أقلام ثقافية
عن مسرحية غوركي.. (الحضيض)
تمّ العرض الاول لمسرحية مكسيم غوركي (الحضيض) في مسرح موسكو الفني وباخراج ستانسلافسكي بتاريخ 18 كانون الاول / ديسمبر من عام 1902، وفي الذكرى السنوية (120) على هذا الحدث الثقافي (الروسي اولا، والذي تحوّل بعدئذ الى نقطة انطلاق عالمية)، نشرت صحيفة (ليتيراتورنايا غازيتا) الاسبوعية مقالة شغلت الصفحة الثالثة باكملها في عددها الصادر بتاريخ 21 - 27 ديسمبر 2022، وهي مقالة مثيرة حول هذه المسرحية وجاءت بعنوان غريب، وهو – هل الحقيقة ضرورية في القعر ؟، وتعبير (في القعر) هو عنوان هذه المسرحية بالروسية حسب الترجمة الحرفية كما جاءت عند غوركي ( العنوان الذي استقر بالروسية بفضل الكاتب الروسي أندرييف، صديق غوركي، بعد عدة عناوين اقترحها غوركي نفسه)، ولكن المترجم العربي لم يلتزم بالترجمة الحرفية (وحسنا فعل !)، واعطى عنوان (الحضيض) لتلك المسرحية، والتي صدرت بترجمتين عربيتين بمصر في حينها وبنفس العنوان، وتهدف مقالتنا الى تعرّيف القارئ العربي (الذي يعرف منذ فترة طويلة هذا العمل المسرحي الرائد) بالافكار الجديدة التي طرحها كاتب المقال في (ليتيراتورنايا غازيتا) حول مسرحية غوركي الشهيرة بعد مرور 120 عاما على عرضها الاول في مسرح موسكو الفني، وهذا المقال يعدّ بحدّ ذاته ظاهرة طريفة و غير اعتيادية وتستحق التأمّل العميق، اذ نجد هناك عدة آراء متنافرة بعض الشئ (ان صحّ التعبير)، رغم ان الكاتب يحاول ان يجيب عن سؤال مهم، والسؤال تحديدا هو - لماذا يعود النقد الادبي الروسي المعاصر الى مسرحية غوركي هذه من جديد ؟، ولكن المقال هذا في الوقت نفسه يتحدث عن غوركي بشكل غير مباشر، في انه كان (ضد الحقيقة !) في مسرحيته تلك، وانه لم يكن يعتقد بضرورتها لهؤلاء، الذين (في القعر)، وقد انعكس رأي الكاتب حتى على العنوان الاساسي للمقال، ولهذا السبب، فاننا نعرض هذا المقال للقارئ العربي ونحاول التوقف عند جوانبه المختلفة حول غوركي ومسرحيته (الحضيض) والتعليق حولها في اطار معلوماتنا المتواضعة، اذ ان المقال منشور في صحيفة (ليتيراتورنايا غازيتا)، وهي صحيفة تمتلك اهميتها وقيمتها في عالم الصحافة الروسية المعاصرة، ومن المهم للقارئ العربي متابعتها والاطلاع على آرائها وتوجهاتها .
مقال الكاتب بلاتون بيسيدين يبدأ بالاشارة الى الشهرة العالمية لمسرحية غوركي (الحضيض)، ويعطي الكاتب نموذجا لهذه العالمية قائلا - (انها المسرحية التي تم عرضها وبنجاح كبير في برلين، مثلا، مئات المرات !)، ويؤكد الكاتب ان هذه المسرحية لازالت ولحد الان واسعة الانتشار عالميا لدرجة (وهنا يصل الكاتب الى استنتاج غريب !) ويقول، ان هذه المسرحية اصبحت (اكثر شهرة من غوركي نفسه !!!)، ويوضّح هذه الفكرة قائلا، ان شهرة غوركي بدأت بالانحسار عالميا مقارنة مع تلك المسرحية، خصوصا في روسيا المعاصرة، بينما هذه المسرحية لازالت تعرض وبنجاح على مسارح اجنبية عديدة، وفي اوروبا بالذات، ولا يأخذ الكاتب بالاعتبار الموقف تجاه غوركي في بقية الدول، ومنها عالمنا العربي . يرى الكاتب، ان السبب الرئيسي لشهرة هذه المسرحية يكمن في انها عمل فكري بحت قبل كل شئ، عمل يعكس صراع الافكار في اعماق غوركي نفسه، و لا تعتمد على احداث معينة، ويؤكد، ان حلاصة هذه المسرحية الفكرية يمكن اختصاره، في ان هؤلاء الناس اما (قتلوا) الرب في اعماقهم، او (اضاعوه)، وهم الان يبحثون عبثا عن البديل، ولهذا، فان الافكار التي يطرحها ابطال المسرحية لازالت تتفاعل مع روح عصرنا الحاضر بشكل مثير، اذ ما أكثر هؤلاء النماذج في كل العصور وفي المجتمعات الانسانية كافة . يتوقف كاتب المقال، مثلا، عند النقاش بين بطلين من ابطال هذه المسرحية هما (لوكا) و(ساتين)، ويرى الكاتب، ان هذا الحوار في الواقع هو نقاش حاد يجري بين الفيلسوف الالماني نيتشه و الفيلسوف الروسي سولوفيوف، او بتعبير أدق، كما يضيف كاتب المقال، بين غوركي نفسه وتولستوي، ويشير الى كلمات تولستوي الشهيرة حول غوركي، والتي قال فيها، ان (...ربّ غوركي مشوّه....)، وهي كلمات تعبّر بشكل دقيق عن الموقف الديني لتولستوي، الذي كان يدعو الى ان العلاقة بين الانسان والرب ّ يجب ان تكون مباشرة ودون اي وسيط بتاتا، وكان يقصد الكنيسة طبعا . الا ان أغرب هذه الآراء التي جاءت في المقال تنعكس في ان الكاتب يرى، ان غوركي كان يعتقد، ان هؤلاء الناس الذين يقفون في الحضيض لا يحتاجون للحقيقة، وان الحقيقة غير ضرورية لهم، وقد انعكست هذه الفكرة في عنوان المقال كما أشرنا في بداية مقالتنا، ويحاول الكاتب تعزيز رأيه هذا بالاستشهاد بجملة قالها غوركي عام 1929، الا اننا نرى، ان المسيرة العامة لغوركي لا تتوافق مع هذا الرأي، وليس عبثا، ان غوركي يشغل مكانته الخاصة به في تاريخ الادب الروسي بشكل خاص، وفي تاريخ الادب العالمي بشكل عام، وان هذه المكانة يعترف بها هؤلاء الذين يقفون ضده، قبل هؤلاء الذين يقفون معه، ويكفي ان نتذكر كلمات الشاعرة تسفيتايفا (وهي كانت في هجرتها هربا من ثورة اكتوبر 1917) معلقة على منح جائزة نوبل لبونين (وهوكان مهاجرا ايضا)، اذ قالت، ان غوركي هو الذي يستحقها.
***
أ.د. ضياء نافع