أقلام ثقافية

عبد الرضا حمد جاسم: رحلة دون تدخل في كتاب محمد الماغوط (2): العراف

ما هذا؟

امة بكاملها تحل الكلمات المتقاطعة وتتابع المباريات الرياضية أو تمثيلية السهرة والبنادق الإسرائيلية مصوبة الى جبينها وارضها وكرامتها وبترولها...كيف اوقِضُها من سباتها وأقنعها بأن أحلام اسرائيل أطول من حدودها بكثير وان ظهورها امام الرأي العام العالمي بهذا المظهر الفاتيكاني المسالم لا يعني ان جنوب لبنان هو نهاية المطاف؟

فهي لو أعطيت اليوم جنوب لبنان طوعاً واختياراً لطالبت غدا بشمال لبنان لحماية امنها في جنوب لبنان، ولو أعطيت كل لبنان لطالبت بتركيا ولو اعطيت تركيا لطالبت ببلغاريا لحماية امنها في تركيا ولو أعطيت اوروبا الشرقية لطالبت باوروبا الغربية لحماية امنها في أوروبا الشرقية ولو أعطيت القطب الشمالي لطالبت بالقطب الجنوبي لحماية امنها في القطب الشمالي.

وملأت حقائبي بالخرائط والمستندات والرسوم التوضيحية ويممت شطر الوطن العربي اجوب ارجاءه مدينة مدينه وبيتاً بيتاً وحدثتهم كمؤرخ عن نوايا اسرائيل العدوانية وعن اطماعها التاريخية في ارضنا وانهارنا ومياه شربنا وعرضت عليهم كطوبوغرافي الوثائق والمستندات السرية والعلنية وباللغات العربية والإنكليزية والتركية....و لكن لا احد يبالي.

ثم تحدثت اليهم كفنان وعرضت امامهم اشهر اللوحات التشكيلية والرسوم الكاريكاتورية التي تصور اسرائيل كمخلب قط للاستعمار، كرأس جسر للإمبريالية، كأفعى تلتف، كعقرب يلسع كحوت كتنين كدراكولا، كريا وسكينه تقتل وتفتك وتتأمر ولا احد يبالي.

ثم تحدثت اليهم كخبير طاقة وحذرتهم من ان منابع النفط هي الهدف التالي لإسرائيل واننا كعرب قد نعود الى عصر الحطب في المضراب ونفخ النار بالشفتين وطرف الجلباب...ولا احد يبالي.

ثم تحدثت اليهم كطبيب عن تسمم الطلاب والطالبات في الضفة الغربية والجثث المفخخة في مجازر صبرا وشاتيلا وعن التنكيل المستمر بأهلنا في الأراضي المحتلة ومصادرة البيوت وطرد السكان وتحديد الإقامة ومنع السفر ومنع العودة واغلاق المدارس وتغيير المجالس البلدية  وقمع المظاهرات واطلاق غاز الاعصاب والقنابل المسيلة للدموع المسيلة للتخلف...و لا احد يبالي.

ثم تحدثت اليهم كأب ونبهتهم الى ان كل مدرسة في الوطن العربي قد تصبح مدرسة بحر البقر وكل كاتب او شاعر قد يصبح كمال ناصر او غسان كنفاني وكل رئيس بلدية او دائرة حكومية قد يعود الى بيته على عكازين كبسام الشكَعه او كريم خلف...و لا احد يبالي.

ثم تحدثت الى الفلاحيين كفلاح والى العمال كعامل والى التجار كتاجر والى اليمينيين كيميني والى اليساريين كيساري والى المزايدين كمزايد والى المعتدلين كمعتدل والى العجائز كعجوز والى الأطفال كطفل...وقلت لهم ان اتفاق شولتز مثله مثل اتفاقيات كامب ديفيد واتفاق سيناء التي تمت من وراء ظهوركم فهو مصوغ بدقة متناهية كابتسامة الجوكندا بحيث لا احد يعرف اذا كان يبتسم لنا ام يسخر منا ولذلك فان دول عربية متخاصمة لم يتصور احد انها يمكن ان تتصالح قد تصالحت بسببه وان دول أخرى صديقة لم يتصور احد انها قد تختلف قد اختلفت بسببه ولكن للتحركات السياسية حدود وللجهود الدولية معايير لا يمكن الاخلال بها وان مؤتمر الشعب العربي الدائم وقضيته المركزية فلسطين لا يستطيع ان يستمر في عقد جلساته الطارئة الى ما لا نهاية ما لم يلقى استجابة من هنا او دعما من هناك.

و ان لمقاومة الوطنية في لبنان مهما كانت باسلة لا تستطيع وحدها القضاء عليه مالم تعمم هذه التجربة في كل بلدعربي..."وقصصت عليهم احسن القصص" عن البطولة والفداء والروعة في ان يكون الانسان ثائرا من اجل وطنه ينصب الكمائن ويطارد الأعداء في شعاب الجبال وفي فترات الاستراحة يضم بندقيته الى صدره ويقرأ على ضوء القمر الرسائل الواردة اليه من الوطن اذ في كل صفحة خصلة  شعر من خطيبة او ورقة ورد يابسة من حبيب. وقرات عليهم بنبرة مؤثرة وغاضبة اجمل قصائد المقاومة والنضال لناظم حكمت ولوركا وهوشي منه ومحمود درويش وسميح القاسم ولا احد يبالي...

الكل ينظر اليَّ تلك النظرة الحزينة المنكسرة كغصن وينصرف متنهدا الى عمله... ماذا افعل اكثر من ذلك لاُثير نخوتهم وغضبهم ومخاوفهم؟ هل اضع على وجهي قناع يمثل سُنَيَّ بيغن الاماميتان المشرومتين ام اضع عصابة سوداء  على عيني مثل موشي دايان وأقفز على اسِرةُ الأطفال في ظلام الليل...هل اعرض في الساحات العامة صوراً شعاعية لما يعتمر في صدر شارون وبيريز وارينز وايتان وغيرهم من ضغينة وحقد على هذه الامة وما يبيتون لها ولشعوبها من قهر وذل وجوع ودمار؟

هل فقدت الشعوب العربية احساسها بالأرض والحرية والكرامة والانتماء الى هذه الدرجة؟

ام ان الإرهاب العربي قد قهرها وجّوعها وروّعها وشّردها سلفاً اكثر بكثير مما فعلته وما قد تفعله إسرائيل في المستقبل؟

 الى التالية/ طوق الحمامة

 ***

عبد الرضا حمد جاسم

 

في المثقف اليوم