أقلام ثقافية
علي الجنابي: سبينوزا الحَنين
ما الّلسانُ إلّا راقصةٌ طَروبٌ لَعوب، تتراقصُ في «حانة» فَمٍ مَلوثٍ بلعابٍ غيرِ مَرغوب، وتطهيرُهُ من بغيٍّ ومن بغاءٍ لن يتأتَّى من تملُّقٍ مسكوب، بل من نبضِ قلبٍ بالخيراتِ خَضوب، ومن صِدقِ خَلجاتٍ بسجيَّةِ طرفٍ محبوب. ولئن تَطهَّرَ منهما فذلكَ لسانٌ موهوبٌ أبيٌّ مَهيوب، وإن تَعهَّرَ في حاناتِها وأُنْسِ صخبَ الدَّروب، فذاك لسانٌ مضروب معيوبٌ، وباثنتينِ مثقوبٌ، فثقبٌ يرنو ليَلتقمَ ما في الجُيوب، ثمَّ ليَصُّبَ ما التقمَ في ثقبٍ يَحنو على بغاء طَروب.
ولا ريبَ أنَّ هذي نَظَراتٌ يُحرِّرُها كاتبٌ محدثٌ ورُبَما غيرُ مرغوب، وفي فضاء الأدب ما ظننتُهُ إلّا غيرِ مندوب ولا مطلوب. ثمَّ ما مِن شكٍّ أن صدقَ العَبَراتِ بذرفٍ مكتوب، هي للبيانِ جبينٌ وما سواها إمّا مَرافقٌ أو كُعوب، وأنَّ صفاءَ النظرات من تَنَطُّعٍ كذوب، سوف تهواها النُّفوسُ بترحيبٍ طيبٍ غيرِ مكذوب. وأقولُ بعدما نفيتُ الريبَ المَعصوبَ وشكَّاَ ردفهُ مَصحوب؛
قدِ رأيتُنيَ البارحةَ أتصفحُ ندوةً لقومِي في (الإتحادِ العام للأدباءِ والكتَّابِ في العراق) تَحَلَّقَت بتعابيرَ؛ "تناصٍ إمتصاصي وإنزياحٍ إنزياحي"! فامتَعضتُ بوجهٍ غَضوب، رُغمَ أنّي في سوحِ الأدبِ -أكرِّرُها- جهولٌ ومُحدثٌ وغيرُ مطلوب، وقد دعتِ الندوة الى (عدم اعتماد انزياح الانزياح وتغليبه على الانزياح نفسه)، فأسررتُ القول؛ أفي شمالِ الأرضِ حُبِكَت هذي العبارةِ أم تراها نُسِجَت في الجنوب، ورأيتُني أتَيَقَّنُ ساعتئذٍ أنَّ مِرآةَ كلِّ أمّةٍ بَيانُها، فإنْ كَانَ بَيانُهَا فحلاً تَراهَا تَحْظَى بِصَهلةِ بَيانٍ بَينَ القِمَم وبغرفٍ غيرِ نَضوب، وَإنْ كانَ تِبيانُها ضحلاً، تَراهَا تَرضَى بِوَحلةٍ بَينَ الأمَم وبحرفٍ غيرِ عَذوب.
ثمَّ انهُ لا حاجةَ للقارئ لقلمِ أديبٍ مُتَزَلِّفِ مُتكلِّفِ الأسلوب، نراهُ يدورُ إمَّا في فلكٍ مُتهتِّكِ الصَّرفِ مُتَبَتَّكِ الأسلوب، وإمّا في مسلكٍ أعجميٍّ هو فيهِ جاثمٌ مكبوب، كي يُبيِّنَ لقارئِهِ "أنَّ الإبستمولوجيا سبرت سبيلَ سيكولوجيةِ الأنثروبولوجيا" وما مسَّها من لغوب". وتراهُ ما فتأ يُخَنخِنُ بان لسانَ الضاد عاجزٌ عن مجاراة أسلوبِ فكرهِ الفذِّ المتين المَهيوب، وأنَّ لسانَ قرآنِ ربِّ الشُّروقِ والغُروب، قد ولَّى مُدبراُ ولم يُعقِّب لمّا رأى صَرفَهُ الحَصين الرَّصين. وما كانَ فكرُهُ برَصين ولا ذكرُهُ برزين، وإن هو إلا فكرٌ بئيسٌ وذِكرٍ تعيسٍ بحرفٍ مسكين، وهو في رَنين الفرنجة حبيسٌ مَهين، ولا شفاءَ لذا كاتبٍ مسكينٍ إلا بتقميطٍ لأربعينَ يوماً بشَجرٍ من يَقطين، في أقاصي سَواحلِ نيوزلندا ولا بأسَ قرى الأرجنتين، كي يشفى من رَمدِ شكسبيرَ وأمدِ سبينوزا الحنين، ومن كمدِ نيتشهَ وزبدِ فرويدَ اللعين، فيُغادرَ التنطُّعَ والتزلفَ لفكرِ غربيٍ غريب غير مكين، ثمَّ يبادرَنا حثيثاً لذكرٍ بذرفٍ وصرفٍ عربيٍّ راقٍ مبينٍ أمين. وإنَّما ذاكَ الأديب لمسكين، وما مثلهُ إلا كمثل أنثى فرس نهر إفريقيٍّ في حديقة حيوان برلين، تراها تَتَشَمَّمُ بينَ الحشائش عن فحلٍ المانيٍّ ملطَّخٍ بالطين، ليعرسَ عليها فتُرزقَ بصغارٍ حلوين، لا يشبهوا صغارَ العَربِ العفنين، ولا أطفالَ غينيا بيساو ولا حتى صغارَ سيئولَ أو بكين.
لعلّي قد تجاوزتُ ههنا حدودَ أدبِ الأدب بذا طنين، وبانَ فطَفا على صَدري من لؤمٍ همجيٍّ غاطسٍ تحت الوَتين، ومن سُرورٍ عاطسٍ بغُرورٍ صبيانيٍّ طامسٍ دفين، بأنيَ أنا صناجة العرب المكين المبين، وما أنا على رصيفِ الأدبِ الا حادثة مُحدَثةً بل لبونٌ هجين، غير أنّي لن أترنَّى لأكونَ فرسَ نهرٍ مُزخرفٍ بالطين، ولن أغرمَ بآلاء نيتشة ولا بآياتِ سبينوزا الحنين، بل سأتهنَّى بعُيون المَها بين رصافةٍ وجسرِ على ضفاف الرافدين، وأتمنَّى رحلةً لدروبِ القيروانَ أو للشامِ لشمِّ عبق الياسمين، وأتبَنَّى ما همسَ به عنترةَ لعُبيلةَ من شَجنٍ دفين..
أَتاني طَيفُ عَبلَةَ في المَنامِ * فَقَبَّلَني ثَلاثاً في اللَثامِ
وَوَدَّعَني فَأَودَعَني لَهيباً * أُسَتِّرُهُ وَيَشعُلُ في عِظامي
لانثربولوجيةَ عُبَيلَة كُلَّ * يَومٍ سَلامٌ في سلامٍ في سَلامِ
***
علي الجنابي