أقلام ثقافية
ناجي ظاهر: حكاية مبدعة مجهولة من الناصرة
شاعرة نصراوية عاشت غريبة ورحلت غريبة، لم يسمع بها الكثيرون، كتبت خلال سنوات مديدة ونشرت في صحف ومجلّات كانت تصدر إبان حياتها. ابتدأت النشر في فترة مبكّرة من عمرها القصير، في الثمانينيات، ورحلت عام 2013، صدرت لها مجموعة شعرية نثرية واحدة فقط حملت عنوان " لن اقول وداعا".
رحلت الشاعرة سناء السعيد عن عالمنا قبل عشرة اعوام، عن عمر قارب الخمسين عامًا. رحلت بصمت بعد سنوات من معاناتها المرض العضال مدّة نافت على العقد من الزمان، تاركة وراءها مجموعتها الشعرية الوحيدة وحفنة من الذكريات في اماكن كانت فيها، ولدى قلة من ابناء بلدتها.
عرفت سناء في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، خلال فترة عملي محررًا أدبيًا في هذه الصحيفة أو تلك، وكنت أفاجأ بها تأتي بين الحين والآخر لتقترح عليّ قراءة واحدة مما كتبته من قصائد واشعار، تقترح للقراءة لا أقول للنشر، فما كان مني إلا أن ابادر لنشر ما تتقدّم به إلي، على اعتبار أنه وليد موهبة واضحة وتستحق أن يقرأها الناس.
علاقتي بالشاعرة سناء السعيد تواصلت إلى أوائل الثمانينيات، وتواصل النشر لها في العديد من الصحف التي عملت فيها، وأذكر أنني نشرت لها في صحيفتي" الراية" و" الميدان"، اللتين أصدرتهما حركة أبناء البلد، إبان تلك الفترة وعملت فيهما محررًا أدبيًا، بعدها نشرت لها في صحيفة "الجماهير" ومجلة "الآداب" اللتين أصدرهما الصديق الكاتب الصحفي عفيف سالم، رحمه الله، وأشير هنا بالمزيد من المحبّة إلى ماض ما زال ساريًا أمام ناظري ويشدّني خيط دقيق إليه من الذكريات، أن عفيفًا آمن منذ قراءته الأولى لبعض مما نشرناه لسناء بموهبتها اللافتة فبادر إلى تشجيعها، وقام في تلك الفترة بنشر عدد وفير مما كتبته، بل تجاوز هذا للمبادرة إلى اصدار ديوانها الشعري الأول والوحيد " لن أقول وداعا"، وقد كان لي شرف المساهمة في اختيار هذا العنوان، أما سبب اقتراح عنوان مثل هذا، فقد قام على رؤية متعمّقة لما كتبته سناء، فقد كان بإمكان من تتاح له قراءة ما كتبته شاعرتنا، لمس ذاك الاسى الشفاف الكامن وراء كلّ كلمة كتبتها، وكان الوداع أحد مركّبات كتابتها الشعرية الملموسة، الجلية والواضحة.
بعد إغلاق الصديق المرحوم عفيف سالم لمكتبه الصحفي، وتوقّفه عن الإصدار لأسباب لا مجال لعرضها الآن، انتقلت للعمل محررًا أدبيًا في صحيفة "الصنارة"، وقد كنت افاجأ بالصديقة سناء تطرق باب مكتبي لتدخل بخفر ميّزها، وأذكر أنني نشرت لها في تلك الفترة بعضًا من كتاباتها. بعدها اختفت سناء لتظهر في هذا الشارع أو ذاك من شوارع مدينتي، فتحيي وتمضي، إلى أن انقطعت أخبارها في العقدين الأخيرين، وقد عرفت مما توفّر لديّ من معلومات قمت بجمعها لغرض كتابة هذه المادة، خاصة من شقيقتها الشاعرة إيمان مصاروة، أنها عملت في عدد من المؤسسات، أما المرض العُضال فقد علمت أنه داهمها قبل حوالي العقد من الزمان، واستوطن في دمها، إلى أن قضى عليها في يوم صيفي حارّ من عام 2013.
لا أخفي أن نبأ الرحيل المبكّر لهذه الشاعرة الإنسانة هزّ كياني وأدخلني في حالة حزن وأسى غامرة، فقد كانت سناء كما عرفتها، إنسانة خفرة حيية، بعيدة كلّ البُعد عن الادعاء والاستعراض وما شابه من صفات باتت اليوم في عصر الانفجار المعلوماتي والامكانيات غير المحدودة للنشر، لا سيما في الفيس بوك، واحدة من الملامح التعيسة التي تميّز الكثيرين، وكنت وما زلت أرى فيها مثالًا لتواضع المبدع الخلاق البعيد عن التنفّج والادعاء .
لقد عاشت هذه الشاعرة المولودة لعائلة محافظة صفورية الأصل، بصمت، ورحلت بصمت، وأعرف عن قرب أنه كان بإمكانها لو أرادت أن تملأ الدنيا شعرًا وضجيجًا.. لكن ماذا بإمكان شاعرة حيية خجولة أن تفعل سوى كتابة ما يمور بوجدانها ويدور في خلدها؟
أنني الآن وأنا اكتبُ هذه الكلمات التذكارية عن شاعرة كانت بيننا ورحلت عنّا بكلّ ذلك الصمت المهيب، أشعر بنسمة شجيّة تهب من الماضي لتغرقه أسى وتوجعًا، وتساؤلًا.. فلماذا يرحل المبدعون بصمت؟ ولماذا تُغيّبهم يدُ المنون فيغيب معهم ماكتبوه وانتجوه خلال سنوات وسنوات من أعمارهم؟ رحم الله سناء السعيد فقد كانت صوتًا شجيًا هامسًا في حياتنا.. وشعلة شعرية متوهّجة انطفأت ومضت بصمت.
***
ناجي ظاهر