أقلام ثقافية

نورالدين حنيف: كتابةُ الْعراء

لا أحد يستطيع كتابةَ كينونتهِ إذا ما رامَ الكتابةَ الموصوفةَ بالخلقِ لأن هذه الكتابة بالذّات موكولة لربّ الخلق. وعليه، فكل محاولاتنا في التحبيرو التعبيرعن ذواتِنا إن هي إلا أشكالٌ من التقريبِ للجسد من ظلالِه، أو أضربٌ من الترتيبِ للظلّ في دوائرِ الجسد. وأقصدُ بالظلّ كلّ الهيولى الممكنة ولا أقصد انعكاس الكتلة بفعل مرجعية الضوء.

و كينونتي التي يمكنني أن أصوغَ فيها بعض الاجتهاد هي مساحتي الممكنة. ولكنّها مساحةٌ محدودةٌ بحواسّي. ومن ثمّةَ فعليَّ إن أردتُ أنْ أوسّع دائرتي من قبضة المحيط إلى شساعة الأفق، عليّ أن أغيّر من أدواتي القارئة لكينونتي. ومعناه، أن المباضعَ الّتي استمدّها من حواسّي الخمسة نفقَ أثرُها واستنفدتْ أغراضَها وصارتْ قاصرة عن المعرفة. وهكذا سأتكرّرُ في غيرِي لأنني لم أغيّر وجهةَ نظري من قارئٍ لكينونتي داخل الشّبهِ إلى قارئٍ لها داخل الخصوصيّة والاختلاف والتمرّد على مجموعة من الصور النمطية التي حكمتْ مخيالي وأطّرتْهُ بحكم هذه الأدواتِ الّتي صاغَها التاريخ وقدّمَها لِي أصلاً لا محيد عنه ولا مناص، كلّما رغبتُ في الكشف عن كينونتي.

يكفِيني فقط أن أخرجَ من كينونَتي وأن أضعها مؤقّتاً أمامي، مثل آخرَ يستحقّ الدرسَ بمعزِلٍ عن أهوائي فيها ولها. فهي سلطانٌ قاهِرٌ للموضوعية، ونافٍ للحياد، وحاجزٌ سميكٌ من التمثّلاتِ يحول دونَ ملامسَة بعض الأمر في حقيقته أو أقرب إلى حقيقته إن شئنا القول في أمانة علمية.

ها أنا الآن صانعٌ لبعضِ المسافة بيني وبيني. وها أنا أنظرُ إليَّ ببعض الحياد، متجرّداً من سلطانِ النرجسِ القابعِ فيَّ أبيتُ أم شئت. وأنا الآنَ أقاوِمُ هذا القهر الأنوي عسايَ أظفرُ ببعضِ المعنى خارجَ تاريخِ نرجسيتي الموغلة في كينونتي المسكينة.

 قالتْ لِي رأسي: لن تستطيعَ فكاكاً من أناكَ يا أنا...

قلتُ: لِمَ؟

قالتْ: السببُ أنّ أول ضريبةٍ لهذه المكاشفة هي أن تكونَ ماءً.

قلتُ: لم أستوْعِبْ...

قالتْ: أخْلِصِ العراء.

كانتْ هذه العبارة مثل الضربة القاضية الّتي أسقطتْ، وفي نفسِ الآنِ أيقظتْ.

فهمتُ إذن أن كتابةَ الكينونة معناها كتابةُ العراء. ومن لم يَسْطِعْ أن يتعرّى فلا هو بالكائن ولا هو بالكاتب.

***

نورالدين حنيف أبوشامة - ناقد من المغرب

في المثقف اليوم