أقلام ثقافية
ثامر الحاج امين: محطة في حياة فنان

لا خلاف على ان النجاح لا يتحقق بدون الكفاح الجاد والمثابرة والثقة بالنفس، فالبحار الهادئة كما يقولون لا تصنع بحارا ماهرا، ولو تأملنا سيرة المبدعين واصحاب الانجازات الكبيرة لوجدناها لا تخلو من المقومات الآنفة الذكر، وهو ما لمسناه عن كثب من خلال مواكبتنا لعدد من تجارب الآخرين، ففي صيف عام 1978 الذي يمثل بداية عملنا الوظيفي في " مكتب تحريات التربة في الديوانية " حل علينا شاب وسيم هادئ قادم من مدينة الناصرية ليشاركنا العمل في الدائرة بصفة "رسام خرائط " وبعقد مدته شهور العطلة الصيفية للطلبة حيث تبين بعد ايام قليلة من مباشرته العمل ان الشاب يدرس في معهد الفنون الجميلة ببغداد قسم الرسم وان دافع قدومه للعمل بعيدا عن مدينته هو من أجل توفير نفقات ومصاريف السنوات الدراسية المتبقية له في المعهد، ودعما لهذا الهدف النبيل قام المدير بتخصيص احدى غرف الدائرة مكانا لمبيته، ولم تمض مدة طويلة حتى انسجم مع موظفي المكتب وراح يتبادل مع الجميع الحديث والطرائف، وفي أوقات الفراغ كنت المح الشاب يلوذ في زاوية من الغرفة وينشغل في تخطيط الوجوه بقدرة فنية عالية مستثمرا في ذلك مسودات الاوراق التالفة فهو يستغل انشغال العاملين ليقوم باقتناص واحد من الوجوه التي يراها مناسبة لقلمه وقدراته لينفذ تخطيطه، وكان الاسلوب الذي ينفذ به البورتريت هو الكاريكاتير حيث يقوم بتثبيت معالم الوجه مع المبالغة في تضخيم السمات البارزة فيه فيظهر الوجه بشكل يثير الضحك، وقد تسببت تخطيطاته بإشكالات مع العاملين الذين نالهم قلمه نتيجة موجة الضحك والسخرية التي كانت تثيرها بين صفوف الموظفين، توطدت علاقتي بهذا الشاب وكم من مرة وبعد انتهاء الدوام الرسمي اصطحبه الى البيت ليشاركني وجبة الغداء وكذلك في تمضية المساء معا فقد كان غريبا على المدينة لا يعرف فيها احدا، ولإعجابي بتخطيطاته وحرصي على توثيقها فقد زودته بكراس من الورق الابيض كي ينفذ عليها ما يشاء بدلا من الورق التالف الذي سرعان ما يذهب مع جهده الى سلة المهملات وقد حقق لي ذلك وما زلت احتفظ الى اليوم بالكراس المذكور ومن الوجوه التي نفذها بأسلوب الكاريكاتير كانت لصباغ احذية مميزا بذقنه المدبب ولحيته الكثة واثناء انهماك المذكور في خدمة الموظفين، كما انه وقبل انتهاء عقده نفذ لي لوحة الفنان الهولندي " رامبرانت " الشهيرة بـ " اختطاف جانيميد " هدية منه وتعبيرا عن وفائه وعمق الصداقة التي توطدت بيننا .
هذا الشاب أصبح اليوم فنانا تشكيليا عالميا مقيما في لندن ومعارضه الفنية تتنقل بين لندن وكوريا وفرنسا انه الفنان العراقي (سعدي داود) الذي بنى مجده الفني بالكفاح والمثابرة وقدم لما منجزا فنيا مميزا يستحق الاشادة والتقدير.
***
ثامر الحاج امين