أقلام ثقافية
حميد بن خيبش: أحمدو كوروما.. الروائي شاهدا
في غياب المعايير والقيم، والقواعد العامة التي تنظم الحياة الاجتماعية، فإن البلد، أي بلد بدون شك، يصبح عرضة لقطاع الطرق. وحين نتفحص العالم الروائي للكاتب الإيفواري أحمدو كوروما، فإن تلك الحقيقة تبدو مفجعة إلى حد بعيد. إن قطاع الطرق في نصوص كوروما يتقاسمون كل شيء: الثروة، والأرض، والشعب، بينما العالم بأسره يتغاضى عن ذلك، ويسمح لهم بقتل الأبرياء من أطفال ونساء بلا رادع.
كان على كوروما أن يقاتل من أجل الحلم الإفريقي بصوته وقلمه، وأن يندد بما تتعرض له أفريقيا السوداء بعد الاستقلال من خيانة النخب، وتنصيب الديكتاتوريات العسكرية تحت وطأة الحرب الباردة، والصراعات القبلية الدامية التي ابتليت بها القارة السمراء لسنوات عديدة.
سنة 2000 نشر كوروما روايته اللاذعة "الله غير ملزم" Dieu n’est pas obligé. ظهرت الترجمة العربية سنة 2003 بقلم عدنان محمد، تحت عنوان "الله يفعل ما يشاء". ويشكل هذا العمل شهادة على المعاناة المريرة للأطفال الذي جُنّدوا كمقاتلين، في الحروب الأهلية التي شهدتها ليبيريا وسيراليون خلال تسعينيات القرن الماضي. والشاهد في النص طفل في العاشرة يدعى بيراهيما.
منذ السطور الأولى للرواية سيُصدم القارئ من وحشية السرد بضمير المتكلم. قرر بيراهيما الذي بلغ من العمر ستة عشر عاما، أن يجيب على سؤال طرحه عليه ابن عمه الدكتور مامادو، بينما كان جالسا في المقعد الخلفي لسيارة دفع رباعي:
" يا صغيري بيراهيما، أخبرني بكل شيء، أخبرني بكل ما رأيت وفعلت؛ أخبرني كيف حدث كل ذلك.."
غير أن بيراهيما المراهق لا يملك سوى رؤية جزئية للأحداث، أما الكاتب الذي يبدو للوهلة الأولى أنه محا نفسه طواعية أمام البطل، فيكشف عن نفسه بقوة، خاصة حين يعرض للتطور السياسي في سيراليون، ويقدم للقارئ أحكاما وتحليلات تتجاوز قدرة طفل شارك في الحرب القبلية الدائرة. ويبدي نقمته على كبار الشخصيات في القارة الإفريقية ممن يعتبرهم مسؤولين عن الفوضى العارمة.
بعد وفاة والدته قررت عائلته أن تعهد به إلى عمته. وخلال الرحلة التي رافقه فيها يعقوب، المعالج الشعبي والمحتال، نستكشف حجم الرعب الذي اكتنف سندباد كوروما في سعيه للبحث عن عمته ماهان:
" بما أننا كنا مفلسين كان علينا أن نؤجر أنفسنا؛ يعقوب كمعالج شعبي مسلم، وأنا كجندي طفل. من معسكر محصن إلى مدينة محاصرة، ومن عصابة لقطاع الطرق إلى أخرى، قتلت عددا لا بأس به من الناس ببندقية الكلاشنيكوف الخاصة بي. الأمر سهل. نضغط عليها فتطلق النار. لا أدري إن كنت قد استمتعت به. أعلم أنني عانيت ألما شديدا لوفاة العديد من أصدقائي الأطفال المجندين، لكن الله ليس ملزما بالعدل في كل ما خلقه في هذه الدنيا.."
يترتب عن قراءة هذه الشهادة الروائية لكوروما، بل عن مجمل أعماله الأدبية، تساؤلات جيوسياسية حول مصير الدول الإفريقية ما بعد الاستعمار؛ إذ يواصل الكاتب إثارة النقاش حول الغموض في سياسة الغرب الإفريقية، واستمرار نماذجه المختلفة في السياسة والاقتصاد والثقافة. إن الكوارث التي تغذي وتتخلل الإنتاج الروائي لكوروما ليست سوى نتيجة للحرب الباردة التي دفعت الغرب لتنصيب مجرمين وقتلة يمثلون المعسكر الغربي أو الشرقي. من هذا المنطلق يصبح بيراهيما رمزا للكاتب الشاهد، مما يفتح النص على مستويات أخرى للتأويل حين يسمي الراوي شخصيات تاريخية حقيقية، لا سيما قطاع الطرق الأربعة الذين فرضوا سيطرتهم على ليبيريا: صامويل دو، وتايلور، وجونسون، والحاج كوروما، بالإضافة إلى تحديد دقيق للحظة التاريخية التي جرت فيها أحداث الرواية: " كان ذلك في يونيو 1993".
وُلد كوروما في بانديالي بساحل العاج سنة 1927، وتولى عمه رعايته قبل أن ينتقل إلى باماكو لمتابعة دراسته، غير أنه طُرد بسبب نشاطه الطلابي، وتم تجنيده قسريا في الجيش الفرنسي سنة 1950 ليقضي أربع سنوات في الهند الصينية، حيث توجه بعدها إلى باريس ليدرس الرياضيات.
عاد كوروما إلى بلاده سنة 1960 بمجرد الإعلان عن استقلالها. إلا أن مواقفه المعارضة لنظام الرئيس هوفيت بوانيي عجّلت بسجنه ثم نفيه خارج البلاد. ولم يتمكن من العودة إلا بعد ثلاثين عاما.
نشر كوروما روايته الأولى" شموس الاستقلال" سنة 1968، حيث وجه نقدا شديدا للأنظمة الديكتاتورية التي تسلمت إدارة إفريقيا جنوب الصحراء، كما ألقى باللوم على الرجل الأسود غير المكتمل، والذي فشل في استثمار لحظة التحرير لإعادة تجميع هويته المجزأة، وإرساء علاقات دولية سليمة.
لم ينشر كوروما خلال حياته سوى أربع روايات، تدور في مجملها حول هوية الإفريقي المثقل بهموم الاستعمار والعرقية، ومأزق القيم والتقاليد داخل عالم يجنح بقوة نحو العولمة والحداثة. وهي تشكل لوحة أدبية آسرة، حيث نستكشف مع مؤلفها، وبجرأة ساخرة ومفجعة، تاريخ إفريقيا المعاصر، من الاستعمار إلى الإبادات الجماعية غداة الاستقلال، ومن العبودية إلى التشريح الدقيق لعلاقة الإفريقي بسلطة مزيفة، تعيد إنتاج صورة مشوهة عن الحرية والاستقرار.
كان مستمعو إذاعة "فرانس إنتر" أول من لفت الأنظار إلى أدب كوروما في فرنسا، وتم منحه جائزة سنة 1999 عن روايته" في انتظار تصويت الوحوش البرية". وفي عام 2000 حصل على جائزة رينودو عن روايته "الله ليس ملزما". وبينما كان يعمل على نص جديد بعنوان " عندما ترفض، تقول لا" وافته المنية سنة2003 في منفاه الأخير بفرنسا عن عمر ناهز السادسة والسبعين. وأعلنت عائلته أن رفاته سيعاد إلى ساحل العاج لدفنه حالما يسمح الوضع السياسي بذلك.
لا يمكن أن نعدّ شخصية بيراهيما بطلا بالمعنى المألوف في عالم السرد الأدبي، إذ حرص كوروما على أن يجسد الجنديُ الطفل صورةَ الشاهد المنخرط بعمق في الواقع من حوله، والذي يتشارك مع المؤرخ المعاصر مسؤولية مزدوجة: نقل ما لم يُروَ لإبقاء الذاكرة حية، والوفاء لآلاف الجنود الأطفال الذين سقطوا في الحروب القبلية وليس لهم اسم ولا قبر.
في إحدى مقابلاته الصحفية، أكد أحمدو كوروما على أن مجمل أعماله الروائية ترتبط ارتباطا وثيقا بمسألة الشهادة:
"لطالما رغبت في أن أكون شاهدا. أكتب وأقول: هذا ما رأيته.. هذه المرة اخترت الحرب الباردة، ورأيتها بنفسي. إن محور روايتي"في انتظار تصويت الوحوش البرية" هو بالنسبة لي أن أكون شاهدا. رؤيتي للتاريخ هي التي تشكّل جوهر رواياتي".
يواصل بيراهيما مسيرته كجندي طفل، متنقلا من حلقة دموية إلى أخرى. وبين الفينة والأخرى تستوقف القارئ مقاطع رثاء لتكريم أحد الضحايا. إن خطبة الرثاء التي تتكرر في أكثر من موضع تؤكد دور الشاهد في مواجهة الموت والغياب. الرثاء ليس فقط مهمة لغوية بقدر ما يعكس التربط بين الذاكرة والكتابة والموت، لذا كانت إحدى أقدم آثار الكتابة نقوشا جنائزية!
على مستوى اللغة ابتكر كوروما أسلوبا يمزج بين اللغة الفرنسية وتعبيرات المالينكي، وهي الجماعة العرقية التي ينتمي إليها الكاتب، لذا تميز أسلوبه بالعفوية والصرامة، مع استحضار الأمثال والكلمات البذيئة، والمفارقات التي حولت لغة موليير إلى أداة تعبير إفريقية، تجمع بين الاستفزاز والعمق الفلسفي.
منح كوروما صوته الفريد لإفريقيا ومن خلالها لكل الضعفاء الذين سحقتهم مصالح كبرى تفوق إدراكهم. وعبر سيل جارف من الكلمات وجّه إدانة قوية لجرائم لازالت ترتكب ضد الإنسانية، بينما يغرق العالم في اللامبالاة التي تشبه التواطؤ الصامت. ولعلها ليست مصادفة أن يكون معنى كوروما في لغة أسلافه المالينكي تعني: المقاتل!
***
حميد بن خيبش







