد رخامًا. هنا نكتشف أن كثيرًا مما دُعي شعرًا لم يكن سوى مهارة لغوية بلا رؤية، أو استعراض لفظي يخفي خواءً داخليًا.

أما الشعر الحقيقي، فهو الذي ينجو من الترجمة ولو خسر شيئًا من موسيقاه. قد يخسر الإيقاع، وقد تبهت القافية، لكن الفكرة تبقى، والصورة تصمد، والرجفة الإنسانية تصل. نحن لا نقرأ هوميروس اليوم باليونانية القديمة، ولا نقرأ شكسبير بلغته الأولى كما نطقها، ومع ذلك ما زال الشعر شعرًا، لأن ما يُنقَل ليس الكلمات فقط، بل التجربة، والقلق، والسؤال. ما يُترجم هنا ليس اللغة، بل الإنسان.

اللغة في الشعر العظيم ليست غاية، بل وسيلة. هي الجسر لا الضفة. أما حين تصبح اللغة هي كل شيء، يصبح الشعر أسيرها، ويموت خارجها. لذلك فإن القصائد التي لا تُحتمل إلا في سوقها الأولى، أو في قبيلتها، أو في زمنها، ليست قصائد خالدة، بل وثائق لغوية. لها قيمتها التاريخية، نعم، لكنها لا تملك الحق في الادّعاء بأنها فن إنساني باقٍ. وهذا ينطبقُ على أغلبِ الشعرِ القديم.

والسؤال هنا ليس ازدراء اللغة، بل تحرير الشعر منها. اللغة وعاء، لكنها ليست الجوهر. الجوهر هو ما يُقال عن الخوف، والحب، والموت، والخذلان، والبطولة، والعبث. هذه معانٍ لا تنتمي إلى لغة بعينها، بل إلى الإنسان. وحين يستطيع النص أن يلمس هذه المناطق، فإنه يفرض نفسه حتى على من لا يشاركه لغته.

من هنا يمكن فهم الفارق بين شعر يُحفَظ لأنه “فصيح”، وشعر يُحفظ لأنه “صادق”. الأول يُدرَّس، والثاني يُعاش. الأول ينهار خارج لغته، والثاني يتكاثر بالترجمة. الأول يحتاج شُرّاحًا، والثاني يحتاج قرّاء. وليس هذا حكمًا أخلاقيًا، بل معيار جمالي قاسٍ، لكنه عادل.

إن أخطر ما وقع فيه النقد العربي القديم — وتبعه الحديث — هو الخلط بين سلامة اللغة وقيمة الشعر. فصار النص يُعظَّم لأنه صحيح نحويًا، أو جزليّ الألفاظ، لا لأنه يقول شيئًا يستحق أن يُقال. وهكذا امتلأ التراث بنصوص صلبة لغويًا، هشة إنسانيًا. وحين نجرؤ على طرح سؤال الترجمة، تنكشف الحقيقة: ما يبقى هو الشعر، وما يسقط هو القناع.

إذًا، الشعر الحيّ ليس ما يُقال في لغته فقط، بل ما ينجو حين تُنزع عنه لغته. وما لا يستطيع العيش خارج جلده اللفظي، لم يكن شعرًا كاملًا، بل احتمال شعر. والخلود، في النهاية، ليس هدية من الزمن، بل نتيجة طبيعية لنصٍّ مسَّ الإنسان، لا أذنه فقط.

***

د. علي الطائي

 

في المثقف اليوم