أقلام ثقافية

أمين صباح كبة: Tick,tick boom!.. (مقامة)

دهمنا شجو أُمرّت علينا كاسه، وتقطّعت بنا أنفاسنا وأنفاسه. وأرهقنا ذِكرٌ خانه النسيان، وعشقٌ شعّثه السلوان. وقد ضاق بنا عتابٌ لم ينقطع، وقلبٌ مشتعلٌ ليس يرتدع، وفضاءٌ ليس يتّسع. وشخصٌ إن زال لم يزل خياله، وحبيبٌ إن غاب لم يغب مثاله، فالشوقُ على احتدامه مُحرِق، والوجدُ على التهابه مقلق، والزمان على عادته جامعٌ مُفرّق. وما أصنع يا إلهي والقلب مشتعلٌ من شواهدِ غلِقَ رهنها منذ زمان، ويئس من فكاكه كلّ أوان، وما أصنع في سرّي وعلانيّتي، وسكوني وحركتي، وانتباهي ورقدتي، وقراري واضطرابي، وغربتي عن نفسي واغترابي، عن يقيني وارتيابي، وعن عللي وأوصابي، وعن بلائي يا ربّ وعن عذابي، وعن جميع أموري وأسبابي. وغالب ظنّي يا سيّدي أنّك لمؤازرتي على هذا الهمّ تؤثر أثرًا يخفف به ما بنا، ويحطّ عنّا ما أثقلنا، ويهدينا إلى الجادّة التي منها جُرنا وعنها زُلنا، فقد صار النسيان محالًا أو كالمحال، وجهلًا أو كالجهل.

(يا قابس النار من زندٍ تعالجه

اقدح بزندك في همّي وأحزاني

ما النار أسرع إلهابًا لموقدها

في العود من زفرةٍ في قلب حرّانِ)

وإنّما أنا هنا في هذه المقامة أبثّ من حينٍ لآخر بعض عوارض هذه النفس عند الفيض الشديد، والغيظ المديد، وحين يبلغ العجز منّي آخره، ويستغرق اليأس باطنه وظاهره، فإنّما أحاول من ذلك تخفيفًا، فلا أزداد إلا تثقيلًا، كأنّ ذلك من خدائع الحال، ومن تعذّر الآمال. هذا رعاك الله ديدني، في حالي ومعدني، لأمور لي فيها مآرب، ولك في قراءتها مذاهب ومطالب. وإن كنتُ قد كنّيتُ عنها بلساني، فقد غلب عليّ شيني، وإن هممت بشيء منها بيني وبيني، وفيها حياتي وبيني، وفيها امّحق كلّي وبعضي وكيفي وأيني، فإنّ غايتي معك، عند إشكال قصّتي عندك. واعلم يا قارئي أنّ عيني قد جمدت من البكاء، وبدني قد فتر من العناء، وخاطري قد وقف عن السّنوح، ووجهي سمج بالكلوح، وبالي قد كسف بالقُنوط، وحالي قد ثبت من القَنوط، وإن هذا إلا قولٌ قد غلب عليه التكرار، قد صدر عن صدرٍ امتلأ بالوجيب، وإنّه ليس بأمرٍ عجيب.

٢

اللهم يا ربّ الأرواح الهشّة، والأحلام الضائعة والمحطّات المظلمة، وربّ كلّ الضائعين الباحثين عن أنفسهم في عجائب ملكوتك، يا أولى من حُمِد وأجود من سُأل، وأوسع من أعطى. كتبت الآثار، وأحصيت الأعمار، وملكت قلوب الخلائق بين يديك، وقلّبتها بما شئت، أنت الأول فلا شيء قبلك، وأنت الآخر فلا شيء بعدك، وأنت الظاهر فلا شيء يشبهك، وأنت الباطن فلا شيء يراك، أنت الواحد بلا تكثير، وأنت القاهر بلا وزير، وأنت أنت الملك القدير

(احمني من مُبْصري أخطائي أقلّ منّي

ومن مالكي عتماتهم والمتحكّمين بمصابيحهم

وممّن يكذبون على الأولاد

وممّن أحببتُهم وممّن أرادوا أن أحبّهم

واحمهم منّي

من خيري كما من شرّي فلستُ دائمًا أُحسنُ التمييز

ولا تتساهل مع تضخّم أناي

ولفلف نظري بالغيم المشمس

ولا تحرم أعماقي ذلك النغم

الكامن فيها كسِلْك الذهب الخفيّ في طيّات التراب)*

يا الله بك أستعين، فالدموع جفّت، وعلى وجهي ترابٌ منثور، نوّر قلبي، وبدّد وحشته، اجر سواقيه، بدّد صداها، وافرش زهورك على توتّري وحيرتي، تنقّل بين أسماء الألم وامحها، لأنّ هوّة في الرّوح لن تملأ بقطن الذكريات، إذ تجرح، وتصير الحياة شريان دمٍ مقطوع، قدّرني على هذه الحياة، واصهر خشونتها، كي تصبّ في قناديل الحب وتوقّدها، وتضيئ عتمة حواسٍ انغلقت على نفسها، واجعلني استكين مثل خيط الشمعة المنطفئة، فهمومي استحالت وحشًا يأكلني من الداخل، وعيناي تتفتّحان على صندوق من عجائب، فيه أنام فاغرةٌ أفواههم.

فيه صارت لحظاتي مراجلًا تتبخّر منها السعادات ويترسّب في أذيالها الألم. يا دليل المتحيّرين، ويا أمان الخائفين، بدّد وحشتي، وبرّد قلبي، وارحمني فأنت أرحم الراحمين.

٣

ولا تحسبوا بطل القصة الولد المتكبر يعجبه وَجْهُهُ،

إنّما بطل القصة الولد الغارق المشتهي

أن يعود إلى نفسِهِ ولدًا يتنفّسُ.

تميم البرغوثي

٤

يسكن الله قلبي وأنا لا أرض لي، أحلامي ضائعة وتائهة في الظًلام وقربتي مثقوبة وكلّ نجوم الكون قد سقطت منها، لكوني طفلًا يشكو من حبّه بنظرة خبيثة، أقول إنّه لطّخني بالدم، اعتجرني بكل سواد الكون، جعلني أتعثّر بالجماجم والهياكل العظمية والجثث المتفسّخة، دفعني للخوف من أشباحٍ لا أراها، سبّب لي هلعًا مبالغًا، لكوني شخصًا يتذمّر مما كان يعلّق عليه آمالًا صغيرة، كان قناعي يظنّ بأنّه عاشقٌ جيّد يرى نفسه في وجوه لا يعرفها، ولكنّه في الحقيقة عاشقٌ سيء للغاية، لأنّه حجب الشمس وتسلّى مع الأشباح. صوتي درويشٌ خائف يرتعد ويرتجف من نداءات مجهولة خلف الأسوار، يعبر بعض التكايا ويحوم في حلقات الذِكر. والليل طويلٌ حين أكتب أو أغنّي، ووجهي خلف كلّ تلك الأقنعة يشعله البرق.

٥

كنت ألعب في حديقة العمارة مع أولاد الجيران لعبة الختيلان. تركت الجميع وتواريت خلف تمثال بابا صدّام قرب باب الدائرة. تفاجئت أنّ التّمثال تحرّك من مكانه ليمسح بيده على رأسي مبتسمًا. أعطاني دمية كالتي يحتضنها أطفال المقابر الجماعية. وأخذني من يدي ورماني في حفرة، ثم أطلق عليّ النار وواراني في التراب.

٦

أدفع رأس الليل بيديّ في رحم الظلام لأمنعه من الولادة، أصرخ بالموت وآمره بالرجوع صارخًا، أستدرج القمر الهائج في السماء إلى فخّي الآمن في كنف عباءة سوداء، أفكّك العقد المجهولة التي تسّد طريقي. في هالة فانوسي تتأرجح الأشباح وتظهر طيور في مرآة الظلام وتختفي، يرتجف الطفل الصارخ خوفًا من زيارة الشياطين والوحوش، الأبله الذي يجفّ فمه ويرتجف كلّما اكتمل البدر، الولد الذي نجى من اليرقان وأصبحت حياته معجزة، الولد الذي نشأ وهو غير كافٍ لأمّهاته الثلاث، حقيقة هو لم يكن كافيًا حتّى لأمّه الحقيقية ولا لأيٍ شخص دخل حياته. الأبله الذي كفّ عن الارتجاف. الطفل في مهده الواسع نام بهدوء وأنا كنت أحمل الفانوس لأحميه وأنير له الطريق.

٧

أقلب الدور فهذه محنتي من جديد، أسبّح بأمجاد النصل وألقي بهذا الأرث العتيق إلى الرياح، سأربط خيط حتفي بحبل سرّة لحظة تأتي ولا تعود، سأعبر من هذه الأبواب، وأحبس هذه الوحوش وأقيّدها في رأسي، وأجمع كلّ نيران العالم في قلبي، سأقلب الدور وألقي بهذا الإرث إلى الرياح وأسكب من يديّ ذهبًا، سأَبعث عالمًا في أيّ لحظة مضت، وأرحل عندما يحين رحيلي.

٨

كان يحلم بأكذوبة جميلة، ووجد كلّ شيء حقيقيًا يصرّ على التعرّي أمامه، هجمت الكوابيس من لا مكان كتيبة من المحاربين حطّمت جدرانه، كلّما ركله الزمان إلى قاع الهاوية، قام منها، كلّ ما ظنّوا أنّه انتهى بدأ. مجبولٌ على أن يطارد كلّ شيء من منابعه، حتّى تجمّعت النجوم بين طيّات مقاماته وتحت شرفة انتظاره. يقف في الظلام ويأمل أن يخلّص نفسه منه، فتبتلعه ثقوبٌ سوداء تعيده إلى الماضي ويلمح طابورًا هزيلًا يقف فيه الأنبياء والعلماء، تبعثرت على أطرافه عظامهم وأجسادهم المقطّعة، يهتزّ أمامه الطابور حبلًا أبديًا للغسيل كلّما تكوّم عليه قتيل آخر. ينتابه قبل الفجر ألمٌ ثنائي الوجه يهجم بغاراته ويدكّ حصونه بعد حصار طويل. يقولون أنّ الأرض حبلى بالجرحى وذابلة من الحرارة، وحوشها السائبة تتدلّى ألسنتها إلى المستقبل، يلهث الزمان في بريق البدل والأزرار العسكرية، يقولون إنّ نهرًا من دماء الأبرياء ينبع منه، يحلم هو أن يرمي حجرًا فيسقط عبر عدّة بحار على سقف بيته الذي لم يعد هناك، يقول لنفسه لا تقلق يا أمين، سيولد الكثيرون بضربة منجلٍ من الهواء، سترى النبع في أرضٍ خضراء يقودك نحوها جمع من الرهبان والكهنة والسحرة على ضوء الفوانيس، هناك ستغسل وجهك المدمّى امرأة أردتها، في أرضٍ طردت منها الليل قليلًا بضوء شمعة، وطالبت بك معاولنا أن تضرب بثبات على ذلك الحجر الراكد في صدرك، فنحن رأيناك ترقص على حافة المنحدر وتحت رجليك الهاوية.

٩

أسير واحدًا من العباد في الزحام الذي يملأ الطرقات، وجهي جريحٌ يأتي لينام، وحياتي أنهار من طين ودم تجري تحت عجلات السيارات، بينما ينصب الموت شاراته في قاع جسدي كان الظلام يقدح أحجاره لينير أكوانًا كسيرة، كلّما أغمضتُ عينيّ أراها. كلّ حياتي تبدو واضحة، العالم يفقد سطوته، والليل يمرّ ولا أحد يأبه به، العالم بين يديّ يستسلم كالأبله برضاه، فأترك لرغبتي الجامحة أن تشطره إلى نصفين وتجعل بينهما نهرًا يجري. حين تكونين معي وتكون لي امرأة مثلك، تجيد السفر عبر الزمن، وتعرف كيف تناجي الليل بأسماء نجومه، وتمسح لي ذاهلة دمي وعرقي وغبار السنوات التي مرّت عليّ، وتخبرني بأنّ كلّ شيء على ما يرام من دون أن أنطق حرفًا واحدًا، أنا الرجل الذي سيكتب لكِ مقامة يصف فيها وحدته في أواخر كانون، أنا الذي سأظلّ وحيدًا مهما طالت قائمة معارفي وأهلي وأصدقائي، أنا الذي سيتغزّل بجمالكِ حتّى عندما يزول، أنا المفتون الذي سينشّف لكِ عرق الطريق (أنا فاقد الشيء الذي يعطيه، أنا بائع الوهم وتاجر الأمنيات وأنا.... أنا زبوني الوحيد).

بيدين مكتوفتين أراقب حياتي تتهاوى، لم أعد أطمح بأن أكون شخصًا جيدًا ومثاليًا أمام الآخرين، تعبت من تمثيل هذا الدور، لقد استنزفت الحياة كلّ مخزوني من الأقنعة وفلاتر التزويق. فالأقنعة لا تشفي الغرز والجروح وإنّما تخفيها، أريد أن أوقف الزمن أو أبطّئه لأركن حياتي على الطريق، أريد أن أخرج منها لبعض الوقت، أريد أن أستنشق هواءً نقيًا وأتفقّد أخطاء قصّتها الإملائيّة، أن أركّز في تفاصيلها وألوم كاتبها على هذه الحبكة السيئة. أعيش كأنّ جيشًا من الأشباح يطاردني من مكان إلى مكان، استطال الظل وظلّ يهزّني، رجّني وأدركت فجأة أنّه لم يكن ظلًا، كان إنسانًا مثلي من لحم ودم، رجلًا حقيقيًا أمسكني من ياقتي، وسحبني إلى الباب من تلابيبي ثم ركلني ركلة أطاحت بي في الفضاء، وأخذت أتدحرج بين النجوم، واتعثّر بالكواكب، وعدت طفلًا يعبث في أوتار جيتار عمّه خلسة ويتتبّع الموسيقى في غرف مظلمة (أفتش في كومة الألعاب

عن حلم قديم ودهشة بعيدة..

طفل حانق

يتحسس رضوض حياته في ساعة متأخرة من العمر..

أنا لم أكبر يا الله

أحدهم دفعني).

١٠

همتُ بأرضٍ ذات خضار، وأرحت ركابي بعد ترحال وتسيار. وقد كنت قبل هيامي غريب الدار، كثير الأسفار، وكنتُ أتردّدُ فيها سحابة النّهار، وأتفقّد ما بها من المشاهد والآثار، وسلّمت عليها تسليم المشنوق، وابتهجت بها ابتهاج العاشق بالمعشوق. ورحتُ أقلّب وجهي في السماء، وأقول سبحان من علّم آدم الأسماء، وسلّم إبراهيم من النار الرمضاء، وصلّ يا ربّ على صاحب القبة الخضراء، المرتجف حبًا في غار حِراء، وعلى آله وصحبه النجباء، بعدد من في الأرض والسماء.

أمّا بعد فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي، وهذه حكايتي بين أيديكم، وتحت أعينكم، العقول في خفيّاتها أسرى مقيّدة، والأحاسيس في جَليّاتها فوضى مبدّدة، والأقوال في وصف تشاكلها وتباينها مختلفة، وهذا خبرٌ والله طريف، الفكر فيه يورث الوسواس في الصدور، والسكون عنه يصدّ عن الجواز والعبور، والسؤال عنه يحمِل التُهمة، والجواب يزيد في الحيرة، فهل رأيتم قولًا كلّما بان غمض؟ وهل رأيتم عرقًا كلّما سكن نَبَض؟ وهل رأيتم نارًا كلّما أُطفئت شبّت؟ وهل رأيتم بيانًا كلّما وضح أشكل؟ فوحقّ الحق إن السرّ في مقاماتي هذه لمكتوم، وإن الغيب فيها لمعلوم، وإن الظاهر منها لمفهوم، وإن الباطن لموهوم، وهكذا زال الخداع، وعليه تحيُّر الطباع، وعلى أثر حديثنا سقط القناع. ولو ساعدتني اللغات على اختلافها، واستجابت لي الخواطر على ائتلافها والتفافها، لأن أدنو مما أنا ممنوٌّ به، ومحطوطٌ فيه ومراد به، ومعكوس معه قولهم:

(فقرٌ كفقر الأنبياء وغربةٌ

وصبابةٌ ليس البلاء بواحدِ)

وهذا وهمي الذي لم تمزّقه الرزايا، وسرّي الذي لم تكتنفه البلايا، وعلى علّاتي التي وصفتها، وخلّاتي التي رصفتها، وأقنعتي التي رميتها، أختتم حديثي بمقدّمته وأقول: سحرتنا أرضٌ فحللناها، وملكتنا وملكناها، وعمدنا لقداح الوجد فأجلناها، وقلنا عمّر الله بغداد، ورحم العباد، وأجارنا من الهجر والبِعاد.

فأقبلت تخطو بجفلة ووجلة، وضحكت على ما بحت كأنّها طفلة.

***

أمين صباح كُبّة

كاتب من العراق صدر له عن دار الرافدين (مقامات إيلاف)

 

في المثقف اليوم