أقلام ثقافية

عبد الوهاب أحميرين: قراءة في قصيدة: إلهاء البومة في قاع المفاصل للشاعر فتحي مهذب

إن قصيدة "إلهاء البومة في قاع المفاصل" جميلة وممتعة وعميقة وغارقة في تربة الرمزية ومتجذرة في دهاليز التجريد الفلسفي [على غرار الشعر الميتافيزيقي او السوريالي..] ؛ جميلة دالا ومدلولا، مبنى ومعنى، لغة وفكرا ؛ رغم شفافية معجمها ووضوح أبجديتها فتنم عن دلالات عميقة ومعاني مستمدة من الماورائيات ؛ تضع الكلم في موضعه بناء وجزالة، تتجاوز فيه المعنى المبتذل إلى المعنى الباطن العميق، معنى المعنى، ميتا - معنى..
- من منظور الشكل الخارجي للقصيدة {لغة النص الشعري}، لوحظ بعد قراءة حثيثة وشمولية أن البناء اللغوي ظهر بمظهر التعقيد والتشابك والتشاوج في تركيب مكوناته ومحدداته وآلياته الاستيطيقية والبديعية والإثباتية من تقابل أو طباق (زمان / مكان..)، وتقريب تمثيلي أو مشابهة (توظيف كلمة " مثل "..)، أو تعبير جمالي / إبداعي (إضرام النار في قطن الكلمات / الطبيعة أرضعتني حليب اللامعنى / القمر افتض بكارة روحي..)، أو تعبير فلسفي / ميتافيزيقي (العالم لامتناه / قيام الأشياء من رفات الأشياء..)، أو استعارة أدبية / مرض اللغة (خطف دابة البراق من غياهب الأساطير القديمة..)، أو تعبير رومانسي فوق طبيعي (أصغي لنباح أصابعي في العتمة / أعزي القطار النائم فوق الشجرة / أقدس سر صداقتي مع الذئب..)، أو تعبير فوق عقدي (أعبد الأرض وأدهس السماء بمؤخرتي / هدايا الله التي نخرها نقار الخشب..).. بالجملة، فلغة النص تستعصي على القارئ اسكناه كنوزها واستغوار جوهر قصدها، وهذا ينم عن تعقيدها وثراء معجمها وثقل حملها ومتانة بنيتها..
- من منظور بنائها الداخلي (المتن الشعري)، فالأفكار ثمراء ووارقة، والمعاني قريبة وبعيدة، قبلية وبعدية، صريحة ومضمرة، معلومة ومجهولة، ظاهرة وباطنة.. غزيرة ومتنوعة ومحملة بازدواجية المعنى وفوق المعنى، الدلالة وماوراء الدلالة.. أفكار ذات طابع معقد ومتغاير ومتفاوت في الطبائع {الطابع الفلسفي / ط. الأدبي / ط. الفني التجريدي / ط. الميتافيزيقي / ط. السريالي اللاواعي..}.. وتجاوزا لعملية تفصيل فكر النص وقراءته من خلال استعراض واستنطاق أفكاره الجزئية / الظاهرة ؛ واسبعادا لكل هذا، أتناول المفهوم / الأم الذي ورد في العنوان : طائر البوم لأتساءل وأسائل، أشك وأفكر، أتأمل وأحتار، وأشارك هموم الذات الشاعرة وأتماهى مع هواجسها وانطباعاتها وشطحاتها الفكرية / الفلسفية.. لماذا وجود البوم في القصيدة؟ إلى ماذا ترمز الذات الشاعرة؟ إن طائر البوم كما هو معلوم كائن جارح ليلي، سمعه قوي، بصره حاد، عيناه واسعتان، حجم جسمه صغير، رؤيته بعيدة وقوية في عتمة الليل، يعيش في الغابة والحديقة والأمكتة المهجورة، ينصت للأصوات وينذر بوقوع الخطر، يختفي في النهار ويظهر بالليل.. إنه طائر نذير بالشؤم والنحس وسوء العاقبة في الحضارتين الفرعونية والشرقية القديمتين، يصدر أصواتا حزينة مزعجة.. لكنه في الحضارة الإغريقية القديمة والأوروبية جزء منها، هو رمز الحكمة والتعقل والتأمل العميق والاستقلال عن بعد في منأى عن المتطفلين والفضوليين، رمز العزلة والتفرد والانهماك في تأمل الذات لتأهيلها إلى المخاض والإبداع والتوليد النظري والانفجار الفكري.. وفي هذا السياق أسمى الفيلسوف الألماني فردريك هيجل HEGEL الفلسفة ببومة " مينيرڤا " لأن عملها يشبه عمل الفيلسوف حيث يتقاطعان في العزلة والتأمل العميق والاشتغلال في المساء وبعد النظر... بعد هذا التوضيح، لا أملك في هذا النطاق سوى التساؤل مع الذات الشاعرة : لماذا وجود الغابة والشجر مقترنيين بوجود طائر البوم؟ أبين هذه الموجودات اتصال أم انفصال، تداخل أم تنافر؟ تقاطع أم تباعد؟ مع العلم، أن طائر البوم لا يفارق الشجر، وهذا الأخير يتسم بالكثافة والصبر وحفظ السر وعمق العمق في مقابل البوم علامة الكتمان والعمل في خفاء والتوغل في صلب الظلام (العتمة بتعبير النص الشعري).. ألهذه الرموز والإشارات التي تتجسد في النبات والحيوان علاقة بالذات الشاعرة والأنا المبدعة؟ هل اختيار هذا النسق الرمزي في سياق النص كان اعتباطيا أم مفكرا فيه؟ وكما يقال يقرأ الكتاب من عنوانه، لماذا البوم كمفهوم مركزي في عنوان القصيد؟ أيشير ذلك إلى عتمة الذات وابتعادها عن الآخر وكتمان أسرارها والاستقلال بما هو فوق العادة والمألوف من حيث الإبداع والتأمل والإنتاج؟ أيشير طائر البوم إلى صبر الذات وتجلدها وخلخلتها وحفزها على اتباع سبيل المشقة والتحمل والإحساس بألم المخاض وتفضيل الظلام على النور؟..
- في المحصلة، فالنص الشعري لا يجادل عاقل في حبكته اللفظية وعمق منجمه الفكري، بدليل أنه يستفز راحة القارئ، ويحدث الحيرة في ذهنه أثناء قراءته، ويدفعه إلى الاستفسار والاستفهام، ويقلق باله، ويجعل ذاته تتماهى مع الذات الشاعرة وتتقمص أحيانا دواخلها وبواطنها..
***
بقلم: عبد الوهاب أحميرين
.....................

** مضطر لقتل قائد الأوركسترا.
لإلهاء البومة في قاع المفاصل.
مضطر لأضرم النار في قطن الكلمات.
لأغرز مخالبي في لحم البدهي.
لأعبد الأرض وأدهس السماء بمؤخرتي.
لأخطف البراق من براري ألف ليلة وليلة.
وأبيعه لنخاس في أقصى المدينة.
لأحرر متناقضاتي من قفص الفهد.
لأضحك مثل ثور في جنازة.
أو مثل بغي في مأزق شبقي.
أجر قافلة الهواجس مثل رهائن حرب.
لأسعد المهرجين الذين كسروا أسناني في حقل الأرز.
إفترسوا حصان العائلة.
حملوا جثة أمي المتعطنة.
رقصوا رقصة التابوت أمام الكهف.
لأبولن على وجه الشيطان.
***
مضطر لنسيان كنوز دمي
في بنك.
فضة عمري لطابور المرابين.
أحبال أعصابي لصيارفة جدد.
العضة العميقة في زندي الأيسر.
ليبك بدلا مني تمثال من الجبس
وليوزع قمح مخيلتي على الفقراء.
ليبك السنجاب الأشقر داخل عمودي الفقري.
***
للعميان فقط أبيع دموع زرقاء اليمامة.
قلت : سقط ناب الشمس
في حديقتي.
خطفه نسر ضرير فر من مرتفعات الشك.
قلت: المرأة هاوية والأديان معتقلات فظيعة.
عبروا برشاقة كنغر.
أفردوني في وادي الملوك.
أنادي صديقي المختبئ في الهواء
- توت عنخ أمون
-توت عنخ أمون
- يوما سألبس تاجك الذهبي
وأروض وحوش الكهنة.
أروض المركب الذي يعض سمكة النور.
الموجة التي تلسع هواجس الغريق.
***
مضطر لنسيان السماوات السبع.
الطبيعة التي أرضعتني حليب اللامعنى.
الثقوب السوداء التي تنتظر صحوني الطائرة.
لتلتهم شياه رأسي دفعة واحدة.
القمر الذي افتض بكارة روحي
في ممر عبثي.
هدايا الله التي نخرها نقار الخشب.
***
تحت شجرة اللوز
أيقظت المصباح.
لأقدس سر صداقتي مع الذئب.
أصغي لنباح أصابعي في العتمة.
أعزي القطار النائم فوق الشجرة
مليئا بالأشباح.
يهتز غصن عمودي الفقري.
ديك الجارة مختبئ في رأسي.
سحر نثره اليومي لا يقاوم.
سمعت خشخشة البستاني في الجذور.
وصهيل أحصنة الأسلاف
في طبقات الرغام.
قلت: العالم لامتناه في الزمان والمكان.
والمجد لقيامة الأشياء
من رفات الأشياء.
***
يكفي أن يقال: إنك تحيي الأموات وتداوي الأبرص والأكمه.
ولك أمشاج قربى بالماوراء.
حتى يصدق المنكسرون ويقولوا
إنك نبي مختار.
يكفي أن يقال: إنك ذو لوثة
حتى يصدق الآخرون..
يرموك بحجارة من سجيل.
يستنكف منك الأغيار.
***
لا توقظني
ذرني أمت
مثل ورقة قيقب
في مهب المحو.
***
فتحي مهذب تونس

في المثقف اليوم