أقلام ثقافية

أحمد صابر: ذاكرة واحة (18): سقط الجدار

الصيف من بين الفصول المناسبة لترميم مختلف الأبراج والأصوار التي تحيط بمختلف القصبات والقصور، أو بناء مختلف الدور أو ترميمها، طول ساعات النهار وحرارته تساعد على أن تجف مختلف الجدران التي يتم بناؤها، بدكِّ التراب الممزوج بالماء، داخل القوالب المصنوعة من خشب جذوع النخيل، فالقالب يتكون من لوحتان خشبيتان كبيرتان على شكل مستطيل، كل واحدة بطول مترين وزيادة وبعرض متر واحد وزيادة، توضع مقابل بعضها وتحزم بالحبال...جدران مختلف الأسوار عبارة عن قوالب ولبنات مستطيلة الشكل موضوعة بعضها فوق بعض بإحكام، وقد يصل علوها إلى ثمانية أمتار وأكثر وعرضها إلى  ما فوق نصف المتر أو المتر الواحد و وزيادة، وأنت جالس بالأسفل منها تشعر بضعف جسدك النحيل، أمام ضخامتها تبدوا كنملة صغيرة.

عندما تمر بالجانب من مستعمرات النمل، تلاحظ بالقرب من قدميك أكوام من حبات صغيرة من التراب والحصى المستخرجة من جوف الأرض بعناية... والنمل يحوم حولها من مكان إلى آخر، يأخذك نوع من الفضول والحيرة، كيف تمكنت هذه الحشرة الصغيرة جدا، من استخراج هذا الركام من التراب من جوف الأرض لتبني وتوّسع مساكنها من تحت الأرض...هو نفس الشعور الذي يمتلكك، وأنت تتأمل في مختلف الأسوار العالية، كيف تمكن الجماعة من الناس من جلب الكثير من أطنان التراب ودكّ بعضها فوق بعض بإحكام وعناية لبناء مسافات طويلة من الأسوار العالية، معتمدين في ذلك على قففهم المصنوعة من سعف النخيل وعلى دوابهم المحملة بزنابيل التراب وهي تجلب أحسن عينة منه من مكان ليس بالبعيد، لا داعي للاستغراب ما يجري في عالم النمل يجري في عالم الإنسان، وأضيف لك من البيت شعرا، يا صديقي، الجزء الكبير من المخلوقات تقضي معظم وقتها وهي تبني مساكنها، الطيور لا تنتهي من بناء الأعشاش، والفئران لا تنتهي من حفر مساكنها تحت الأرض، الثعالب الذئاب...

أحيانا عندما تمر بالقرب من قصبة أوم قصر من القصور، في إحدى جنبات الواحة، تُبصر من بعيد جماعة من الرجال، واحد منهم في الأعلى داخل القالب الخشبي وهو يدكُّ بالمدكِّ التراب1، والعمال واحدا تلوى الآخر يتسلقون السلم، وهم محملين من فوق رؤوسهم بقفف صغيرة مليئة بالتراب المبلل... منظر يستمر طيلة النهار لأيام وأسابيع...عندما يملأ القالب بالتراب،  يتجمع العمال بهدف فك الألواح الخشبية بعضها عن بعض، وهم يرددون الصلاة والسلام على الرسول الكريم، أهل الواحة يعتقدون بأن الأسوار التي تصاحبها الصلاة على الرسول، قد تعمر كثيرا... كما أن ورش الشغل بشأنها ستصاحبها سلامة العمال.

قصص الجدران والأسوار، في مختلف أرجاء الواحة، قصص لا تنتهي، ليس لها بداية ولا نهاية، كثيرة هي الأسوار التي ضمنت الأمن لأهلها وكانت بالنسبة لهم حصنا منيعا، في الغالب تكون الأسوار على حافة جسر صخري عالي، أو على حافة منحدر هضبة عالية، وأحيانا تكون الجدران والأسوار داخل غابة النخيل، تحيط بها جذوعه وجريده من كل جانب.... كثيرة هي الأسوار التي انهزمت وذابت كالشمع، أمام سيل كبير من الماء وقد جرفها فجأة، أو نتيجة ارتفاع منسوب مياه النهر الكبير، أو نتيجة زخات رعدية كثيفة من المطر... الرمال التي تسحبها الرياح داخل الصحراء من مكان إلى آخر، تجد راحتها وهي تتراكم بجانب الأسوار العالية، وتجعل منها متكأ لها، وتتحول بذلك درج يأخذك إلى أعلى السور لتجد نفسك تطل من الأعلى على الوجهة الخلفية الداخلية للقصبة أو القصر، الرمال بفعلتها هذه تجعل من الأسوار عديمة الجدوى...

جزء كبير من تاريخ الواحة تلخصه مختلف الأطلال وبقايا الأسواء، الموجودة في كل مكان في الواحة، وهي تتفاوت من حيث قدمها، فمنها التي سويت مع الأرض وتحولت إلى أكوام من التراب هنا وهناك، ومنها ما زال يواجه صعوبات التعرية والرياح وزخات المطر، ومنها ما امتدت إليها يد الإنسان لتنزع لبناتها، وأحجارها... مختلف تلك الأطلال تخبئ من ورائها تاريخ طويل... ومنها ما انقطع أثره بالكامل، بتحويلها من لدن أهل الواحة إلى حقول...

أهل الواحة يملكهم، نوع من الخوف الممزوج بالفرح الكبير، عندما يحل المطر فيما بينهم، الفرح بالماء الذي تتوقف عليه الحياة، والخوف من النتيجة الغير المعروفة للأمطار الرعدية التي تحمل معها زخات كثيفة من المطر لوقت قليل أو طويل. تتسبب الأمطار الرعدية في سيول تجرف كل شيء تجده أمامها، كثيرة هي القصور والقصبات التي حاصرتها السيول وجرفتها بالكامل، ولم تمهل أهلها إلا وقتا قليلا ليفروا واحدا تلو الآخر هربا من الكارثة...كارثة ذوبان الجدران وتصدّعها وانحلال الأسقف وتفكُّك بعضها عن بعض ...

تتجمع زخات المطر في مختلف أسطح الواحة الطينية، وتندفع في اتجاه محدد من سطح إلى آخر، لتجد نفسها في مجرى يأخذها إلى بالوعة تلقي بها من أعلى الأسطح إلى الأسفل، وتتحول بذلك دروب وأزقة الواحة إلى مجاري فرعية ورئيسية لمياه المطر، صحيح بكون القصبة قادرة على تحمل جريان الماء من تحت جنبات حيطان أزقتها، لكن تصور معي أن هذا الوضع   قد يستمر أسبوعا كاملا، ألا تتأثر أساسات جدران وحيطان القصبة بهذا المشهد الذي يصاحبه الرجال بمعاولهم، وهم يدفعون الماء إلى خارج القصبة، تصور معي زيادة منسوب المياه الذي تدفعه الأسطح نتيجة كثافة المطر، وقد امتلأت  مختلف مسالك جريان الماء وسط الأزقة والدروب، واقترب علوه من ركبة الرجل الواحد، فعندما يصل الوضع إلى هذه الحال، تتآكل أساسات بعض من الدور وإذا بها تنهار بشكل بطيء، بعد هلع وهرب أهلها، وذلك إعلان للخروج من القصبة، يخرج الناس إلى العراء كبارا وصغارا وهم محملين بأغراضهم، ولا شيء أمامهم إلا العراء، وسيلجأ البعض منهم إلى نصب خيامهم والاحتماء بالنخيل... ومنهم من يلجأ إلى المخابئ من تحت الأجراف الصخرية. 

 يتذكّر الناس في مختلف أرجاء الواحة، الأربعين يوما التي حاصرتهم فيها الأمطار، ولم يعد امامهم خيار إلا الخروج كما يخرج النمل من مسكنه عندما يغمره الماء، مستنجدين بمختلف الربوات والمرتفعات، وهم يعيشون حياة مبلَّلة بالماء... الأرض وأغطيتهم وملابسهم، ودوابهم وأبقارهم ونعاجهم بالجانب منهم وصوفها المبلَّل يتقاطر ماء على أرجلها... وهي لا تقبل على العشب والتبن... لأنه مبلَّل وممزوج بالتراب العالقة به... الحطب مبلَّل وبطيء الاحتراق... الحقول كلها تحولت إلى برك مائية صغيرة...

نتيجة مطر الأربعين يوما فقدت القصبة جزءا كبيرا، من مدخلها الرئيسي، وقد تم ترميميه فيما بعد، وفقدت فيه جزءا كبيرا من الأسقف، بالقرب من المدخل الرئيسي لم يتم ترميميها وبقية شاهدة على الحدث...إنه أمر غريب أن يترك القصبة أهلها طيلة أربعين يوما، ولا يبقي بداخلها إلا من أسندت لهم مهمة تصريف الماء من داخل أزقتها إلى خارجها، وهم بالطبع رجال شجعان، وقد اختلفوا بعد زوال المطر، في أمرهم فمنهم  من ارتأى أن يشيدوا قصبة جديدة، ومنهم من كان رأيه  أن يرمموا القصبة ويعودون إليها...في الآخرين، اتفقوا على العودة إلى داخل القصبة، وانخرطوا جميعا في ترميمها.

في يوم من الأيام انخرط البعض من رجال القصبة، في مهمة سحب الرمال التي تسربت من وراء إحدى الأسوار إلى داخل القصبة، وقد قطعت الطريق الذي يمر من الزُّقاق الرئيسي الذي يأخذ المارة في اتجاه مسجد القصبة، فالسور بين رمال من خارجه ورمال أخرى من داخله، وهي وضعية تجعل التسلّل إلى داخل القصبة أمرا سهلا، كانت فكرتهم أن يسحبوا الرمال من الداخل، ليسحبوا نفس المقدر بنفس العمق من الجهة الخارجية، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، عندما وصلوا إلى عمق أربعة أمتار، وهم يستعدون ليتجهوا نحو الجهة الخارجية للجدار ليسحبوا الرمال بنفس العمق،  في غفلة منهم فجأة إذا بالجدار يسقط مرة واحدة، دون سابق إنذار وقد تكرر صدى سقوطه في كل أنحاء المعمور؛ تلته أصوات وصياح من هنا وهناك، وقد تصاعد كم هائل من الغبار إلى السماء... يا الله كيف للجدار ان يسقط هذا حدث لا يصدق... هل سقط فعلا؟

حينها كان كبير القوم يأخذ قسطا من الراحة في الدور الأول من جوف بيته؛ فزع فزعا شديدا عندما بلغه الخبر؛ لفَّ عمامته بشكل سريع على رأسه، أدخل رأسه في الجلباب وقد مسكت أطراف أصابعه كمَّيها، خطى خطوة وخطوتين أدرك بأن ثوب الجلباب لازال من فوق الحزام؛ وإذا به يسدله بخفة إلى الأسفل؛ بعد خطوات تعثر وكاد يسقط على وجهه؛ بسبب نعاله الغير مربّطة بشكل جيد على رجليه... وهو يقول في نفسه لا يمكن بحال أن يسقط الجدار؛ عهدته جدارا قويا منذ زمن بعيد...وجد نفسه داخل دار القبيلة، نظر إليهم ونظروا إليه ولا أحد منهم يقوى على الكلام؛ خرجوا جميعا يهرولون متجهين إلى مكان الحدث...إنها خسارة كبيرة،  سقوط الجدار أودى بحياة سبعة أرواح وبعض من الدواب، بكى أهل القصبة بكاء جماعيا، وقد ودعوا كل من أحمد ومبارك ومسعود وأربعة أخرين من الرجال، بعض الأمهات لم تقوى على الصمود وبعض الإخوة لم يتحملوا الحدث... شيَّعت القصبة موتاها، فالزمن كفيل بأن ينسيهم حزنهم على المصاب الجلل، في الأسابيع التي تلت الواقعة سموا مواليدهم بأسماء من فقدوهم تخليدا لذكراهم.  ... يتبع ...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

...............

1- المدكِّ: يدكُّ به التراب، وهو عبارة عن كتلة مربعه من الخشب، تنبعث من وسطها عصا، يمسكها الرجل ويسحبها نحو الأعلى ليضرب بها التراب بين أرجله.

في المثقف اليوم