أقلام ثقافية
ناجي ظاهر: عن الكتابة الروائية وحولها.. مورافيا نموذجًا

قدّم الكاتب الإيطالي البرتو مورافيا بحياته وكتابته نموذجًا حيًا لكاتب عصريّ لافت، ويُمكن التعلّم من تجربته فيما يتعلّق بالكتابة وفيما يحيط بها، كما سيأتي، فقد استعد للكاتبة استعدادًا تامًا، ورغم أنه لم يتلقَ تعليمًا مُنظّمًا، إلا بحدود أقل مِن الدراسة الثانوية، إلا أنه تمكّن مِن أن يثقّف نفسه وأن يتغلّب على المرض الذي ألمّ به، وعطّله نوعًا ما عن مواصلة دراسته، وتوجهه إلى الكتابة بمنتهى الجِدّية، ليضع روايته الأولى وهو لمّا يتجاوز العشرين من عُمره إلا بعامين اثنين فقط.
البرتو مورافيا، واسمه الأساسي البرتو بنكيرلي (28 تشرين الثاني من عام 1907-26 أيلول من عام 1990)، ولد لعائلة من الطبقة المتوسطة، وكان أبوه رساما ومهندسا يهوديًّأ يدعى كارلو، وأمّه كاثوليكيّة تدعى تيريزا ليجيانا. كما سلف، أصيب البرتو مورافيا في يفاعته الأولى بمرض السُلّ، ما حدّ مِن حركته مُدةَ خمسة أعوام، وأدى بالتالي إلى توقّفه عن الدراسة.. وقد ابتدأ الكتابة في الثانية والعشرين من عمره، وكانت روايته الأولى تتحدّث عن زمن اللامبالاة واستقبلها النُقّاد باهتمام شديد، كونها ولدت أقرب ما تكون من التكامل الروائي. بعدها تتالت رواياته في الصدور لتكرّسه واحدًا مِن أكبر كتّاب القرن العشرين، ليس في بلاده إيطاليا وحسب، وإنما في مختلف انحاء العالم، وفي العديد من اللغات، ومنها اللغة العربية التي تُرجمت إليها معظم رواياته، وصدرت في بيروت عن دار الآداب وغيرها، وتعرّف عليها القارئ العربي بصورة جِدية أكثر مما تعرف عليها في الفترة السابقة على الستينيات الأولى، علمًا أإن العديد من روايته تحوّل إلى أفلام سينمائية، نذكر منها رواياته: امرأة من روما، وامرأتان، وقد كتبت عن هذه الرواية قبل العشرات من السنين، إضافة إلى روايته السأم، ومن رواياته المعروفة لدى القارئ العربي نذكر روايته انا وهو. كان مورافيا مِن أشد المُناهضين للفاشية في بلاده، لا سيّما في الفترة التي عاش فيها، وأقصد بها فترة ما بين الحربين العالميتين، وقد تمحّور الموضوع الذي برز في كلّ ما كتبه حول الجنس بوصفه الحقيقة الأولى في الحياة. علمًا أنه تأثر بكاتبين بارزين هما دوستويفسكي وجيمس جويس، وقد صرح انه اخذ عن الأول البناء الفني للكتابة الروائية، في حين أنه أخذ عن الثاني براعته التحليلية للنفس البشرية.
انتج مورافيا خلال عمره الادبي المديد والحافل (عاش 82 عامًا)، العديد مِن الروايات وكان ناشطًا ثقافيًا، فقد كان يحرّر مجلة ثقافية، ويساهم في حياة بلاده الأدبية بصورة فعّالة، ولعلّ هذا كله يدفع الاخوة القراء إلى طرح السؤال الصعب، وهو كيف تمكّن مِن تحقيق كلّ هذه الإنجازات الروائية اللافتة؟.. وفي الإجابة عن هذا السؤال المُهم، الذي يعني الكثيرين معرفة الإجابة عليه، نقول إن مورافيا، كما تقول سيرتُه التي نشرت في أكثر مِن كتاب، مُختصرةً حينًا وموسعةً حينا آخر، انتهج منذ بداياته الأولى طريقة مكّنته مِن الإنتاج بغزارة وإبداع، وقد تمثّلت هذه الطريقة في جُلوسه يوميًا تقريبًا إلى طاولة الكتابة، ما بين التاسعة صباحًا والثانية عشرة ظهرا، ليكتب. ولنقرأ معًا ما يقوله أو يكتبه عن عادته هذه، يقول:" إنني لا أعرف مُسبقًا ما سأكتب لكنّني ابدأ الكتابة فإذا بالشخصيات والاحداث تعمر مُخيّلتي وتنثال على قلمي.. إنني اومن بالوحي، لكنّني لا أجلس بانتظاره كلّ صباح وإنما أسعى إليه". في هذا الوقت الصباحيّ يكتب البرتو مورافيا، وهو لا يُرسل ما يكتبه إلى الناشر إلا بعد إجراء المراجعة تلو المراجعة، إنه، كما يقول، عادةً ما يُعيد النظر فيما يكتبه مِن أعمال روائية، وما يقوله في هذا المجال إنه أعاد كتابةَ روايته ذائعة الصيت امرأة من روما ثلاث مرات، وأنه أعاد كتابة روايته السأم أربع مرّات، وقد قلّص حجم روايته الأخيرة هذه، من ألف صفحة في مسوداتها الأولى، إلى اقل مِن النصف، لتصدر في أربعمائة صفحة فقط.
يُعتبر مورافيا كاتبًا واقعيًا مغرقًا في واقعيته، ولنقرأ معًا ما يقوله عن قصته مع الكتابة الروائية، يقول:" أنا لا أعرف أن لي مذهبًا فأنا أكتب لأسلّي نفسي وأعبّر عن افكاري ولأمتع القرَاء بمشاركتهم فيها، ولكلّ إنسان في هذه الحياة، طريقته الخاصة في التعبير، وطريقتي أنا هي الكتابة".
إن ما يلفت النظر في تجربة هذا الكاتب المتألق، حتى أيامنا الجارية، برواياته ومسرحياته وبالأفلام التي اقتُبست عنها أيضًا، هو أنه لا يبذل جُلَّ وقته في التسويق لأعماله الروائية، كما يفعل الكثيرون من الكتاب في فترتنا الراهنة، وإنما هو، كما يقول، يبذل تسعين بالمائة في الكتابة وعشرة في المئة فقط بالتسوق، أما مُعظم كتاب فترتنا الملتبسة الجارية، فإنهم كما يتضح مما يُكتب ويُنشر عنهم، يبذلون مجهودَ عشرة بالمائة في الابداع الكتابي، وتسعين بالمائة في التسويق، الامر الذي يفرض سؤالّا جوهريًا ومركبّا حول أهمية ما يُكتب وينشر اليوم، او بالأحرى عدم أهمية. فهلا نتّعظ؟.. ونتعلّم درسًا في الكتابة الروائية وتسويقها مِن هذا الكاتب الفذ؟.. أرجو..
***
ناجي ظاهر
.......................
* الكاتب الروائي الايطالي البرتو مورافيا- درس في الابداع.