ترجمات أدبية

روبرت هيتشنز: البدوية

بقلم: روبرت هيتشنز

ترجمة وإعداد صالح الرزوق

***

لم يكن مصير السيدة ليمير، بالتأكيد، عاديا. فهي فرنسية، من مرسيل، كما يمكنك أن تعلم من لهجتها، ولا سيما حينما تقول "C'est bien!"، كما أنها بنت ظريفة ونشيطة جدا، مع إرادة قوية، وعاطفة جياشة متأهبة للمتعة ولحياة المدينة. وتستطيع أن تخمن، من كلامها حينما بلغت السابعة عشرة، أنها إذا فكرت بالرحيل عن مرسيل، لن يكون إلا للسفر إلى باريس. ولم يكن يعجبها أي شيء. وكانت تشعر أنها مولودة لتعيش في مدينة عظيمة. وها هي الآن وقد بلغت الأربعين، تعيش هنا في الصحراء، ولديها نزل في الكيف تحت جبل الملح!. أحيانا تتساءل كيف وصلت إلى هذه الأنحاء، وهي تعبر باحة النزل، وتمر بالبغال التي ربطها النزلاء في أكواخ مفتوحة، أو حينما تسكب النبيذ الجزائري المسكر للمزارعين القادمين من التل، أو لتاجر رحالة أغبر أشعث من باتنة، وهي مدينة مشهورة بعرائش الكروم التي تقابل الصحراء.

كان اسمها ماري بريتيل، والآن هي ماري ليمير وتعيش في الكيف! وفي الصحراء، والله وحده يعلم من تخدم: جزائريين، فرسانا مجندين من شمال إفريقيا، حداة إبل، صيادي غزلان! يا الله. هذا كثير!. ولكن إن كان لديك "مشكلة" ما، كيف تتعامل معها؟ كانت "مشكلة" ماري بريتيل أنها ضعيفة لدرجة البلاهة أمام الوجوه الوسيمة. وقد أرادت أن تنجح في العالم، وأن تسافر، وأن تذهب إلى باريس، أو إذا استحال ذلك، أن تبقى في مارسيليا، وأن تتزوج من رجل غني في المدينة، وأن تعقد الحفلات، وأن تشتري الأثواب من مدام فاني Vannier، في رو دي كليشي، والقبعات من تريبيشو Trebichot، في رو ديس كولونيس، وأن تحضر عروض المسرحيات، وأن تكون موضع الاهتمام وأن يشار لها بالبنان في أرض السباق، و -- و، باختصار، أن تكون جميلة جميلات مارسيليا. وها هي في الكيف، وكل ذلك بسبب تلك "المشكلة" التي في طبيعتها. وكان لدى السيد ليمير وجه وسيم. عدا أنه رجل طيب، مخلص، وشجاع، ومفتول العضلات، وقوي العزيمة. ولكنه ليس من مرسيليا، لكنه جاء إليها لتقديم عرض أكروبات في صالة الموسيقا، وهناك قابلته ماري بريتيل، وهو يرتدي ثيابا ضيقة فضية، ويؤدي ألعابا مدهشة على ثلاثة قضبان متوازية. وكان لذراعيه عضلات تشبه صفائح الحديد، وشارباه الأشقران مقلمان بشكل خط مدبب، وعيناه الشجاعتان متوقدتان كالنار وتفتنان النساء - و - حسنا، هربت معه ماري بريتيل، وأصبحت السيدة لامار. وهكذا جاءت إلى الجزائر، حيث أصيب لامار بحادث وهو يقدم عرضه. وتلك هي بداية الأوديسة التي انتهت إلى الكيف.

"غبية - غبية - غبية". غالبا ما كررت ذلك لنفسها، وهي تتجول في النزل وتؤدي واجباتها وذرات الرمل تتغلغل في شعرها.

"غبية - غبية - غبية".

كانت الكلمة تذهب مع رياح الخسارة وتلقي بها في الصحراء. بعد الحادث فقد لامار عمله. ثم فقد حسنه. ومال للبدانة. وتوقف عن تقليم شاربيه ليكونا مدببين. وتلاشت قوة عضلاته، وغطتها الدهون الطرية. ثم اعتاد على الشراب. وبهذه الطريقة جرفهما التيار.

ولكسب بعض النقود عمل بعدة مهن - دليلا، وحارسا، ومرافقا لل "الجميلة فاطمة". يمكن القول إنه عمل في الجزائر بمهن مستحيلة.

وماذا عن ماري؟. حسنا، الأفضل أن لا ندقق في حياتها عن مقربة تحت شمس إفريقيا اللاهبة. مهما كانت، لم تكن ناجحة. حتى أنهما تشردا من الجزائر. إلى أين ذهبا؟. أي مكان لم يحلا به في هذه الأرض المحترقة؟. عرفتهما أوران على حدود المغرب، ومساجد القيروان، ورياح تونس، وصخور القسنطينة، وجدران بوجي الصاخبة المحاذية للماء، والحصن الوطني في كبيلة الكبرى. أقاما في كل مكان. وأخيرا دفعتهما رياح الصحراء، من أشجار النخيل المتداعية في بيسكرا، مثل ذرتي رمل مسكينتين في الصحراء، إلى الجدران الطينية في الكيف. وهنا - بمعونة من الله - عملا لعشر سنوات في نزل "أو ريتور دو ديزيرت - العودة إلى الصحراء". أنفقا عشر سنوات طويلة وحارة وجافة، وفي نزل من هذا النوع. لكن لماذا؟. لو أنه في مارسيليا لأطلقا عليه اسم... - حسنا، لا يمكن لأحد أن يؤكد ماذا يمكن أن يطلقا عليه في شارع كانيبير!. غير أنه يمكنهما العثور على اسم له، وهذا مؤكد. لكن هذا النزل يقف وحده. وحده تماما في الصحراء. وهي تحيط في الكيف بواحة صغيرة، تحجب، بين أشجار نخيل متوسطة الطول، قرية عربية متواضعة. ولا يمكنني أن أقرر لماذا يجب على النزل أن يبنى خارج الواحة، بعيدا عن القرية. إنما هذا هو الحال. ويبدو أن السبب هو الخجل من بيوت العرب الطينية، الفارغة، وحتى لا يقارن بها. مع ذلك ليس هناك غير القليل للشعور بهذا الخجل. فالنزل أيضا مبني من طين جففته الشمس أساسا، وبقيت أرض البيت التي يمتلك مثلها معظمهم. يواجه الفندق صحراء منبسطة لا يوجد لها مثيل. والطريق الذي كان يمر من أمامه جرفته الريح إلى مناطق المياه، ومن العريشة المتشابكة، والبعيدة، يمكن للمرء أن يرى بضوء الشمس، المحاصيل الخضراء المدببة والمرتفعة، والتي يزرعها الأفارقة الشماليون، والذين لديهم مخيم يمتد على يمين طريق كرافانات يقود من ممر الصفا إلى بسكرا.

ويمكن الإنسان أن يرى الفندق، على ذلك الطريق من بعيد جدا. حتى يصبح لونه الأبيض مثل خيط أبيض، وحتى يبدو أي شخص يرحل عليه أصغر من الدمية، ناهيك عن الكرافان. تصبح مجرد غمامة متحركة مغلفة بغمامة من الغبار. ولكن حوالي المساء، حينما يصبح الجو الإفريقي الهادئ حادا لدرجة فظيعة تقريبا، يصبح لكل علامة على الخيط معنى يجذب العين، ويحرك الذهن ليتساءل: "ما هذا الذي يزحف على الطريق؟ من هذا المرتحل؟ هل هو فارس على حصانه الرشيق، وبارودته مرفوعة باتجاه السماء؟. أم أنه امرأة تمتطي حمارا يخطو؟ أم بدوي على جمله؟ أم أنه فقط رجل صحراوي فقير، نصف عار ملفوفا بأسماله، ويخبط الأرض بقدمه السمراء العارية على درب تشويه الشمس، وغطاء رأسه يغطي عينيه، وقبضة عصاه في يده؟.

بعد عشر سنوات استمرت ماري ليمير بسؤال نفسها مثل هذه الأسئلة وهي في تعريشة النزل، كلما فترت زحمة العمل، وحينما يكون زوجها غائبا، أو إذا كان مستلقيا على السرير وهو نصف مخمور، بعد جرعة أفسنتين زائدة، وحاج، الخادم العربي الأعور، يجلس القرفصاء على مؤخرته في زاوية يدخن الكيف.

لن يهمهما الجواب على الإطلاق. ولم تتوقع أي شيء من الطريق الذي يقود إلى الصحراء. لكن توجب على ذهنها، الراكد بسبب العزلة في إفريقيا، أن يفعل شيئا يشغل به نفسه. وكانت مرارا تحدق بالسهول، وعبارة "يا للعجب" ترتعش على شفتيها دون أي هدف، وتعبير قاس يدل على التساؤل في عينيها البنيتين الداكنتين، بجفنين يتخللهما تجعيدات طفيفة. وربما أنت تتساءل لماذا مرت مدام ليمير بحب عاصف بقصد المتعة، وكانت حينها ذات إرادة قوية، ووافقت على البقاء عشر سنوات معزولة في الكيف، متقوقعة في فندق بائس، ولا يأتي إليه غير القليل من الأشخاص، من أولئك الفقراء والمساكين.

أثقل عليها كل من الظروف وليمير كثيرا. كان كلاهما فظا. وكانت أشبه بمستعبدة لديهما. كان ليمير فاشلا بامتياز، ولكن تحت تأثير الأفسنتين، تتبقى أثار طفيفة من سلطة كانت في الماضي تضمن له النجاح. فقد أغرمت به مدام ليمير سابقا لدرجة العبادة، عشقت سطوته وجماله. والآن فقد كليهما. أصبح حطاما. غير أنه حطام يتخلله العنف. وإلقاء الأوامر أصبح واحدا من عاداته. مثل جاذبية إفريقيا التي يجب أن تؤمن بها. وهكذا انتظرت مدام ليمير عشر سنوات طويلة في النزل قرب جبل الملح، وهي تحدق بالطريق في انتظار شيء غريب ومثير يأتي من الصحراء. ولكن هذا لم يحصل أبدا، أبدا. وتابع ليمير شرب الأفسنتين، وإلقاء الشتائم، والنوم. لعشر سنوات طويلة. وتابع حاج الجلوس على مؤخرته القرفصاء وإغراق نفسه في الكيف. وتابعت مدام ليمير الصبر تحت عريشة العنب، وحبات الرمل في شعرها، وهي تحدق طويلا بالسهول. وحينما ظهرت علامة على مبعدة في الطريق الأبيض، راقبتها حتى تعبت عيناها القاسيتان، وهي تتساءل من يكون، أو ماذا يريد - هل هو إفريقي شمالي على ظهر حصان، أم امرأة تمتطي حمارا، أم أنه بدوي على جمله، أم مجرد متشرد أسود ونصف عار يمخر في الرمال، ويتجه من غروب الشمس الفاتن إلى النزل الوحيد.

II

ومع أن روبيرت ليمير كان حطاما لم يكن شيخا كبيرا بالسن، فهو في الخامسة والأربعين فقط، وحفظه الهواء المعتدل والرقيق في الصحراء من التداعي الكامل. كان منهارا وبائسا، ثقيل الصدر والكتفين، بوجه ضخم وشاحب، وعينين حانقتين وقلقتين بسبب العبودية للأفسنتين. يداه ترتجفان دائما، وفي الأيام الصعبة ترتعشان مثل أوراق النبات. ولكن هناك بعض السلطة في جسمه المتهالك قبل الأوان، وبعض الإرادة في عقله. كان محطما، ولكنه حطام رجل كان معتادا على التحكم عمليا بالنساء. فهو لم يفقد ذلك.

في إحدى الأمسيات - في شهر أيار، وساعات الحرارة الطويلة في الصحراء قد بدأت - كان ليمير بعيدا عن فندقه، يصطاد بجانب جبل الملح مع زميله، وهو مستوطن لديه مزرعة صغيرة ليست بعيدة عن بسكرا، وجاء ليمضي وقته في الكيف. وكان لهذا الرجل تاريخ. فهو في السابق مدير فندق، ولديه أسبابه ليشتبه أن أحد النزلاء يجامع زوجته. في إحدى الليالي، اكتشف دون أي شك أن شبهاته صحيحة، فانتظر حتى موعد إغلاق الفندق، ثم شق طريقه إلى غرفة النزيل، ووضع فيه ثلاث رصاصات، وهو نائم في سريره. وتلقى نتيجة هذه الجريمة، أو القصاص العادل، عشر شهور سجن فقط. ولكن انتهى عمله في إدارة الفندق. والآن هو مزارع بسيط. وربما كان أيضا الصديق الحقيقي الأوحد لليمير في إفريقيا، وكان يأتي أحيانا ليقضي ليلة في نزله "العودة إلى الصحراء".

في أمسية من أيار، كانت مدام ليمير وحدها في النزل مع حاج، الخادم الأعور، تحضر الوجبة الخفيفة للصيادين الاثنين. والذباب يطن في الأرجاء تحت أوراق الكرمة المغبرة، والتي لم يحركها أية نسمة. وبلورات الملح على سفوح الجبل تلمع في الشمس التي لا تزال ملتهبة، مع أنها غير بعيدة عن أوان انحدارها. وعلى الجدران الطينية الجافة في النزل وعلى حجارة محيط الباحة المبلطة، زحفت سحلية، أو استراحت بصبر يتخلله الفضول واستراق النظر، كما لو أنها تستعد لحركة تالية، ولكنها تنتظر الإشارة. ووقف بغل أو اثنان في حظيرة طويلة مفتوحة على الباحة، وكلب قبائلي هزيل القوام يحوم نحو الأمام والخلف بحثا عن بقايا وشفتاه تكشفان عن أسنانه الحادة. تابعت المدام ليمير ببطء عملها وحبات الرمل في شعرها، والذباب يطن حولها. لم يطرأ شيء. لا شيء حصل في الكيف على الإطلاق. ولكن لسبب غامض شعرت مدام ليمير فجأة أن وجودها في الصحراء لا معنى له فعلا. ربما كانت إفريقيا، تستنفذ بالتدريج حيوية المرأة الفرنسية، وفي هذا اليوم انتزعت آخر نقطة من قواها، والتي كانت حتى الآن، تمكنها على مواجهة حياتها، مهما هي كئيبة، ومنهكة. وربما هناك بعض الثقل الغريب وغير المعتاد في الهواء والذي كان عموما خفيفا كالريشة. أو لعل السبب هو في عقلها، ولعل أفريقيا أخذت من طبيعة هذه الضحية، في هذا اليوم بالتحديد، ذرة، أو مقدارا صغيرا بحجم ذرة الرمل، لكنه قوة إرادة ضرورية تماما للاحتفاظ باستعداد المرأة للوقوف على قدميها. ومهما كان السبب كانت تشعر أنها منهارة. لكنها لم تصرخ. ولم تشتم. ولم تسقط مغمى عليها، أو تستلقي وتحدق بعينين يائستين بيوم فارغ ويحتضر. ولم تهمل واجباتها المنزلية، وهي الآن، تجرف بمفتاح بسيط قطعة من لحم الضأن والخنزير المعلب لوجبة المساء الخفيفة. ولكن شيئا في داخلها رفع صوته بحدة. وكأنها سمعته يقول: "لا يمكنني الاحتمال بعد الآن". وعلمت أنه صوت الحقيقة. لم يعد بوسعها احتماله لفترة أطول: الشمس الإفريقية على جدران طينية بنية. وتغلغل حبات الرمل في شعرها، طيران الذباب حول وجهها، المتجعد قبل الأوان بسبب الحرارة الجافة الدائمة وريح الصحراء. والسماء الساطعة فوقها، والأرض المعدنية تحتها، والصمت - مثل الصمت الذي كان سائدا قبل الخليقة، عدا عن الأصوات المتكررة التي تتخلله. طرقات حوافر البغل على الحجارة، نباح كلب الحراسة على السقف المصنوع من النخيل في بيوت القرية البعيدة، ضحكات بنات آوى وشخيرها في الليل، وتلك الأغنية النواحة التي يغنيها حاج، وهو يهز رأسه الحليق مع نرغيلته والتي يكوم عليها الحشيش الذي يقربه من الجنون.

لم يعد بمقدورها تحمل ذلك.

لم تتغير النظرة على وجهها إلا قليلا. وزوايا فمها، منذ أن اكتأبت قبل فترة طويلة، لم تكن غير معتادة. وكانت يداها النحيلتان والقاسيتان ثابتتين حين تؤدي عملها المنفر. ولكن ماتت داخل ماري ليمير المرأة التي قاومت قليلا خلال عشر سنوات فظيعة وفي ظرف قاهر. ماتت ماري بريتل، ابنة مارسيليا، وهي في منتصف العمر، وتخلت عن جسمها المضعضع.

"هذا المصير ليس لي. ولا يمكنني تحمله أكثر".

والآن فرغت علبة القصدير التي تحتوي على الضأن والخنزير. باستثناء ذرات هلامية داكنة لا تزال ملتصقة حول الحواف. ذهبت مدام ليمير إلى الفحم الذي تحول إلى جمار، وفي يدها مقلاة قديمة قذرة. لا تزال ماري بريتل تنسحب منها، ولكن على المدام ليمير أن تعد الوجبة الخفيفة لزوج مخمور بالأسفنتين مع صديقه المجرم القادم من ألفا Alfa . تأخر الرجلان بالعودة، وأنهت المدام ليمير واجبها قبل عودتهما. ولم يكن لديها ما تهتم به، فذهبت إلى العريشة المشرفة على الطريق، حيث توجد طاولة قديمة مبقعة ببقايا النبيذ. وحولها ثلاث أو أربع كراس متهالكة. جلست مدام ليمير - بالأحرى ألقت نفسها - على إحداها، ومددت ذراعيها على الطاولة، وحدقت بالطريق الفارغ أمامها.

قالت لنفسها: "يا إلهي. يا إلهي". وضربت بيد واحدة الطاولة، وقالت بصوت مرتفع: "يا إلهي. يا إلهي".

نظرت إلى الكروم فوقها. كانت الأوراق مجللة بالرمل، ولاحظت حشرات تزحف عليها. راقبتها. ماذا كانت تصنع؟. ما غاياتها ونواياها؟ أي هدف يمكن أن تعزم عليه؟.

ودائما كانت تنقر بيدها، تنقر على الطاولة.

ومارسيليا!. لا تزال هناك قرب البحر، مزدحمة، ومبتهجة بالحياة. وهذا هو الأوان الذي تبدأ الحياة فيه بالحركة. الشلالات تهدر تحت الأحواض النباتية المعلقة، والوحوش تتجول في أقفاصها. والمظلات مفتوحة فوق المقاهي في مدينة المقاهي تلك. ويمكنها تقريبا رؤية أطرافها الملونة وهي تخفق في الهواء القادم من الميناء ومن قلعة دي إيف. وهناك صوت مطارق على طول شاطئ البحر. فهم يشيدون مقصورات السباحة الموسمية. الذهاب إلى البحر أمر مبهج. لأنه يهدئ الإنسان ويسعده. سقطت خنفساء من شجرة الكرمة على الطاولة بقرب اليد التي تنقر. دب السخط في مدام ليمير. نهضت، وذهبت لتقف في مدخل العريشة. لم يعد لمرسيليا مكان. وإفريقيا ماثلة أمامها. لعشر سنوات وهي تنظر على طول الطريق. نظرت نحوه مجددا. كانت هذه الساعة المسائية رائعة، فإفريقيا تبدو وكأنها ترفع نفسها نحو مصادر النور، ولكنها مضطرة أن تستسلم للظلام. حتى أن الإنسان يرى من على مسافة بعيدة، وتقريبا بقوة فوق طبيعية. شحذت مدام ليمير بصرها، كما يفعل الناس في الغسق حينما يبذلون جهدهم ليروا من خلال حجاب الظلام المتراكم. ما هذا الذي يسعى على الطريق؟. زحفت نظرتها فوق السهل المتحجر والعقيم حتى وصلت إلى المحاصيل الخضراء، وتابعت حتى تجاوزت خيمات مضارب الأفارقة الشماليين. وعلى مقربة منها ارتفع خيط من الدخان في الهواء الشفاف. وتابعت لمسافة أبعد حتى الجبال حيث يقل عرض المساحة البيضاء، ثم ضاع نظرها في ذلك المشهد. في هذه الأمسية، وربما لأنها تحن كثيرا لشيء ما، لأي شيء، لم يصادف نظرها شيئا على الطريق. كان أمامها مجرد بياض فارغ تحت شمس تغرب. ثم شعرت المرأة بالاضطراب، فضربت كفا بكف، وصاحت بصوت مرتفع: "إذا جاء الشيطان نفسه فقط من هذا الطريق وطلب مني أن أرحل من حفرة هذا المكان الملعون، سوف أرافقه. سأذهب. بودي أن أذهب".

رددت ذلك بحدة، وهي تصنع بيديها إشارات عصبية نحو الصحراء. وتجعد وجهها. وحينها كانت أشبه بامرأة قبيحة يائسة.

ولكن بنت مارسيليا هي التي كانت تستغيث في داخلها. كانت ماري بريتل تطالب بالمرح الذي رمته بعيدا في صباها، من أجل وجه وسيم.

"سأذهب. سأذهب".

انطلقت هذه الصرخة الثاقبة إلى شمس المغيب. ولكن لم يجاوبها أحد، ولم يظهر تعكر نقطة سوداء بياض الطريق المتعرج الذي يخترق السهول، ثم يمر من أمام باب النزل.

***

...........................

روبيرت هيتشنز  Robert Hichens  كاتب إنكليزي. ولد في كينت عام 1864 وتوفي في زيوريخ عام 1950. زار مصر وكتب عنها مرارا وتكرارا. لم يتزوج لأنه مثلي جنسيا. وهو من فضح أوسكار وايلد واتهمه بالمثلية في روايته "القرنفل الأخضر" 1894. من أهم أعماله: رجل الخيال 1895، اللندنيون 1898، حديقة الله 1904، بيلا دونا 1909، لدغة الأفعى 1919ومنها تمت ترجمة هذه القصة.

 

في نصوص اليوم