أقلام ثقافية

علي حسين: من يقرأ الروايات الطويلة في عصر السوشيال ميديا؟

بدأت بمطالعة الروايات عندما كنت صبيا حين عثرت على سلسلة بعنوان " كتابي " كان يصدرها حلمي مراد، وغالبا ما يكون هو المترجم للكتب التي يقدم خلاصات وافية عنها.. وسلسلة كتابي كانت تصدر اول كل شهر مهمتها تلخيص الكتب العالمية بمختلف انواعها، اما الروايات فقد خصص لها حلمي مراد سلسلة بعنوان " مطبوعات كتابي " تصدر في منتصف كل شهر ومن خلال هذه السلسة تعرفت على اسماء " تشارلز ديكنز، موباسان، مورافيا، آندريه جيد، فلوبير، ستيفان زفايج، طاغور، تشارلوت برونتي وشقيقتها اميلي، غوركي، شتاينبك، بلزاك، تولستوي، سومرست موم، تورجنيف، دوستويفسكي، باسترناك، وغيرهم. وكانت مطبوعات كتابي ذات حجم صغير بحجم كف اليد.. بعد ذلك ساكتشف سلسلة الروايات العالمية التي كانت تصدرها دار العلم للملايين وبترجمة منير بعلبكي، ثم كانت المفاجأة الكبرى مع مطبوعات اليقظة العربية السورية والتي تخصصت بالادب الروسي، فقرات لاول مرة الحرب والسلم باجزائها الاربعة واعمال تشيخوف وايليا اهرتبورغ واميلي برونتي وثلاثية مكسيم غوركي عن حياته، بعدها اتحفنا المترجم القدير سامي الدروبي بالاعمال الكاملة لدستويفسكي، واجزاء من اعمال تولستوي التي اكملها صباح الجهيم، وتوالت قراءة الروايات، وكنت دائما اواجه بهذا السؤال: أي نوع من أنواع المعرفة التي نكتسبها من قراءة الروايات؟ فاجدني اتذكر مقولة شارلوت برونتي، من ان الروايات تساعدنا على معرفة القلب الإنساني أو ما أسماه جان جاك روسو في روايته (أميل) العقل الإنساني، فالروائي لديه الوسائل التي يصل بها إلى الأفكار السرية لشخصياته. ولهذا كان إميل زولا يؤمن أن " الروائي بوصفه خالق عالم المحاكاة، مدبّر أمر هذا العالم: فهو الذي يضع قوانينه الناظمة، ويسير بخطوط الحوادث إلى غايتها، ويُسيّر كل شيء حسب ما تُمليه حكمته الحصيفة. من الممكن إذن أن نرى إلى أي حدّ تتوافق قوانين سلطته الخلقية مع القوانين التي تتحكّم بالسياق الواقعي للأشياء".

أسوق هذه المقدمة بعد ان وجدت بعض القراء يجد في قراءة رواية من 700 صفحة او اكثر نوع من انواع البطر في زمن مواقع التواصل الاجتماعي، حتى ان احد الاعزاء علق على مقال لي عن رباعية نابولي للايطالية فيرانتي ان الزمن لم يعد يسمح بقراءة هذه المطولات. قبل اسابيع كنت قد قرأت مقالا للروائي الشهير ماريو فارغاس يوسا لذي يقترب من عامة التسعين يخبرنا نحن القراء " المتنعجلين " بانه قرأ قبل اشهر رواية ستيغ لارسن " ألفية " بأجزائها الثلاثة – ترجمت الرواية الى العربية – وهي تقع في أكثر من ألفي صفحة، ويضيف يوسا: " لقد غمرتني بسعادة لا توصف، واستعدت معها ذلك الشوق الذي كنا نشعر به مراهقين ندما كنا نطالع سلسلة «الفرسان الثلاثة» التي وضعها ألكسندر دوما، أو روايات ديكنز وفيكتور هوغو، متسائلين في نهاية كل صفحة: والآن، ماذا سيحدث؟، ومتوجسين الاقتراب من خاتمة الحكاية ونهاية المتعة ".

عندما نتطلع الى غلاف رواية لكاتب غير معروف بالنسبة لنا. نطرح ببساطة السؤال: هل تستحق هذه الرواية ان نخصص لها وقتا ممكن ان نقضيه مع كتاب مفيد او مع رواية لكاتب مشهور؟ هذا السؤال كان يطرح عليّ اثناء فترة عملي في احدى المكتبات الاهلية، وكنت آنذاك وبدافع " الغرور " انصح القراء بالسعي لقراءة روايات الكتاب المشهورين، لماذا؟ حتى هذه اللحظة لا اعرف، ربما لانني كنت اريد ان استعرض " عضلاتي " امام الزبائن واتحدث عن روايات اعرفها.

قبل مدة وفي زاوية صباح الكتب نشرت مقتطفا من رواية " ابن الانسان " للروائي أوغستو روا باستوس، فكتب لي احد اصدقاء الصفحة يسأل: هل تستحق هذه الرواية ان اشتريها، وماذا تقترح هل هي افضل ام رواية الايزابيل الليندي؟ طبعا الجواب في مثل هذه الامور يبدو صعبا، فانت لا تستطيع أن تفرض ذائقتك في القراءة على قارئ يطلب منك النصيحة. ثم ان ايزابيل الليندي مغرية، تملك قدرة على اخضاع القارئ لها. لكني تعلمت منذ ان بدأت افهم مغزى القراءة ان كل عمل ادبي سواء كان رواية او شعر او مسرحية يفتح لنا ابواب عالم جديد لا يمكننا الوصول اليه إلا بقراءة ذلك العمل، فالقراءة عملية ينبغي علينا ان نكرس عقلنا وقلبنا ومشاعرنا وخيالنا بدون أي تحفظات لإعادة خلق العالم داخل نفوسنا، معتمدين على الكلمات. فالعمل الادبي كما يقول الناقد هيليس ميلر: " يصير حيا وكانه مسرح داخلي يبدو مستقلا عن الكلمات الموجودة على الصفحات الموجودة " –عن الادب ترجمة سمر طلبة... تعلمت خلال تجربتي مع الكتب ان القراءة كالحب، فهي ليست فعلا سلبيا، وتتطلب من القارئ قدرا من الطاقة العقلية والوجدانية. إنها تتطلب منا ان نستخدم كل قدراتنا وملكاتنا لإعادة خلق عالم العمل الادبي الخيالي. يكتب اميل زولا في كتابه الممتع " فن الرواية " – ترجمة حسين عجة -: " كي تقرأ رواية بالطريقة الصحيحة عليك ان ترتد طفلا صغيرا ".

ولإعد الآن للروائي أوغستو روا باستوس الذي توفي عام 2005، فاعلت الاوروغواي الحداد العام لمدة ثلاثة ايام، بعد ان عثرت على روايته الكبيرة " انا الاعلى " بترجمة الاستاذ بسام البزاز وكنت قد لاحقت هذه الرواية على مدى اكثر من عام، منذ ان اخبرني الاستاذ البسام انها ستصدر قريبا

حكاية الحروب والدكتاتورية يصورها لنا روا باستوس في" ابن الاعلى " وهي جزء من ثلاثية " إبن الانسان " و " الرقيب " وانا الأعلى " التي يقدم فيه صورة دقيقة لعنف السلطة المطلقة، ومسيرة الدكتاتور خوسيه غاسبار رودريغز دي فرانسيا، لكنه في المقابل يؤكد ان هذه السلطة لا يمكنها ان تعيش الى الابد.. فنجد الدكتاتور في نهاية رواية " انا الأعلى " يجري حوارا مع كلبه، وكانه يحدث نفسه. حيث يرى ان اجله قد اقترب، فهو غير حزين لفقد السلطة بقدر حزنه لفقدانه فعل الاملاء، لا يفكر في مسالة الاطاحة به بقدر ما يفكر في فقدان القدرة على النطق.

عندما سأل أوغستو روا باستوس عن حياته وكيف عاشها قال " إن حياته حكاية يستحيل وصفها أبدا " ويعترف في واحدة من حواراته بانه صانع حكايات تقليدي، يصف السنوات الطويلة التي عاش فيها مشردا عن وطنه بانها مدرسة لتعلم الالم،: " " إن البعد عن الوطن لقنني فن الكتابة، حيث كنت اتابع ملامح وجوه أبناء وطني ولمست ثقل آلامهم ".

ولد أوغستو روا باستوس في الثالث عشر من تموز عام 1917، في العاصمة أسونسيون، لكنه قضى فترة صباه في " ايتوري " وهي قرية معروفة بانتاج السكر تقع وسط البارغواي حيث كان الده كان مديرا لاحد معامل السكر. عاش طفولة عادية، اكمل دراسته الابتدائية، لكنه توقف لفترة عن اكمال دراسته الثانوية بسبب حرب التشاكو متطوعا وكان في الخامسة عشر من عمره. كتب وهو شاب صغير عملا مسرحيا بالاشتراك مع والدته التي كانت تهوى المسرح، عرض في العديد من القرى ومدن الأرياف.كرس حياته للعمل الصحفي واصدر اول دواوينه الشعرية عام 1942 بعنوان " عندليب الفجر " نال عنه الجائزة الوطنية للشعر. في الاربعينيات سافر الى الى انكلترا ثم الى فرنسا في رحلات صحفية بعد ان تولى رئاسة تحرير صحيفة "الباييس" اليومية، بعد عودته الى بلاده تمكن من عرض ثلاثة اعمال مسرحية له قبل ان يقوده تأيده للحركة الثورية عام 1947 ضد حكومة مورينيغو الى المنفى، خلال سنوات الهجرة كان يقوم بزيارات سرية وقصيرة لبلدته، حتى عام 1982 حيث تم سحب جوازه وطرده نهائيا لمعارضته لحكومة الديكتاتور سترويستر

وعلى مدى سنوات الغربة كرس روا باستوس حياته للصحافة والنقد وكتابة السيناريوهات السينمائية في الارجنتين ثم في فرنسا التي عمل فيها استاذا بجامعة تولوز قام بتدريس الادب الاسباني.نشرت مجموعته القصصية الاولى "الأرض البور" 1966،

بعد الإطاحة بالديكتاتور ستروسنر، عام 1989 عاد في زيارة قصيرة لبلدته ثم قرر الاستقرار بفرنسا لبضعة سنوات، اصدر خلال هذه الفترة نسخة ثانية من روايته " إبن الانسان " صدرت الطبعة عام 1982، وقد صرح لبعض النقاد ان الرواية اصبحت عملا جديدا تماما دون ان تفقد شيئا من مضمونها، مرددا مقولة الشاعر الايرلندي ييتس: " عندنا انقح اعمالي فانا إنما انقح نفسي ". نشرت مجموعة من الروايات ابرزها " حرس الأميرال و" وضدّ حياتي " و " مدام سو " اضافة الى ثلاثيته الشهيرة.

عاد في العام 1996 إلى بلده للإقامة فيه حيث تم الاحتفاء به رسميا وشعبيا زار كوبا عام 2003 للقاء صديقه فيديل كاسترو الذي قلّده وسام خوسيه مارتي. توفي في السادس والعشرين من نيسان عام 2005 بعد تعرضه لازمة قلبية.

تعد رواية " انا الاعلى " من بين الاعمال المئة الابرز غي الادب العالمي، وبين اهم الاعمال في ادب امريكا اللاتينية ن يصفها الخو كاريننييه " بانها " تحفة ادبية ".. نشرت الرواية عام 1974 جين كان باستوس يعيش في منفاه في الارجنتين وقد اعتبرت واحدة من اهم الروايات التي كتبت عن النظم الدكتاتورية

ازعم انني وقعت في غرام أوغستو روا باستوس، وان هناك اكثر من دافع وراء دعوتي لقراءة هذا الروائي الكبير برغم حجم روايته " انا الاعلى "، فهي رحلة يبحر فيها باستوس نحو المجهول، نحو المنطقة العميقة، وما علينا كقراء إلا ان نحاريه، وهو يقدم له خطرفة الدكتاتور وهذيانه.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم