أقلام ثقافية

ناجي ظاهر: في ذكرى صديقين راحلين

ودّعنا قبل سنتين، في مثل هذه الايام، ضمن بحرٍ التوديعات الهائج اللجب، صديقين عزيزين إلى مثواهما الأخيرين. هذان الراحلان تركا بصمة واضحة في دفتر حياتنا الثقافية عامة، الأدبية والموسيقية خاصة، فقد ترك الشاعر حسين مهنا تراثًا شعريًا ونثريًا أيضًا يدُّل على خصوبة عطائه وسخاء قريحته، فيما أعطى سهيل رضوان حياتنا الموسيقية ما أغناها وأثراها سواء كان ذلك على المستوى المحلّي أو المستوى الخارجي. فيما يلي أتحدّث عن كلّ من هذين الراحلين الغاليين متطرقًا إلى نتاج كلّ منهما الثرّ السخي على انفراد وإلى علاقتي الشخصية بكلّ منهما، تاركًا للشبكة العنكبوتية الالكترونية العالمية غوغل البقية للتعريف بهما وبما قدّماه من أيادي بيضاء لحياتنا صعبة الوجود مُركّبة الواقع.. في بلادنا العزيزة الغالية.

* لقد هزّني كليًا رحيل الصديق الشاعر القاص حسيين مهنا الابن المُخلص لبلاده عامة ولبلدته البُقيعة خاصة. وأعادني إلى أوّل عهدي بمعرفته، فقد كان اللقاء الأول، كما في معظم اللقاءات بالمعروفين من أهل الادب والفن، عبر وسائل الاعلام التي نشر فيها شيئًا من نتاجاته الأدبية، وأذكر منها صحافة الحزب الشيوعي "الاتحاد" و"الجديد"، وقد عرفت عنه قبل أن التقي به، أنه رفض التجنيد الالزامي المفروض على الشبان من بني معروف، ودفع ثمنًا لرفضه هذا غاليًا اعتاد على دفع مثله مَن رفض التجنيد الالزامي، وهم ليسوا قلة من أبناء الطائفة المعروفية. أما ذلك الرفض فقد جاء لأسباب ضميرية فكيف يتجنّد الأخ ضد أخاه وكيف يمكنه أن يقف في ساحة الوغى شاهرًا سلاحه في وجهه؟.. بعد رفضه هذا كنت أتابع عطاءه الادبي في المجالين الشعري والنثري، إلى أن عملت مساعدًا للمحرر الادبي الكاتب الصديق محمد علي طه، في صحيفة "الاتحاد" في أواخر السبعينيات، وتصادف أن التقيت بحسين خلال إحدى زياراته للصحيفة، أسوة بعدد وفير من كتّابنا وشعرائنا ممن تردّدوا زوّارًا على الصحيفة المبجّلة، وأذكر أن الحديث دار بيننا في حينها وكأنما أحدنا يعرف الآخر دون أن يلتقي به وجهًا لوجه. وما زلت أتذكر أننا تبادلنا الحديث بمودةِ ومحبةِ مَن عرف داخلية الآخر واطلع على ما كتبه ونشره من أعمال أدبية في الفترة السابقة. ذلك اللقاء كان فاتحةً لعلاقة سوف تتواصل حتى أيامه الأخيرة في الحياة، وسوف تتضمّن ذكريات وذكريات كان بإمكانها أن تشعل نار المودة إلى ما بعد رحيله، كما يرى ويلمس الاخوة القراء الآن.

مما أذكره عن حسين هو تواضعه الجمّ وعلمه الغزير، فقد كان متواضعًا حدّ البساطة عالمًا حدّ الاغوار البعيدة السحيقة من العلم. على المستوى الأول من تواضعه أذكر حادثتين إحداهما تتمثّل في انتقادي لمؤسسة ما منحته جائزتها البكر الأولى الجديدة، دون أن تقدم المسوّغات الواقفة وراء منحه جائزتها الطريّة تلك، وكان أن امتدح ما كتبته وأخبرني أنه يوافق على كلّ ما كتبته حول منحه تلك الجائزة. فكبُر في عيني أكثر، والأخرى عندما كتبت مقالة في مديح قصيدة الحب رائيًا فيها قمة في الحضور في كلّ الأوقات وأذكر أنه كان في حينها من أوائل المُشجّعين المحبذين لكتابة مثل هكذا شعر، بل إنه أصدر بعدها مجموعة شعرية ضمّت بين جانحي عنوانها كلمة الحب. أما على مستوى العلم الغزير فاذكر له بحثه المُجدّ عمّا يمكن أن يثري ذاكرته من الكتب وأذكر في هذا السياق أنه أطال البحث عن كتاب الشعراء الصعاليك للكاتب الباحث المصري الادبي الدكتور يوسف خليف، كما أذكر بحثه الدائب عن الكتاب الخالد وهو الكوميديا الإلهية لدانتي الليجيري بترجمة المصري الرائع أحمد عثمان.. فقد بحث عن هذين الكتابين حتى عثر عليهما، وكان حسين عميق التفكير مطلعًا قلما خلت جلسة فيما بيننا من معلومات واستعادات لكتابات وكتّاب ممن يذكرهم الجميع وأحيانا ممن لا يذكرهم أحد تقريبًا. أما حافظته الشعرية فقد كانت من الأغنى والأكثر ثراءً. ويُسجّل له في هذا المجال عطاؤه الادبي متعدد الأنواع، فقد كتب وابدع طوال أيام حياته الأدبية في الشعر والقصة وقدم عطاءً جيّدًا ما زال ينتظر مَن يتناوله بالدرس والتقييم من اجل إعطائه ما هو جدير من مكانةٍ مُستحقة في أدبنا العربي في بلادنا، وأشير هنا بكثير من المحبة إلى كتابه الرائع "سرير ابيض"، الذي أصدره قبل سنوات بعيدة وتحدّث فيه بإبداع حقيقي عن مواجهته للموت وجهًا لوجه.. وتخلّصه منه في المرة الأولى وهو ما لم يحدث في المرة الثانية بعد ردح من الزمن. وأعيد هنا ما سبق وكتبته عن حسين شاعرًا وأديبًا عازف عن الشهرة المجانية غارقًا في بحور الابداع العميقة مكتفيًا بالزيارات الغالية لملكة الابداع.. صديقته الوفية المُخلصة حتى أيامه الأخيرة، وبإمكان مَن يود أن يبحث عمّا كتبته عنه في الشبكة العنكبوتية الالكتروني، فهو موجود فيها.

* أما رحيل الصديق العزيز سهيل رضوان، بعد رحيل شاعري الصديق حسين مهنا، فقد أعادني إلى سنوات الطفولة المبكّرة وإلى محطّات تالية غنيّة وذات دلالات خاصة معه. بداية معرفتي بالمرحوم كانت بعيدة جدًا ومما أذكره عنه في حينها.. أيام زار مدرستنا الابتدائية ليقوم بمهمته مفتّشًا لموضوع الموسيقى الذي تتيّمت به وما زلت من عشاقه المولّهين. في ذلك اليوم البعيد العصيّ على التذكُّر مع ضابيات الزمان وتعاقباتها.. ها هو اسمه شبه المُقدس يتردّد على شفاه الجميع من ذوي العلاقة في المدرسة. يومها دخل غرفة الدرس. مثل ملك انتدبته الآلهة، قدّم عددًا من الملاحظات وخرج مثل ملك يحيط به الجمال والجلال. وتمضي السنوات لنرتفع صفًا إثر صفّ ولنتعلم أناشيد من ألحانه وكتابة شعراء من بلادنا، تلك الأناشيد

 تُمجّد في بعضها الطبيعة وفي بعضها الأخر الانسان، وها نحن نردّدها بمحبة وإكبار، الامر الذي سيدفعني فيما بعد لأن اقترح عليه، وكان هذا قبل سنوات أن يلحّن نشيدًا في محبة مدينتي الحبيبة الناصرة وجبالها الراسيات، فيستجيب لطلبي هذا ويقدّم خدماته التبرّعية المجّانية خلال فترة ليست قصير من الوقت خدمة ومحبة للأولاد والبلاد.

في سياق الحديث عن هذا الرجل المموسق، أتذكر أن علاقتي الجدّية به ابتدأت في أوائل التسعينيات وكان ذلك خلال قصة تروى، لكن ليس بالتفاصيل المملّة، وما زلت أتذكر يومها أنه أسس فرقة الموسيقى العربية التي ستُغني حياتنا الفنية في البلاد وخارجها، قدمت قصيدة ملحّنة ومغناة من كلمات عشقتها للشاعر العربي العريق الحسن ابن هاني، أبي نواس، وتمّ تقديمها ضمن حفل أقيم آنذاك في قاعة النادي الارثوذكسي في مدينتي الناصرة. وبما أنني منذ قرأت تلك القصيدة خطر في بالي أن تُلحّن وتقدم على اعتبار أنها من روائع الشعر، فقد لاحظت أن اللحن لم يكن مناسبًا للكلمات الرائعة الساحرة، فهمست بانتقادي هذا لبعض الأصدقاء، لأفاجأ بعد أيام بمدير فرقة الموسيقى العربية، سهيل رضوان، يتصل بي داعيًا إياي إلى جلسة خاصة نتداول فيها الرأي، ولا أخفي أنني ذهبت إلى تلك الجلسة وقلبي يدق، غير أن ما حدث كان من شأنه أن يهدّئ بالي وأن يطمئن نفسي، فقد فوجئت بالمدير يرحب أولًا بالنقد البنّاء ويناقشني مُناقشة مَن يريد أن يستمع إلى رأي آخر، صادق ومختلف للتعلم منه وللانطلاق خطوة أخرى في مسيرة فرقة الموسيقى العربية. أذكر أنني لم أغادر مكاتب فرقة الموسيقى العربية، وقد كانت تقوم آنذاك في الحي الشرقي من مدينتي الناصرة، إلا وقد ضمّني مؤسسها ومديرها إلى هيئتها الإدارية. وكان أن علاقتي بالفرقة أخذت تتوطّد يومًا بعد يوم وفترة إثر أخرى، لأجد صاحبها الطيّب يوكل إلي تحرير كلّ نشراتها، بل ليعتمد عليّ في تحرير كتابه عن الشعراء العرب الفلسطينيين الشعبيين، وليوكل إليّ كتابة مقدمته. لقد رافقته في طاقم الفرقة سنوات وسنوات، وتعاونت معه في كلّ ما متّ للأدب والاعلام بصلة منذ تلكم الأعوام حتى أواخرها عندما جاء ليخبرني، قبل سنوات، بأنه قرّر الرحيل إلى حيفا والإقامة بين الاهل والاحباء، ولتقتصر علاقتي به بعدها بالاتصالات التلفونية. ما عدا هذا أسجل فيما يلي ملاحظتين أراهما غاية في الأهمية، فيما يتعلّق بهذه الشخصية المؤثرة. إحداهما تتعلّق بكونه مُعلمًا مسالمًا، آثر أن يحافظ على هذه الصفة في كلّ ما قدّمه وأعطاه ، مبتعدا عن السياسة قدر الإمكان ومقتربا من الفن بلا حدود، والأخرى انه كان دقيقا متابعًا لكلّ ما يقوم به من أعمال ويقدّمه لحياتنا الفنّية من موسيقى وغناء. وقد رافقته فيما كان يُقدّمه من برامج مِن الفها إلى يائها، لأراه يبذل كلَّ ما بوسع إنسان محبّ للفن وعاشق لروعته.. أن يقدّمه.

رحم الله هذين الصديقين المعلمين وأدام ذكرهما.. لما استحقاه من تقدير واحترام.. باقين وراحلين أيضًا.

***

بقلم: ناجي ظاهر

 

في المثقف اليوم