أقلام ثقافية

عبد الرضا حمد جاسم: رحلة دون تدخل في كتاب محمد الماغوط (الأخيرة): يا شارع الضباب

كلما حلت بالأمة العربية كارثة او مرت عليها ذكرى كارثة وقرأت او سمعت او شاهدت بهذه المناسبة مظاهرة او مسيرة محروسة من جميع الجهات لأنها عفوية يتقدمها صف من وجهاء واعيان القضية يسيرون معبرين بوجوههم المقطبة المتجهمة عن ذكرى العار القومي او يوم الحداد العالمي دون ان تنزل من عين أي منهم دمعة واحدة سرعان ما اتلمس ما تبقى من شعري وانا أتسائل عما اذا كانت هناك علاقة بالفعل بين الرعب والاهوال والمفاجئات وبين نمو الشعر؟ لأنه اذا كانت مثل هذه العلاقة موجودة فعلاً فمعنى ذلك انه لن ينقضي العام الأول من الثمانينات الا وأكون مثل "بول بريمر" تماماً وفيما كنت اشير تحت المطر لأي سيارة تاكسي لكي تنقلني الى أي مكان في هذا الليل البهيم واذا بشاعر تقدمي يبرز لي من الضباب ويبادرني بلهفة... أين انت يا رجل؟ عندي حفلة تعارف صغيرة في البيت وحبذا لو تقبل دعوتي.

قلت مستغرباً ...من الحضور؟

قال: وفد صداقة من الدول الاشتراكية ويسعدني ان تتعرف اليهم.

قلت: آسف.

قال: ولكن هناك الكثير من الفودكا والعشاء "فيليه" من فخذ الغزال جئت به خصيصاً من أعماق السهول الروسية.

قلت: تقصد انه غزال تقدمي؟

قال ضاحكاً، تقريباً.

قلتُ: حسناً لن اذهب ولو كان العشاء فيليه من فخذ بريجنيف.

قال: اهو موقف؟

قلتُ: ابداً كل ما هنالك اني لبيت دعوة من هذا النوع من قبل واقسمت ان لا اعيدها اذ شربنا نخب كل الأحزاب والقوى والتجمعات التقدمية في اوروبا وأمريكا.

حتى جاء الخبز والملاعق ونخب كل الثورات في اسيا وافريقيا وحتى جاءت السلطة وهذا كان منذ سنتين فما بالك الان والعالم يبيض ثورات؟

قال: لا...لا انت غاضب لسبب اخر، رفع العلم الإسرائيلي في سماء مصر، لا تحزن يا صديقي ولا تتشاءم، اتفاقيات كامب ديفيد ونظام السادات والحلف الامبريالي كله سيسقط.

قلت بلهفة: كيف؟

قال بإرادة الشعوب وقواها التقدمية وسوف تعود فلسطين الى أهلها

قلت: اليس هو الشعار المطروح منذ عام 1948 قبل الميلاد؟

قال: نعم

قلتُ: في هذه الحالة ارجو ان تبلغ صديقي الشاعر يوسف الخطيب ان لا يوجه لي الدعوة لتناول الغداء في يافا او حيفا كما فعل صبيحة حرب حزيران

قال: بل ستحضر وتكون في طليعة المدعوين

قلتُ: لا احب الظهور واذا كان لا بد فسأجلس على طرف المائدة

قال منشرحاُ: والان ما علينا الا دعم وتأييد التدخل السوفييتي في شؤون أفغانستان بناء على طلب حكومتها لان القضية العربية مربوطة جدلا بما يجري في أفغانستان وهذا تعليق لكاتب تقدمي إنكليزي مصداقا لما تقول وبعد ان القيت التعليق دون ان انظر اليه، تقدم ومن خلال الضباب أيضا طليعي اخر وبادرني معاتبا" رأيتك تتحدث مع واحد من جماعة موسكو وهم مشبوهون ومرتهنون لاي نظام والماركسية اللينينية منهم براء فللوقوف في وجه الامبريالية أعدموا ملايين الفلاحين في بداية الثورة لياكلوا خبزهم في نهايتها من حقول الامبريالية وبالرجاء والتوسل وهذا كتاب لريجيس دوبريه يؤيد هذه المقولة من اول سطر، وما ان اتبعت الكتاب بالتعليق الذي سبقه حتى برز لي من الضباب أيضا ناقد متطرف وقال: لقد رايتك تتحدث مع واحد من جماعة "ماو" انهم منحرفون مزيفون للعقيدة الماركسية اللينينية. لقد ابادوا العصافير في بلادهم ليتحولوا هم الى عصافير على اغصان الامبريالية وكل ما يفعلونه الان هو الزقزقة عن الاشتراكية وهذه مقابلة مع رودنسون تفضح اكاذيبهم وعمالتهم.

 وما كاد ينصرف حتى كنت وجها لوجه مع من اقصى أقصى اليسار وقد بادرني مزبدا مرغيا: لقد رايتك تتحدث مع واحد من جماعة تروتسكي وهي جماعة منقرضة ومشكوك بأمرها منذ زمن بعيد وعليك ان تنتظر نهايتهم جميعا

قلت: لم يعد عندي جلد حتى لانتظار باص

قال: ان ما يحتاجه العالم الان هو يسار يكتسح الأخضر واليابس وهو في طور التكوين فكل الشارع العربي يساري

قلت: نعم الشارع يساري والازمة يمينية

قال: انت مضلل ومسكين وبحاجة الى من يرشدك ويحميك . هل تنظم الينا؟

قلت: ابعدني عن السياسة ارجوك

قال: حسنا هناك لجنة أدبية وليست سياسية للدفاع عن حرية الكاتب العربي وهي يسارية. ما رأيك؟

قلت: لجنة يسارية تنبت هكذا فجأة للدفاع عن الكاتب العربي، عن الفلاح العربي، عن الكندرجي العربي لن انتسب اليها قبل ان اعرف بالضبط كم عدد أعضائها وكم دولارا رأسمالها

فصرخ مزمجرا. أمريكا. أمريكا..اللعنة على أمريكا انها وهم. انظر ما جرى ويجري لها في ايران وأفغانستان والسلفادور وبوغوتا على ايدي شعوبها ونحن جزء من هذا العالم المتفجر وعليك " شئت ام ابيت" ان تنتظر الثورة العربية الشاملة.

قلت مذعوراً: تقصد ان الثورات التي مرت علينا كانت " أكل هواء" مقدمات وان الضربة الكبرى لم تأتي بعد؟

 قال : طبعاً ان الماركسية اللينينية ستنتصر وسوف تحقق الرفاه المبرمج والتوازن بين الدخل والانفاق والانفاق الإنتاج لان راس المال...

قاطعته متوسلاً... وانا اهم بالانصراف.." اخي امنوا لي خبزاتي ودخاناتي كل يوم وصندلين لولدي كل سنتين وانا ممنون شوارب ماركس ولينين وانغلز واسبارتاكوس".

...................................

عبد الرضا حمد جاسم

من كتاب سأخون وطني لمحمد الماغوط

 

في المثقف اليوم