أقلام ثقافية
فؤاد الجشي: العاشق - ليلى في العِراق
يُحكى أنّ ليلى في العراق مريضة، ليلى كانت الوصل للعشق القلبي الذي وقع في قلوب الأدباء والشعراء في زمانها. تقدّم إليها غفوةُ الشعب في لغة الضاد، ينشدون أنّهم اكتشفوا الدواء المداوي، لكن، هل سأل العشاق من هي ليلى؟، لم يكترث الكثير بوصفها، قصيرةً أم طويلة، سمينةً أم ضامرة، إنّها رسالة عشق وقع فيها العاشق حتى وصل نثرها أصقاع العشاق والأدباء، إنّها فريسة الأدب التي لن تتكرّر، ما زالت ليلى أمام اختفاء الجسد وليس الروح. أصبح الشعراء والأدباء والعوام توّاقين في وصفها لإبراء القلوب التي عشقت واكتوت بنار الحب حتى فقدت نار العيش، بدون من يهوى، فراقٌ دائمٌ لا يفترق.
يا جميلة الوصف أين أنتِ؟، هلّا انتفضت من سباتك حتى تتيقني أنّ العاشقين، ينتظرون بين دجلة والفرات وبين النيل المصري والسوداني، النيل الأزرق القادم إلى القادم. لقد ضاع القوم يبحثون عنك، حتى فهم البعض أنّ الورد حان قطافه، لكنهم ما لبثوا أن ضاعوا بين النذور يسألون الموالين وقت الفرج.
أرسلت الرسائل من الجزائر وأغادير وتونس وليبيا ومصر حتى الخليج، يكتبون تلك الخطابات إلى المسؤولين والمداويين، كيف حال ليلى؟، عفا الجواب طال انتظار الصبر في أن يدوم، لكنّ العاشق وضع قلبه على دربها، أعانه ذلك السائق بوجودها في البيت العتيق الجميل، لم يصدّق أنّ ليلى تنتظره، غاب عن الحياة فترة، جاف الوقت يفكر، كيف انتبهت ليلى، إنّني أبحث عنها.
منع الجواب، وصل إلى دارها، طرق الباب برفق، بعد هُنَيهة، سمع صرير الباب: أنا الطارق سيّدتي، جئتُ لرؤية ليلى.
- من أنت؟
- أنا الصبي العاشق الذي ضاع ظلّه سنين طويلة، يبحث عن ليلى.
وقفت وصيفتها تنظر إلى العاشق الولهان كأنّني على ميعاد، هل أنت الصادق؟
- نعم سيّدتي.
- تفضّل، سمعنا أنك في الطفّ تحوم بين الإبل تبحث عن قلب ليلى المريضة.
تفضّل سيّدي الصادق، ليلى تنتظر قدومك، أمهلني بعض الوقت.
نظر الصادق العاشق بين زوايا البيت، وجد تلك القطيفة التي نقش عليها هذا البيت:
يقولون ليلى بالعراق مريضة *** فيا ليتني كنت الطبيب المداويا
بين المقعد والأريكة، سمعت صوتها، التحية إلى سيّد الحب، وقوفًا وجلالة الحضور، أفاقت الجوارح في خشوع، تفضّل أيّها الصادق.
كانت ملفوفة بالسّواد لا تقع العين على شيءٍ، قالوا إنّ الشفاء حظّك لكثير من الفتيات، الحكام والسلاطين قد علموا أنّ ليلى بالعراق مريضة، أغلبهم، غلب عليهم الخيال والوهم، بأنّ ليلى في التخيّلات فقط، إنه حظّي يا سيدتي، حتى لا يتجرأ أحدٌ في البحث عنك.
ضحكت ليلى: إنك شقي مراوغ.
جاءت أقداح الشاي حين تجرأت وقلت: أين أكواب الصهباء؟
أنتَ في حضرة ليلى وتحت سماء بغداد، أنا امرأة مسلمة، وأنتَ، هل حسبتني من الكافرين؟
تغيّر مجرى الحديث.
مولاتي: لقد جئت للعناية بك، وهو فضلٌ لن أنساه ما حييت.
أفاقت ليلى من سُباتها، نظرت إليه كعاشقة وسألته: هل تعرف أيّها الصادق؟ لقد كنتُ ثَمِلة منذ عقد، أنتظر رؤيتك، قرأت روايتك في ليلى، الحب في زمن الخيال، الليلة الأولى من العشق، منذ وصولك إلى المدينة، كنتَ في الخمّارات ثملًا بين الغانيات ترقص ليلًا، تبحث في شفاء ليلى، يطلع النهار ورأسك منفوخ من كثرة الشّرب.
سيّدتي: الثمالة كانت في البحث عنك. تعلمين، لقد جئتُ من أقصى بلاد القوم البعيدة، لم يتوقف قلمي عن الهيام بكِ، علمت الحقيقة أنك على ضفاف دجلة تنظرين.
لنا في الغد لقاء، المخدع ينتظرني، روحي ظلّت طريقها ليلاي
دعيني أرفع السواد الذي أسدل وجهك، من ثقب الضباب، ليلاتي، دعينا، نبحر من بيروت إلى قرطاجة حاملين العِلم بين ثقلين، الأول لكِ والثاني لكِ، اشتاقت الأشرعة اتجاهاتها الأربعة بين الطواحين والسرور.
أيّها الصادق، فكّر في مجدك، أنا ليلى، ناصية واجفة خربة، جوارحي تأبّطت واشتاقت أن تتوق الروح موسمها، أربعين سنة، أنتظر رؤياك، هيّا قف وانزع اللثام عن وجهي، اقترب لقد حان القطاف قبل الرحيل.
بين ليل بغداد وضع قربه أمام حانة قريبة من مخدعه، الموسيقى أخذت جفاه، جلس يفكّر في رؤية ليلى في اليوم القادم، جاء النادل: سيدي، ماذا تشرب؟
ألا أيّها الساقي، أدر كأسًا وناولني، دعني أفكر قليلًا، ليلى تنتظرني غدًا، أخاف من المخبرين الذين يروونَ روايتي لها في هذا الليل العتيق، الشك مقدار من الخوف.
نظر النادل: إذًا عليك عن شراب التوت.
لا، دع التوت، النّبيذ سيّد الطريق، الروح تنتظر الروح غدًا.
أفاق سمعه بعد وقت قصير على صوت، أديب الدّايخ:
يقولون ليلى في العراق مريضةٌ
أيا ليتني كنت الطبيب المداويا
وقالوا عنك سمراء حبشية
لو لا سواد المسك ما انباع غاليا
ارتفعت آهاته محلّقًا بين الوادي والجبل، رفع يديه ثائرًا أن يكون بين ليلى غدًا، بعد رحلة طويلة بين مدن العراق، يغازل بناتها بين النظرة والنظرة. سمعت المدائن بقدومه، جاءت الفتيات من كلّ صوب، رافعين الرياحين في الشفاء بين يدي المليح، ينفضون أرواحهم بين قلبه، يقول لهم تمتمات شفائية ثم يذهبون إلى ديارهم، متمنّيات أن يكنّ زوجًا لهذا العاشق الولهان.
جاء اليوم. كان يطرق باب ليلى، ظهرت وصيفتها ترحب، أيّها الصّادق، الانتظار سيّد الفوائد والبخور يلوح بالمكان، المدّ في الانتظار أزعجه، التفت برهة، وقع قدميها أوتار، أمام الهبوط من زاوية المكان، سمراء جميلة مثل الليل فاتنة، لونها من لون مُقلتها، إن كنت أخطأت فقولوا لي جفّت الكلمات التي عرفتها منذ فجر ميلادي، تموج بعباءتها حضورًا.
سيّدتي، كنت بالأمس في حضرة الشيخ أدعو أن يكون الختامِ، خاتم بين إصبعين، عندها يبدأ الهيام.
ليلاتي: نعم، أيّها الصادق، لا زلت تلحق البغاء في الليل الساتر، انتشرت رؤياك، أنا غضبة منكَ، لماذا لا تسعدني وتتوقف؟ أنتَ تعرف ما هو الهيام! تلعثم بالراء قليلًا، قال: كنت أراقب نفسي في محو المجون والجنون، في الحانة، سألت النادل في شراب التوت، أغفلت عن الصّهباء لأجلك، أيّتها السّمراء، ذلك ظنّي بأنّ مخبريك يلهثون ورائي، بلغ غيظي أشدّه، قبضتي تريد المسك بين الظل والنور.
عندما تشرب وتنظر إلى الملاح يتوقف قلبي في القيح غضبًا، يخلو الأدب في وقته وتذهب الأخلاق في غفلتها أيّها الصادق المجنون.
لست مجنونًا، الجنون هو العشق الذي نزل في دهاليز الرّوح التي آلت أن تهدأ. انصرفي وتوقفي عن الجنون، بدأ العشق يهدر جداولي في رحلة النسيان، اركب مركبي، إلى لقاء لن يتكرّر.
- هل غضبت منّي؟
- نعم، ماذا أقول؟ كوني أديب دندنة الأخلاق والأدب، المدينة تعرف سبب وجودي في البحث عنك؛ كوني غريبًا قادمًا من بلد عربي بعيد، حتى تلامذتي يتسامرون بينهم في السؤال بين الوهم والحقيقة التي يبحث عنها أستاذهم.
هل تريد غفرانًا يصبو إليك؟، الأدب يفرّق الكلام أثناء الشتات بين الكؤوس، تطيب النفوس في حرمٍ، لقد ذكره الله في ذكره.
ليلاي، إنّ نفعه أكثر من ضَرّه، يشربه النصراني ويظلّ سليم الأخلاق، ويشربها المسلم ويصبح سيّئ الأخلاق.
اسمعي ليلاتي واعقلي: لم يَبقَ لي رشدًا أسمع به وأعقل.
لم يَبقَ إلّا الوداع، لقد انقلب قلبي في دقاته كساعة أحجمت عقاربها عن الوقت الذي يحين.
لقد أغرقت دمعاتي، أيّها الصادق، تعالَ ضع رأسك واثنِ على فخدي، إنّها النهاية، أيّها الجميل، طرق الباب شيخ ذو عمامة بيضاء، فتحت الوصيفة الباب، قالت: اكتب كلمات الوثاق قبل أن يغادر الطير إلى مرساه.
***
فؤاد الجشي - السعودية