أقلام ثقافية
عمار عبد الكريم: قمة العفو
شهرزاد: ما الذي يجعلنا نحب الأم أكثر أو الأب اكثر؟ .. تارة نميل لها وتارة نميل له ! .
شهريار: مخزونات العقل الباطن لا تتغير إلا اذا سعى أحدنا لذلك جاهدا، ومن غير تدبير منّا فإننا نمر بمواقف تعيدنا الى مشهد في الذاكرة يزيد من تعلّقنا بالأب او الأم، في تلك اللحظات حينما نوقن أن تصرفا ما لأحد الطرفين – كنّا نحسبه فيما مضى خطأً جسيما – كان في غاية الصواب، وبحكم خزنه في العقل الباطن نحسن التصرف ونتجنب موقفا مهلكا، هنالك نُقّر لأحد الوالدين بالحكمة وبالمسامحة عن ذنب لم يرتكبه أبدا، ومن غير أن نشعر أو نفكر يرى أحدنا نفسه وهو يميل الى الطرف الآخر بخلاف الأيام او الاعوام السابقة، وهكذا نحب الأب أكثر او الأم أكثر، فكما إن الحياة مراحل والإدراك مراحل فالمحبة لكليهما مراحل.
قمة المسامحة والعفو يا شهرزاد لأبٍ أو أمٍ فارق أحدهما أولاده في ليالٍ حالكات، أو أيام مهلكات، ثم عاد بعد سنين طوال عانت خلالها العائلة أعظم معاناة ليطلب الصفح من أبنائه وبناته، إنها أقسى لحظات تمر على الطرفين، فالأول تتجلى أمامه كل ذنوبه، ويقر بتقصيره وعظيم عيوبه، والطرف الثاني (الأبناء والبنات) تتكالب أمام عينيه ذكريات لا طائل له بها، تجعل قلبه كالصخر نحو أبيه العائد او أمه العائدة بعد طول غياب، هنا تكون الكلمة الفصل لعقل راجح، أو قلب مجروح وهيهات أن يجتمعا على رأي واحد في مثل هذا الموقف، فأمّا العقل الراجح فهو يعاني من تربية أولاده، ويدرك قيمة رسالته، وعظيم منزلته عند ربه، فيصفح ويسامح، وفي اللحظة التي ينطق بها: (أسامحك أمي، أغفر لك أبي) يعود صغيرا ليرتمي في أحضانٍ افتقدها لأعوام وأعوام، ويشعر أن الدنيا باسرها قد أصبحت ملك يديه بعد طول انتظار .
وأمّا القلب المجروح فيجد الفرصة المؤاتية للإنتقام ممن (ظلمه) وحرمه من أبسط حقوقه في الحياة، إنه كيتيم قضى عقدا من الزمن وهو يتلظى بين نيران الحرمان وآلآلم الفراق، وهاقد جاءته الفرصة ليداوي جراحه، فيشتاط صاحبه غيظا وينسى أن من يقف أمامه كان سببا لوجوده في هذه الدنيا، وأنكل مايقال في مثل هذه الأحوال: (لماذا عدت؟..لا حاجة لنا بك الآن) .
والغالبية العظمى ممن يعانون صدمة اللقاء مع الأب أو الأم المُفَارِقَين لايمكنهم المسامحة من غير تفريغ (شحنات سلبية) عاشت معهم سنين طوال، إن أحدهم كبركان هائج ينتظر هذه اللحظة (منذ قرن) ليرمي بحممه، ويحرق ماحوله قبل أن يعود الى حالة السكون .
وهنا أنصح كل أب فارق أبناءه وبناته ليعيش في كنف آخر، او أمٍ رَمت بأولادها في أحضان جدتهم وجدهم لتعيش عالما آخر، أن يستعدا لاستقبال تلك الحمم البركانية، وأن يصبرا على ماكانا سببا في تخزينه وإطلاقه من قساوة وغلظة وجفاء، وأن يعاودا الكَرةَ مرات ومرات حتى تسكن تلك العاصفة، وحينها سيتفقُ القلب مع العقل على أعظم صَفْحٍ عرفه التاريخ، إنها مغفرة ومسامحة على عذاب طويل لم يتوقف في أي لحظة أو ساعة أو يوم أو عام كان فيها الأب او الأم متنصلين عن أسمى رسالة في الحياة .. رسالة الوالدين .
ولي صديق من أهل البصرة .. رحل أبوه هربا من الخدمة العسكرية إبان حرب الثمانينيات من القرن الماضي، كان لصاحبي (ذو القلب الكبير ) أخَوَان أصغر منه وأختان تكبرانه بعامين وثلاثة، وكانت أمه بسيطة التعليم، وأكبر أختيه في الخامسة عشرة، لم يترك الأب حتى رسالة وداع، وأبلغ الأم بأنه سيعود ما أن تتوقف الحرب .
علمت الأسرة بعد غيابه عاما أنه في ألمانيا، ومرت ثلاثة أعوام من غير أن تصل منه رسالة واحدة، الأم طورت من مهاراتها في الخياطة لتقوم بدور الأب.
مرت 17 عاما وهي تواصل الليل بالنهار مجتهدة صابرة على الفاقة، وترفض أن يترك أي من أولادها الخمسة الدراسة، كانت تأتيهم إعانات من جدهم، وكل ذلك لم يكن كافيا لتوفير عيش كريم.
بعد تغيّر الحال، وفي نهاية عام 2004 ظهر الأب فجأة ليجد ابنتيه متزوجتين ولكل واحدة منهما 3 أولاد، أمّا الأخَوَان الأصغران فقد قتل أحدهما إبان غزو العراق، والثاني يدرس في المرحلة الاخيرة من كلية الهندسة، أمّا صاحب القلب الطيب فلم يكمل ألا الدراسة الإعدادية، وهو في ذلك اليوم من أشهر طباخي البصرة، متزوج ولديه ولد وبنت، ومازال يعيل الأسرة الكبيرة، وقد رحلت أمه منذ أشهر حسرة على ولدها الشاب وسنين طوال قضتها في الكد على أبنائها وبناتها .
يقول ذو القلب الكبير إنه تفاجأ برجلٍ وقور بهندام مترف يطرق باب الدار الداخلية .
- عفوا من أنت؟ ولماذا دخلت الى الدار من غير استئذان؟ !.
- ألم تعرفني .. أنا أبوك .
في تلك اللحظات .. مرت الذكريات الأليمة في رأسه كفيلم روائي يوثق مايزد عن عقد ونص من الحسرات والآلام والخوف والفاقة والحرمان .. إعتلته رعشة غير مسبوقة وأصابه صداع شديد، ومن غير أن يدري تساقطت دمعاته على شفتيه لتلامس إبتسامة حائرة، طال سكوته وهو ينظر الى (الأب الضال) الذي عاد للتو يطلب الصَفْحَ الجميل، كان يتقلب بين عبارات تطرق مسامعه، وأخرى تدور في رأسه .
- ولدي سامحني أعرف أنني مقصر في حقكم، لم يكن ذلك بإرادتي، كنت مجبرا على الهروب، كان الموت قريبا مني في تلك المعارك الطاحنة.
نظر الى أبيه وقد علَتْ الدهشة محياه وأجابه من غير أن ينطق بكلمة واحدة:-
- نحن خضنا معارك من نوع آخر، كادت الفاقة تقتلنا، وغيابك طالما أشعرنا باليتم الدائم .
- انا لم أكن قادرا على الإتصال بكم، وعشت لأعوام طويلة في فقر شديد .
- لم يكن فقرك كفقرنا وها أنت ترتدي بدلة أنيقة تدل على غناك .
- ولدي .. أرجوك سامحني، سأعوضكم عما فاتكم .
- هل ستعوضنا عن الحرمان منك؟ أم عن سنوات القحط؟.. عن مستقبلي الدراسي الضائع؟ .. عن أمي التي ماتت من حسرتها .. عن أخي؟.
- ولدي ..هل تسمعني؟ .. لماذا لا ترد عليّ؟ .
رفع ذو القلب الكبير يده اليسرى طالبا من أبيه أن يسكت، تأمل إبنه وإبنته اللذين يقفان عند قدميه ويرفعان رأسيهما إليه، كانهما يسألانه عن دمعاته، وعن هذا الرجل الغريب الذي يقف أمامه؟، مسح بيده اليمنى على رأسيهما، وهو يقول مع نفسه: هل سأقف كموقفه المخزي هذا؟ .. هل سأتنصل عن مسؤولتي تجاه أسرتي في يوم ما؟.. هل ستسامحني زوجتي وأولادي انْ انا فعلتُ ذلك؟.
قرر في لحظتها أن يسامح أباه .. مد ذراعيه لمعانقته حيث بكيّا طويلا وبحرقة، ومن يومها صار مدافعا عن أبيه أمام امتناع أحدى أختيه وأخيه، ومازال متكاتفا معه حتى إلتأم شمل الأسرة .
لقد تجلت يا شهرزاد في تلك الدقائق العصيبة أرفع مشاهد العفو، وأرق معاني المحبة، أنْ يصفح أحدنا عن أكثر من عقد ونصف من القهر والضياع وإنتظارٍ للمجهول بسبب قرار طائش فذلك عفو ما بعده عفو أرقى ولا أسمى منه، إلا محبة متعاظمة تزيد من تلاحم الأسرة، وتعوضها بشكل ما عن سنين الحرمان والفقر والقهر .
بقلم: عمار عبد الكريم البغدادي
......................
* من وحي شهريار وشهرزاد (41)
مقتبسات من مؤلفي: شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة