أقلام ثقافية
أحمد صابر: ذاكرة واحة (20): في البدء كانت الواحة
حزمت الكرة الأرضية نفسها من الوسط ببساط رمال الصحراء، التي تلفها شرقا وغربا، الحزام هو نقطة الوصل بين الأعلى والأسفل، مع العلم أن الكرة الأرضية لا يصدق عليها هذا الوصف إلا مجازا.. الواحات اختارت أن تكون مصاحبة للصحراء وقد اتخذت لنفسها موضعا في مختلف جنباتها شمالا وجنوبا، مستفيدة من مختلف الأنهار والمنابع المائية والسيول.. الواحة إذن بنت الصحراء، فأي حديث عن الواحة سيأخذنا إلى الحديث عن الصحراء والعكس صحيح، فالواحة منذ القدم وفرت للقوافل الصحراء، وللإنسان الذي تعوَّد أن يرتحل بجوفها من مكان إلى آخر، وهو يتتبع الكلأ لقطعانه من الأغنام والإبل والماعز.. -وفرت- فرصة من الاستقرار تتحول لحياة الحَضر التي تعتمد على الزراعة والصناعة.. بدل حياة البدوِ التي اتخذت من الترحال شرطا للحياة، فالحضر والبدو كلاهما يستفيد من الآخر.
قال أبو العلاء المعري (-449هـ/1057م):
الناسُ للناسِ مِن بدوٍ وحاضِرَةٍ
بَعضٌ لبعضٍ وإنْ لَم يشعروا خَدَمُ
الواحة إذن شرايين وَصْل وعبور ما بين جنوب الكرة الأرضية وشمالها، وهي حالة تحولت معها عبر سرمدية الزمن البعيد إلى خزان لمختلف الثقافات والحضارات التي عبرتها في اتجاه شمال الصحراء أو جنوبها، وهي بمثابة قاع العالم الذي يخبئ مختلف الأسرار المعنوية والمادية، وقد خبأت الأرض النفط في جوفها، من تحت رمال الصحراء بالقرب من الواحات، لأمد بعيد من الزمن لا أحد يعلم بدايته..
الواحة شريط أخضر يخترق الصحراء؛ يلتوي يمينا ويسارا إلى جانب مجرى نهر معين أو منبع ماء؛ شريط تلفه الجبال والهضاب والرمال من كل جانب؛ شريط أخضر من النخل والزيتون وعناقيد العنب وحبات الرمان.. وليس بجنباته إلا القفار والحر الشديد الذي يأتي على كل شيء.. استعارت الواحة من الصحراء معنى الأضداد؛ ندرة الماء ووفرته؛ عذوبته وملوحته؛ الارتواء والعطش؛ الحر والبرد؛ الفراغ والامتلاء..
كل ضد عندما يقترب من ذروته، تظن أنه استولى على ضده الذي يعاكسه وقد احتواه بالكامل؛ فعندما يتحالف الحرُّ والجفاف تظن بأنها النهاية التي لا بداية بعدها؛ فيشرع في اجتثاث كل جذور الحياة؛ ففي حضرته تحاول مختلف الكائنات والنباتات أن تكتفي بالقليل من أجل البقاء.. ينكمش النخيل وهو يمْتَص جذوعه ويتخلى عن تفريع جريده، يجري الماعز ويتزحلق وفمه مشدود إلى سطح الأرض لعله يعثر على بقايا من الأعشاب الجافة وبعض من أشواك الصحراء، يميل الناس إلى إخراج ما خزَّنوه من حبات التمر ومن فول وعدس وجزَر مُجفف..
فجأة تأتي السيول بدون سابق إنذار؛ لتفتح صفحة جديدة في الصحراء والواحة وفي حياة الناس، فعندما تمتزج قطرات الماء مع حبَّات الرمال تنبعث منها رائحة عطر التراب التي تعمُّ المكان، السيوف العالية من كثبان الرمال التي تتوسطها مساحات واسعة، سرعان ما تحوِّلها السيول إلى مستنقع للمياه، مشكِّلة بذلك حاجزا أمام مختلف السيول القادمة من كل الجهات المرتفعة، وقد تستغرب من تشكل بحيرة صغيرة من الماء ما بين يوم وليلة..وقد تجلب إليها في قادم الأيام مختلف الكائنات من غزلان وطيور من أجل الماء، الذي يتحول موقعه إلى فخٍ تراقبه الذئاب والثعالب لتفوز ببعض فرائسها..
بفضل السيول التي تحضر وتغيب، وبفضل مختلف الواحات الكبيرة والصغيرة تمكنت شرايين سفن القوافل المحملة من جنوب الأرض نحو شمالها أو العكس من الاستمرار لعهد طويل من الزمن، تداولت على بساطه العديد من الحضارات والعديد من الدول. في ذلك الزمن كانت القوافل سببا رئيسيا في نشأة وازدهار مدن كبرى (تمبكتو. سجلماسة..) وكانت الواحات مهدا لمختلف حركات التغيير والإصلاح وقد تبدأ في الاول بدعوة دينية واجتماعية، وبعدها تتحول إلى حركة سياسية واقتصادية. تبسط سيطرتها على طرق تجارة القوافل وتتمدد فيما بعد إلى دولة ثم امبراطورية تشيخ بعد فترة من الزمن تطول أو تقصر، ولم تعد تقوى على بسط سبل الحكم والنظام، حينها يعيد التاريخ نفس التجربة بلون آخر وبطعم اخر ويبزغ فجر دولة أخرى. فمهد الكثير من الدول في الازمنة القديمة تعود إلى مجال الواحة، فهي بداية لعهد جديد ونهاية عهد آخر قد استنفد دوره، وهذا ما جعل منها حوض للتفاعل والتواصل عبر التاريخ بين مختلف التجارب والثقافات فيما مضى من الزمن.
في لحظة فارقة من الحضارة والتاريخ، لم تعد الحاجة لشرايين القوافل العابرة للصحراء، وقد تم استبدالها بقوافل السفن وهي تعبر بحر المحيط الأطلسي من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه نحو غربه، وقد شكل ذلك إعلانا عن ولادة حضارة أخرى، خرجت من عباءة مختلف الحضارات التي سبقتها، حضارة أخذت على عاتها أن الغنى يكون بالاستحواذ على الأشياء، وإذا بها تبحث عن الذهب في كل مكان، إلى درجة أنها اتخذته إله يعبد من دون الله، وبنت من أجله صنما من جماجم ودماء وعظام ما لا يعدُّ ولا يحصى من الأبرياء من أهل قبائل جنوب الصحراء ذوي البشرة السمراء، وقد اكتظَّت قوافل السفن بأجسادهم، وهي تمخر أمواج بحر الظلمات، لتلقي بهم في أرض ما وراء المحيط، وهي أرض سلبت من أهلها ذوي البشرة الحمراء، الذين تمت إبادتهم..
إنه أمر بئيس أن يسجل التاريخ أن هذه الحضارة لوثت يدها منذ البدء بدم بني البشر، من ذوي البشرة الحمراء والبشرة السمراء.. حضارة كتب التاريخ عنها أنها ضيَّقتِ الخِناق عن المختلفين معها في المِلَّة، فهي لا تقبل ملة غير مِلَّتها، ولا بشرة غير بشرة عرقها..فمصير المختلفين هو الطرد والإبعاد، ففي الجزيرة الإيبيرية سجل التاريخ أسوأ صفحاته التي أساءت المعاملة مع المختلفين في المِلَّة ودفعت بهم وهم مكرهين في البحر اتجاه الضفة الجنوبية..منهم من وصل ومنهم من أكلته حيتان البحر..
بعض من الحكايات التي يرددها الفتيات داخل قصبات وقصور الواحة، تلخص محنة من هجِّروا بعد أن أجبروا على ترك ملَّتهم، فلطول العهد تحولت الحكاية إلى تعبير عن الفرح بدل الحزن وعن أمل مفقود غطَّاه الزمن لقرون طويلة.. بين مختلف الأزقة تشتبك أيادي الفتيات في دائرة تدور حول نفسها من خلال قفز اللواتي اشتبكن بأيديهن وهن ينشدن بصوت مرتفع قبل غروب الشمس: (تِكْشبِيلةَ تِوليولةَ.. ما قَتْلونِي ماحْيَاونِي.. غِيرْ ذَاكْ الكَاسْ اللِّي عْطَاوْنِي.. الحَرامِي مَا يْمُوتْ شِي.. جَاتْ خْبَارُو في الكُوتْشِي.. )2
- تِكْشبِيلةَ تِوليولةَ: تلك إشبيلية سنعود لها تلك إشبيلية سنولي إليها
- ما قَتْلونِي ما حْيَاونِي: لا أنا بالحي ولا أنا بالميت نتيجة العذاب من لدن محاكم التفتيش.
- غِيرْ ذَاكْ الكَاسْ اللِّي عْطَاوْنِي: كانوا يرغمونهم على شرب الخمر حتى يتأكدوا من تغيير ملتهم
- الحَرامِي مَا يْمُوتْ شِي: عودة غدر القشتاليين المسيحيين المتطرفين المجرمين
- جَاتْ خْبَارُو في الكُوتْشِي: جاءت أخبار عودة القشتاليين مع العسكري الذي يركب عربة تجرها الخيول
تصور معي أن تحتفظ الواحة ببقايا وأثر محنة إنسانية مرة عليها قرون عديدة من الزمن، ألم أقل لكم بأن الواحات هي القاع الذي يخبئ بين طياته ما لا يحصى ولا يعد من المعارف ومن مفاتيح ألغاز التاريخ الممتد من الثقافات التي تلاقح بعضها ببعض على بساط حزام الصحراء الذي حزمت به الأرض نفسها منذ الأزل..مع الأسف تعطُّل شرايين قوافل الصحراء منذ قرون، كان سببا من وراء اختفاء مدن ومراكز حضارية كبيرة، أما التي لم تختفي فقد تبدَّل وتغير حالها عقدا بعد عقد وقرنا بعد آخر..وبقيت تصارع الزمن حتى امتدت إليها يد ذوي الحضارة التي ترى الغنى في الاستلاء على مِلك الغير..
العناية بمعرفة خفايا حزام الصحراء وتاريخ الواحات في جزء كبير منه يمثل نقطة التلاشي، إنها نقطة التقاء بعيد الأمد لمختلف مسارات التاريخ والزمن المحملة بمختلف الوقائع الأحداث..المتصلة بعالم الغيب وعالم الشهادة الحاضر والماضي والمستقبل.. ففي البدئ كانت الواحة..
***
بقلم: د. أحمد صابر
* كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.
...................................
سقطت غرناطة آخر قلاع الأندلس 2 يناير 1492م. وقد اتخذ قرار طرد الموريسكيين المسلمين من الأندلس1609م. أغنية (تك شبيلية تيوليولا) متوارثة من تراث الموركسيين الأندلسيين العرب والمسلمين الذين طردوا من الاندلس وهاجروا إلى إفريقيا، ومن الصعب معرفة أي وقت بالذات ظهرت الكلمات ومن الصعب معرفة أول من أنشدها، إنها تعبر عن شعور جماعي لمجموعة من الناس في لحظة تاريخية محددة. أنظر: موقع المنصة العربية / معنى أغنية تك شبيلية تيوليولا.