أقلام ثقافية

علي الطائي: وخيرُ جليسٍ في الزمانِ حاسوبي!

قديمًا كان الصديقُ شريكَ القلبِ، ومُؤنِسَ الدَّربِ، كأنَّ الإنسانَ لا يُعقَلُ أن يعيشَ دونَ آخرَ يُرافقُه ليُعينَه أو حتّى يُكابدَ معهُ مَلَلَ الأيّامِ وثِقَلَ اللّحظاتِ. إلا أنّ الزّمنَ الذي نعيشُ فيهِ حملَ معهُ عالَمًا جديدًا بالكامل؛ عالَمًا تُشَيَّدُ مَعالمُهُ بالأصفارِ والآحادِ، وتُشَغَّلُ آلاتُه على هدوءِ لوحةِ المفاتيحِ، لنجدَ صديقًا آخرَ يُؤنِسُ وَحدَتَنا، يَحفَظُ خُطواتِنا ويُشارِكُنا أفكارَنا وأحلامَنا... "الحاسوب".

هذا الجهازُ، الذي بدأَ اختراعًا تقنيًّا لتسهيلِ العمليّاتِ الحسابيّةِ والبَرمجيّةِ، ما لَبِثَ أن تَحَوَّلَ إلى نافذةٍ سِحريّةٍ على الحياةِ. كيفَ لا، وهو الآنَ يُمَكِّنُ الشّاعرَ أن يَسكُبَ بَحرَ المُتَقاربِ في "مِلَفٍّ نَصِّيّ"، أو يَنشُرَ مَقالتَهُ النّقديّةَ إلى العالَمِ أجمعَ بكَبسةِ زِرّ؟! الحاسوبُ لم يَعُد مجرَّدَ أداةٍ صامِتةٍ، بل صارَ كالرفيقِ الذي لا يَمَلُّ حديثَكَ، ولا يَسأمُ إبداعَكَ مَهْما طالَ.

رفيقُ الكَلِمةِ والإبداعِ

كلَّما جَلَستَ إليهِ، بدا وكأنَّهُ مُنصِتٌ صَبورٌ يُمَهِّدُ لك الطُّرُقَ:

للشِّعرِ:

على شاشتِهِ تَتَفَتَّقُ الأبياتُ وتَنْثالُ كجَدْوَلٍ رَقراقٍ. لم تَعُدْ بحاجةٍ إلى الأوراقِ المُبَعثَرَةِ التي تُرهِقُكَ في تَرتيبِها؛ يَكفي أن تَكتُبَ، وتُراجِعَ، وتُعيدَ تَشكيلَ القَصيدةِ حتّى تَخرُجَ كعِقدِ لُؤلُؤٍ مُتناسِقٍ.

للمقالةِ:

الحاسوبُ خِزانةُ أفكارِكَ ومكتبتُكَ الإلكترونيّةُ التي لا تَفرُغُ. يُساعِدُكَ على التَّعديلِ، والحَذفِ، وإضافةِ الأدلّةِ والبَراهينِ؛ بل إنّه صارَ بَوّابةً للمعرفةِ اللامُتناهيَةِ بفضلِ ما يَتَّصِلُ بهِ من مَحَرِّكاتِ بَحثٍ.

للقراءاتِ النَّقديّةِ:

النّقدُ يَحتاجُ إلى دِقَّةِ النَّظَرِ ووُضوحِ الرؤيةِ، وهُنا يَأتي الحاسوبُ ليُتيحَ لكَ عَرضَ النُّصوصِ وتحليلَها بتَأَنٍّ وتَعمُّقٍ. يَدعوكَ إلى المُقارنةِ بينَ الأعمالِ، وإلى الاحتفاظِ بملاحظاتِكَ وتَطويرِها، وكأنَّهُ مُحَرِّرٌ خَفيٌّ يُعيدُ ترتيبَ أفكارِكَ.

صَديقٌ مُطيعٌ بلا جِدالٍ

إذا أردتَ صَديقًا يَعمَلُ دونَ كَلَلٍ ولا مَلَلٍ، ويُطيعُكَ دونَ أن يُجادِلَكَ أو يَتَذَمَّرَ، فلَن تَجدَ خَيرًا مِن الحاسوبِ!

هو عَبدٌ مُطيعٌ: مَهما طالَ وَقتُ العملِ أو تَعَدَّدَتِ المَهامُ، فهو لا يَشكو. يَكفيكَ أن تَضَعَهُ تحتَ أنامِلِكَ، ليَحفَظَ لكَ نُصوصَكَ، ويُنفِّذَ أوامِرَكَ بِدِقَّةٍ.

لا يَغيبُ عَنكَ: حتّى في ظلامِ اللّيلِ، أو وَحشةِ الوَحدةِ، يُضيءُ شاشتَهُ ليكونَ مَعَكَ.

يُقَدِّمُ لكَ العالَمَ على طَبَقٍ: بِضَغطةِ زِرٍّ واحدةٍ فقط، يُطْلِعُكَ على الأحداثِ حولَ العالَمِ: الأخبارِ، العُلومِ، التّاريخِ، الشِّعرِ، أو أيِّ مَعرِفةٍ تُريدُ. وكأنَّهُ صَديقٌ لا يَمَلُّ مِن البَحثِ ليَعودَ إليكَ بالمَعلومةِ جاهِزةً، مُهَذَّبةً، مُرتَّبَةً في دَقائِقَ مَعدودةٍ.

حينَ تُصبِحُ الوَحدةُ إبداعًا

قد يُقالُ إنَّ الحاسوبَ صَنَعَ نَوعًا مِن "الوَحدةِ"، لكنَّهُ في الحقيقةِ مَنَحَكَ فُرصَةً لِخَلْقِ عالَمِكَ الخاصِّ:

بجُلوسِكَ إليهِ لِساعاتٍ طَويلةٍ، تُصبِحُ الكَلِماتُ أَنيسَكَ.

هو مَعمَلُكَ: تَبدأُ بفِكرةٍ، تُحَوِّلُها إلى نَصٍّ مُتكامِلٍ، تُضيفُ لها رُوحًا بالإيقاعِ أو المَعنى أو النّقدِ.

وهو حافِظُكَ الأمينُ: لا يَتَشَتَّتُ ولا يُهمِلُ حَرفًا تَكتُبُهُ، بل يُعيدُهُ إليكَ مَتى طَلَبتَ.

بوّابةٌ إلى المَعرِفَةِ بلا حُدودٍ

من نافذةِ الحاسوبِ الصَّغيرةِ تِلكَ، تَرى العالَمَ كُلَّهُ:

تَطَّلِعُ على أَحدَثِ الأخبارِ، وتُتابِعُ أحداثَ السّاعةِ أينَما كُنتَ.

تَنهَلُ مِن المَعرِفَةِ والعُلومِ بِغيرِ حُدودٍ أو قُيودٍ.

تُبحِرُ في أَعماقِ الأدبِ والفِكرِ، فَتَعودُ أَكثَرَ ثَراءً.

بينَ التَّقليدِ والحداثةِ

ما أَجمَلَ تِلكَ اللّحظةَ التي تُمسِكُ فيها بِقَلَمٍ وتَكتُبُ على الوَرَقِ! لكنَّ الحاسوبَ جَعَلَكَ تَتَجاوَزُ حُدودَ "المَساحَةِ التَّقليديَّةِ" لِلكِتابةِ:

تُحرِّرُ أفكارَكَ،

تُعيدُ صِياغةَ سُطورِكَ دونَ شَطبٍ أو تَشويهٍ،

تُشارِكُها مع الآخَرينَ بِضَغطةِ زِرٍّ... وكأنَّكَ تُطِلُّ مِن نافذةٍ إلى العالَمِ أَجمعَ، تُعلِنُ فيهِ عن وُجودِكَ وأَدبِكَ.

خاتمة: خَيْرُ صَديقٍ!

إنَّ الوَقتَ الذي تَقضيهِ مع حاسوبِكَ لَيسَ ضَياعًا، بل هو رِحلةٌ في رِحابِ الإبداعِ. هو "الصَّديقُ الذي لا يَطلُبُ مِنكَ شَيئًا"، بل يُعطيكَ كُلَّ ما تُريدُ: مَساحةً، أَدواتٍ، ونافذةً إلى عالَمٍ لا يَحُدُّهُ أُفُقٌ. إنَّ علاقتي بالحاسوبِ ليست مُجرَّدَ استخدامٍ لآلةٍ صامتةٍ، بل هي صَداقةٌ متينةٌ تتجاوزُ حدودَ التقنية. في ساعاتِ العُزلةِ، يُضيءُ الحاسوبُ عَتمةَ الوحدةِ، ويُصبِحُ نافذةً على المعرِفةِ والخَيالِ، وبحرًا أُبحِرُ فيه بلا مَوانئَ أو حُدود. إنَّه مُلهِمٌ يُترجِمُ أفكَاري إلى كلماتٍ، ورفيقٌ أستندُ إليهِ حينَ تتعثَّرُ أحلامي. كُلُّ حَرفٍ أكتُبُه، وكُلُّ فكرةٍ أُطلِقُها مِن خِلالِه، تَزيدُ مِن أواصِرِ العِشقِ بينَنا، وكأنَّه رفيقُ دَربٍ لا يُمَلُّ ولا يَكِلُّ.

وإن كانَ لِكُلِّ مُبدِعٍ صَديقٌ يُعينُه

حاسوبي : خير جليسٍ في الزمان.

***

بقلم: د. علي الطائي

في المثقف اليوم