أقلام ثقافية

محمد سعد: تلبانة.. أوائل السبعينيات

في صباحٍ ضبابي من تلك الأيام الخوالي، كانت شمس الشتاء الخجولة تلامس مياه الترعة الصغيرة التي تنساب من ماسورة تحت مركز شباب القرية القديم، آتيةً من الترعة العمومية التي تحتضن تلبانة كذراع أم حنون. كانت أشجار الكافور العتيقة تفوح برائحتها النفاذة، فيما تقف شجرة غريبة تميل بانحناءة أشبه بذراع يحتضن الصغار الذين يتسلقونها بحذر أو يجلسون عليها في انتظار القطار الفرنساوي.

على الجانب الآخر، عند كوبري المحطة، تقف قهوة الحاج يوسف، تلك البقعة التي تحمل روح القرية بكل تفاصيلها. قهوة صغيرة لكنها ممتلئة بالحياة، تتوسطها مصطبة عريضة مغطاة بحصيرة، كأنها أريكة ريفية تجمع بين المارة وأهل المكان. يجلس عليها رجال لهم سمات الوقار والخبرة، عماماتهم تلف رؤوسهم بإحكام، وأيديهم تلاعب فناجين الشاي الثقيل أو أكواب الشيشة المتراصة بجانبهم. كان بينهم العمدة، والمأذون، وبعض وجهاء القرية، يتبادلون الحديث عن أخبار المواسم والمحاصيل، وقرارات الحكومة التي تصلهم عبر صوت مذياع خشبي متهالك يصدح بأغاني عبد الحليم حافظ، وأم كلثوم وزمن الفن الجميل    وبين نشرات الأخبار.

في ركنٍ آخر، يجلس شيخ الخفراء، رجل طويل القامة ضخم الجثة بملامح صارمة، يعتمر طاقيته الصوفية، وعصاه الغليظة تستند إلى كتفه، يتابع بعين يقظة كل من يمر، وكأن الأمن كله مستقر تحت ناظريه. بجانبه، تدور معركة حامية على طاولة الطاولة، الزهر يتقافز فوق اللوح الخشبي وصوت الأحجار يضرب السطح مصحوبًا بضحكات ساخرة وتعليقات ماكرة بين اللاعبين، بينما على الطاولة المجاورة، جلس آخرون يتناوبون اللعب على رقعة الدومينو، يطرقعون القطع بحماس، ورؤوسهم تنحني في تفكير عميق قبل أن يلقوا بحجر جديد في اللعبة.

بجانب الطاولة، كانت زجاجات الكازوزة ترتص فوق الطاولات الخشبية، تتلألأ بألوانها الحمراء والصفراء، بينما يرفعها البعض إلى شفاههم في ارتواء بعد جدال طويل أو مباراة ساخنة.

وفي زاوية القهوة، اعتلى عمي فتوح البدوي المصطبة، شيخ الزجالين في القرية، يعتدل في جلسته، يأخذ نفسًا عميقًا من نرجيلته، ثم ينطلق صوته مجللًا بأبيات الزجل، فيتوقف الجميع، حتى لاعبو الطاولة والدومينو، منصتين إلى كلماته التي تتهادى كأمواج النيل في يوم صيفي، بعضها مليء بالحكمة، وبعضها محمل بالنوادر والضحكات.

على رصيف المحطة، كان القطار الفرنساوي يأتي في موعده، ينفث دخانه الأسود، وتخرج من نوافذه وجوه غرباء وعائدين، بعضهم يحمل حقائب السفر، والبعض يحمل رسالة انتظار. وبمجرد أن يتوقف، ينطلق بائع العرقسوس بندائه الرتيب، تتبعه خطوات بائع الجرائد، عمي نصر، الذي كان أشبه بمذيع متنقل، يوزع الصحف مصحوبة بتعليقاته الساخرة عن حال البلد والسياسة. وبينهما، يمر بائع الحامد بعربته الصغيرة، يحمل ألواحه المكدسة بالحمص والفول السوداني، يوزعها على الأطفال الذين يلتفون حوله بضحكاتهم المتقطعة.

كان هذا المشهد هو قلب القرية النابض، حيث تختلط الأصوات بروائح القهوة والعرقسوس والتبغ، حيث يلتقي الأباء كل صباح حتى العصر، يتبادلون الأحاديث، بينما الزمن يدور ببطء في ظلال الريف الحنون.

كنا نحلم بها ونحن غرباء في القارة العجوز، أوروبا. كان الحنين يراودني رغم عبق التاريخ في الفن المعماري في مدن مثل روما، ولكن ستبقى تلبانة، رغم القشرة السطحية من الحضارة، محفورةً في الوجدان والحنين.

تلبانة كما كانت… تسكن الذاكرة ولا تفارق القلب.!!

***

محمد سعد عبد اللطيف

من مجموعة قصصية للكاتب: يوميات كاتب في الأرياف

 

في المثقف اليوم