أقلام ثقافية
ناجي ظاهر: من جماليات الشعر المحكي
اضاءات سريعة في حياة بيرم التونسي واشعاره
قدّم الشاعر العربي المصري بيرم التونسي (23 اذار 1893- 5 كانون الاول 1961)، في حياته وشعره الغزير نموذجًا حيًا للشاعر الشعبي الذي يعيش همومه الخاصة في بُعدها الاجتماعي، فكان شاعرًا ناقدًا ساخرًا من الدرجة الاولى، رائعًا في لغته، حتى أن طه حسين قال عنه إنه لا يخاف على اللغة الفصحى إلا من عامية بيرم التونسي، أما كامل الشناوي- صاحب "لا تكذبي"، فقد قال عنه: "فنان ثائر، عاش طوال حياته يعاني العرق والقلق، وشظف العيش، وقد يتهيّب-خاصة المثقفون- عندنا من الاعتراف به في حين كانت جامعات أوروبا تدرس آثاره وتعترف بموهبته الأصلية وفنّه الرفيع"، فيما وصف أحمد شوقي زجله قائلًا: " هذا زجل فوق مستوى العبقرية".
المنشأ
كما ذكرت المراجع الوفيرة التي كتبت عن هذا الشاعر الرائد، فإننا نعلم أنه ولد في الاسكندرية لعائلة من أصول تونسية، وأن والده كان تاجر أقمشة، كما نعلم أن والده توفي وهو لمّا يزل فتى غض الاهاب، فيما تزوّجت أمه بعد وفاة والده، لتشهد حياته نجاحات قليلة واخفاقات كثيرة، وليتقلّب في شتى الاعمال الشعبية والمهن، متنقلًا من منفى إلى منفى، كما ذكر هو ذاته في كتاب مذكراته، وكيف اعترفت السلطات المصرية الحاكمة عام 1954 به مواطنًا مصريًا ومنحته الجنسية المصرية بعد حرمان طويل له منها. عاش شاعرنا تجربته المُرة هذه من أقصاها إلى أقصاها فاكتوى بنارها ونَعِمَ بأنوارها، مرافقًا دائمًا لمعشوقه الاول والاخير القول الشعري الزجلي او العامي. فما هي قصة هذا الشاعر مع محبوبه هذا؟ كيف جاء إليه، وماذا قدّم فيه؟
عاشق الملاحم الشعبية
تذكر المصادر، وهي وفيرة عن بيرم التونسي، أنه جاء إلى عالم الشعر عبر طريق الحكاية الشعبية، وقد تمّ مجيئه هذا، بعد أن أنس في طفولته إلى أحد عمال البناء في ورشة خاله، واستمع منه إلى قصة بهرته، فأمضى فترة من عمره في انتظار هذا العامل، ليستمع إلى قصصه وحكاياته. بعد أن تعلم القراءة والكتابة في الكُتاب، اكتشف عالم الملاحم الشعبية العربية أمثال ملحمة بني هلال وعنترة بن شداد والاميرة ذات الهمة، وربّما كان هذا التوجه سببًا في أن يمارس كتابة القصص وفي أن ينتج عددًا وفيرًا فيها، ومن المعروف أن وقوع ديوان الشاعر العربي القديم ابن الرومي في يده قد أثر في حياته أيما تأثير، فتوجّه إلى كتابة الشعر، وكان أول انتاج له في القول الزجلي هجاء للمجلس البلدي في مدينته، وذلك ردًا على فرض ضرائب باهظة عن سنوات سابقة، لا يعلم عنها شيئًا، على بيته الذي اشتراه بشق الانفس، ونقدم فيما يلي شيئًا من هذا الهجاء:
يا بائع الفجل بالمليم واحدةً
كم للعيال وكم للمجلس البلدي
كأن أمي بلَّ الله تربتها أوصت
فقالت: أخوك المجلس البلدي
أخشى الزواج فإنْ يوم الزفاف أتى
يبغي عروسي صديقي المجلس البلدي
أو ربما وهب الرحمن لي ولداً
في بطنها يدعيه المجلس البلدي
تذكر المصادر أن هذه القصيدة كانت من أوائل ما كتبه التونسي من شعر بالعامية، مشيرة أنه فضل العامية على الفصحى، لأنه كان يعرف انه يكتب إلى شعب 95% من افراده أميون لا يقرأون ولا يكتبون، وتتوقف هذه المصادر عند محطتين هامتين في حياة التونسي، تمثلت إحداهما في علاقته بسيد درويش والاخرى بأم كلثوم. علما أنه كتب الاغاني للكثيرين في مقدمتهم فريد الاطرش.
علاقتان مميزتان
ابتدأت علاقة التونسي بسيد درويش عندما طلب منه الاخير أن يضع له أوبريت/ مغناة تحرّض المصريين على رفض الحكم الانجليزي لبلادهم، وتُعلي من شأن الانسان المصري، ضمن محاولة لإثارته وتثويره ضد الحكم الانتدابي الانجليزي على بلاده، فقام بيرم التونسي باقتباس المغناة المطلوبة من أوبريت «دوقة جيرولستين الكبيرة» للكاتبين الفرنسيين: ميلهاك وهاليفي. ومما جاء فيها قوله:
أنا المصري كريم العنصرين
بنيت المجد بين الأهرمين
جدودي أنشأوا العلم العجيب
ومجرى النيل في الوادي الخصيب
من هذا المنطلق الوطني الشعبي المُحب، ما إن قامت ثورة الضباط الاحرار في 23 تموز من عام 1952، حتى وقف بيرم التونسي إلى جانبها نفرًا مجندًا لخدمتها ورفدها بنسغ الحياة، ومما قاله في العيد الاول للثورة:
العيد ده أول عيد عليه القيمة، مافيهشي تشريفة ولا تعظيمة
صابحين وأعراضنا أقله سليمة، والقيد محطم، والأسير متحرر
مرمر زماني يا زماني مرمر
أما علاقته بأم كلثوم فقد ابتدأت عام 1940 عندما عاد بيرم إلى مصر متسللًا بعد نحو العشرين عامًا من معاناته النفي، خارج البلاد المصرية، وقد مرّت هذه العلاقة بمرحلتين هما:
- المرحلة الأولى وبدأت بأغنية "أنا وانت" عام 1941 واستمرت حتى عام 1947، وكانت جميع أغانيه لأم كلثوم في هذه الفترة من تلحين زكريا أحمد.
- بين المرحلتين كان فيلم "فاطمة" نقطة فاصلة حيث غنت أم كلثوم لأول مرةٍ من تأليفه وتلحين محمد القصبجي، ورياض السنباطي.
- المرحلة الثانية بعد فيلم فاطمة حيث لحن رياض السنباطي جميع الأغاني التي غنتها أم كلثوم من شعر بيرم، باستثناء أغنية "بالسلام إحنا بدينا" لمحمد الموجي، و"هوّ صحيح الهوى غلاب " لزكريا أحمد.
أما الاغاني التي كتبها بيرم التونسي لأم كلثوم فهي:
تلحين زكريا أحمد: "أنا وانت"، "كل الأحبة"، "اكتب لي"، "أنا في انتظارك"، "الآهات"، "إيه اسمّي الحب"، "حبيبي يسعد أوقاته"، "أهل الهوى"، "الاولى في الغرام"، "غني لي شوي"، "سلام الله على الحاضرين"، "قو لي ولا تخبيش"، "يا عيني يا عيني"، "في نور محياك"، "برضاك يا خالقي"، "الأمل"، "حلم"، "الورد جميل"، "نصرة قوية"، "هوّ صحيح الهوى غلاب."
تلحين محمد القصبجي: "يا صباح الخير يا للي معانا"، "نورك يا ست الكلّ".
تلحين رياض السنباطي: "بطل السلام"، "بعد الصبر ما طال"، "الحب كده"، "شمس الأصيل"، "صوت السلام"، "ظلموني الناس"، "القلب يعشق كلّ جميل"، "يا جمال يا مثال الوطنية"، "يا سلام على عيدنا".
تلحين محمد الموجي: "بالسلام إحنا بدينا."
مُجمل القول، ان الشاعر بيرم التونسي قدّم نموذجًا حيًا للشاعر الزجلي الشعبي، الذي انحاز إلى جانب الطبقات الشعبية المسحوقة ونطق بلسانها المُعذّب معتمدًا النقد الحاد والسخرية المرّة، وهو ما كلفه أثمانًا غالية من النفي والتشرد في بلاد الله الضيقة، وقد أصدر خلال حياته صحيفتين ساخرتين هما :" المسلة" و"الخازوق". ليكون بهذا كلّه واحدًا من رواد شعر العامية المحكية/ الزجل في مصر، وليأتي بعده العديد من الشعراء الذين سيواصلون نهجه هذا وسيمضون في دربه الحافل بالأشواك والاشواق.
***
ناجي ظاهر