ترجمات أدبية
سارة برودي: مع الراحلين

بقلم: سارة برودي
ترجمة: صالح الرزوق
***
كنت في معظم حيات بدون أم. هربت منا إلى مونتريال، وكما نما لعلمنا في إحدى المناسبات كانت بحالة هستيرية. ولا أتذكرها إلا من ألبوم الصور الذي أودعناه في سقيفة غرفة النوم، والمغطى بالغبار الرمادي الذي يتساقط عليه من الدعامات. وكنت مع أخي الأكبر مني نتأرجح من الدعامات ليلا، ونحن نتكلم بصوت خافت، ولذلك كان الغبار يهب ويزكم الغرفة: واللحافين الممدودين على السريرين، ومجسم رأس ويلي مايز الخاص بجورج، ومجسمات الثلج الخاصة بي. هل كان والدنا يعلم أننا نمتلك صورها؟.
سألني جورج في إحدى الليالي وهو يعرض صورة أمنا على الشاطئ: "هل هذه هي؟".
كانت ترتدي بذة سباحة من قطعة واحدة وتجلس على منشفة، وهي تعبث بشعرها المحترق بالشمس، وحول أصابعها خصلة قصيرة. وكانت ابتسامتها العريضة والبيضاء تلفت انتباهي أنا وأخي.
أغلق جورج الألبوم قائلا: "لم تكن تبتسم أبدا".
قلت له: "أحيانا تبتسم".
"فقط حين تنتابها نوبات الحماقة".
الصورة على شاطئ ستنسون، 1944. شهران قبل أن تلتقي بالوالد. وكانت بعمر سبع عشرة سنة، وبغضون عام ستنجب أول ابن من بين اثنين. وأشد ما أزعجني بخصوص الصورة أنني لا أعرف من التقطها، ومن جعلها تبتسم هكذا.
*
أقمنا في زقاق ويست بورتال في بيت فكتوري من الخشب. كنا من الطبقة المتوسطة، ولم يكن هذا حال العديد في سان فرانسيسكو يوم ذاك، كان والدي معماريا، ويصمم السجون. أتذكر جورج، وهو بعمر خمس عشرة سنة، وكان يوبخه وهو في مكانه على السلالم كي يتوقف عن بناء أقفاص للناس، وكيف أن الوالد لطمه على مؤخرة رأسه، وكانت أول مرة أراه يستعمل يديه لهذه الغاية. بالعادة يمسك بإحدى يديه قلم رصاص، ويغرس الثانية في شعر رأسه الأسود، بينما عظام كتفيه ناتئة إلى الأعلى، وظهره منكب على طاولته. أحيانا، وفي وحدتي، أفكر بصورة والدتي وهي بالثامنة عشرة. ولأسباب لا يمكنني تفسيرها، تبدو لي خاصة، مع أنها مأخوذة قبل ثلاث سنوات من يوم مولدي. ترتدي في الصورة ثوب شاي أزرق، شعرها أطول، ويداها مستقرتان على بطنها المستديرة. وكما أرى كانت نحيفة جدا بالنسبة لامرأة حامل ولحد غريب. فذراعاها مثل غصنين، مع مساحة داكنة تحت عينيها. وكلما حدقت بها، أعتقد أنها تحدق بي، وأنها تعزم على الإفضاء لي بسر. والآن أدرك أن والدتي لا تحب الإفضاء بأسرارها، وهو شيء كان الوالد لا يشجعنا عليه. فقد اختفى من حياة الوالدة بعد أسابيع من علاقته بها، وحينها كان يخدم لمدة سنة في فرنسا. وبالتأكيد لا يمكن أنه من التقط الصورة.
ثم تركتنا هي عام 1957، وكنت أنا بالتاسعة، وجورج بلغ الثانية عشرة. وبغضون أسبوع بعد رحيلها، أرعبني جورج بسؤال، وكنت أتوقع أنه يعرف جوابه. قال: "هل تعتقدين أنها ستعود؟".
سألته: "ولماذا لا تعود؟".
"ربما لأنها ماتت".
"الوالد قال إنها لم تمت".
"هل أخبرك الوالد بذلك؟".
قلت ببطء: "كلا. ولكن ألا يخبرنا بالأمر لو أنها ميتة؟".
تأرجح جورج على الحافة، وهبط على سريره. كان يرتدي قميص بيجاما مقلمة فوق سروال قصير، وبدا وجهه شاحبا في ضوء القمر. عبس وهو يحدق بما ورائي وقال: "هو لا يتكلم أصلا؟".
"لكنه يرسم الصور".
قال جورج: "يرسم لوحات زرقاء لأنه مهندس معماري".
"ورسم صورة كاريكاتورية لهتلر".
قال جورج: "حسنا. كانت صورة كاريكاتورية واحدة وتافهة".
كانت أول مرة أعلم أن جورج يمقت والدنا، ولم أكن متأكدة ماذا أصنع حيال ذلك. في تلك الأيام كنت أحترم الاثنين بنفس القدر. كان الوالد حاضرا في تحرير باريس، وحفر الخنادق، ووضع الحواجز، وشاهدها وهي تحترق. رأيت صورته بالبذة، مأخوذة بعد خطاب ديغول، ووجهه مشطور بتقطيبة، وسترته غير مزررة، وذراعه ملتفة حول خصر امرأة بشعر أسود ولكنها ليست أمنا.
*
سألني جورج في أحد الأيام بعد قليل من عودته من فيتنام حيث فقد قدمه اليسرى: "لا يمكنني أن أصدق كلمة واحدة خرجت من فم الوالد".
كنا نجلس في غرفة المعيشة من بيت والدنا، حيث أقام جورج حتى يتعلم المشي بساقه الصناعية. وكان ينام في غرفة المعيشة لعدم قدرته على صعود السلالم. يا للبؤس. كان يكره اجتماعاتنا الليلية مع والدنا - والذي يعاني من كوابيس، ثم ينهض ويذهب إلى المطبخ، لتحضير شطيرة لنفسه بغض النظر عن الوقت.
تابع جورج كلامه: "الرجل واهم. مرت عليه عشرون سنة، ولا يزال يعاني من أحلامه اللعينة، والآن يفتخر بي؟ لأنني فقدت قدمي الفاجرة؟".
انقبضت معدتي. هل يعرف جورج تفاصيل أحلام الوالد؟. لم أكن مثل أخي. كان أقوى مني بمرتين، حتى في أيام طفولتنا، وكان يرميني في أماكن خانقة، ويلدغني لدغة الثعبان. وهو من ردع بقية الأولاد في المدرسة ومنعهم عن ملاحقتي، وكنت أجمع الحلازين وأضعها في دلو في باحتنا الخلفية. خشيت أن يتابع هذا الخط من الكلام، لذلك سألته: "هل ذكر أنه يفتخر بك؟".
قال جورج: "كلا. فهو لا يتكلم. وأنت تعرفين هذا. ولكن حينما عدت إلى البيت، نظر بعيني، ولم يسبق له أن فعل ذلك. وحدق بي لفترة طويلة، ثم ضغط كتفي، بقوة - كأنه يريد أن يؤذيني؟. وهكذا علمت أنه يعتز بي". شعرت بالرعدة. وأطلق أخي تنهيدة عالية. وتابع يقول: "لم أكن أريده أن يفتخر بمصابي. وليس لهذا السبب غادرت. غادرت لأن صوته سكن في رأسي، ولم يمكنني انتزاعه والتخلص منه. كان صوتا من النوع الذي يلازمك، ويدفعك للجنون، صوتا يخبرك أنه ليس بمقدورك أداء عمل جيد واحد. وكنت جاهزا لأداء أي شيء بعكس ما يريد، ولكن كان صوته يعلو ويعلو. ثم خضعت لإرادته وهل تعرفين ماذا حصل؟ خفت جدا حينما رأيت نفسي أول مرة بالبذة، وأدركت مباشرة أنني مخطئ. لأن هيئتي أصبحت تبدو مثله".
*
لماذا رسم والدي العديد من الصور لهتلر؟ بعد موته وجدت دفترا مليئا بهذه الصور. هتلر بثوب وكعب عال. هتلر على دراجة بدولاب واحد. كان يوما باردا من عام 1989 حينما اكتشفت كل هذا، ورأيته مهملا في قاع درج طاولة الزينة، مدفونا تحت كومة من جوارب صوفية. ولدى رؤيتي له، اجتاحتني موجة من القلق، ومسحة من النفور تجاه جورج. مع أنه يعيش معي، ومع أنه تابع تطور مرض والدنا - صدمته بتشخيص السرطان وهو بالواحدة والستين، وخوفه منه، وانحطاط صحته ببطء - لم يقبل أن يزوره، ولا أن يخابره، ولا أن يكتب له، وتركني للمعاناة مع متاهة الموت وحدي، تركني أيضا وحدي مع هذا الدفتر القديم. وأنفقت ساعات وأنا أقلب الصور.
لا أتذكر متى قال والدي لجورج ولي: "نحن نسير على طول شارع شامبس إليزيه".
كم مرة ذكر هذه العبارة؟ ربما ألف. ربما مرة واحدة، ولكنها علقت برأسي. ثم سألنا: "يا أولاد. هل تعتقدان أنكما تعرفان ما هو الألم؟. هل تعتقدان أنكما تعرفان؟ كم عمر كل منكما؟".
وطبعا أجبناه.
***
..........................
* سارة برودي Sara Brody كاتبة قصة أمريكية معاصرة. رشحت لجائزة البوش كارت. القصة فقرة من رواية. ومنشورة في موقع مجلة "السرد الأساسي Necessary fiction".