ترجمات أدبية
أنطون تشيخوف: في فندق
بقلم: أنطون تشيخوف
ترجمة: نزار سرطاوي
***
"دعني أقلْ لك أيها الرجلُ الطيب،" هكذا بدأت السيدة نشاتيرين، زوجةُ العقيد في الغرفة رقم 47 حديثَها وهي تنقَضُّ على مدير الفندق، وقد تحوّل لونها إلى القرمزي وراحت تبقبق: "إما أن تنقلني إلى شقّةٍ أخرى، أو أغادرَ فندقَك اللعين بلا رجعة! إنه بالوعةٌ من الفسوق! ارحمنا، لقد كبُرتِ البنتانِ ولا يسمعُ أحد سوى الكلامِ الفاحشِ ليلَ نهار! هذا فوق الاحتمال! ليلَ نهار! أحيانًا يطلق مثلَ هذا الكلامَ الذي يجعل الآذان تحمرُّ خجلاً! إنه بالتأكيد أشبهُ بسائقِ سيارةِ أجرة. أمرٌ جيدٌ أن بناتي المسكينات لا يَعين، وإلا لاضطُررتُ إلى أن أخرج بهنَّ إلى الشارع... ها هو يقول شيئًا الآن! أنصتْ!"
"أنا أعرف ما هو أفضل من ذلك، يا ولدي،" طار صوتٌ جهوريٌ أجشُّ من الغرفة المجاورة. "هل تذكرُ الملازم دروزكوف؟ حسنًا، دروزكوف نفسُه كان ذات يومٍ يرسلُ بِكُرةِ البلياردو الصفراءِ إلى الجيب، وكما يفعل عادةً، كما لا يخفى عليك، قذف بقدمه إلى الأعلى... وفي الحال سُمِع صوتُ شيءٍ يتمزّق. في أولّ الأمر ظنّوا أنه مزّق قماشَ طاولةِ البلياردو، لكنْ عندما نظروا، يا صديقي العزيز، كانت ولاياتُه المتحدة قد تمزّقتْ جميعًا وانفصلتْ عن بعضها! ... ها-ها-ها كان قد قذف بقدمه في ركلةٍ عالية، ذلك الوحش، حتى لم تبقَ قطعةٌ مخيطةٌ بأخرى إلا وتمزقت. ها ها ها، وكانت هناك بين الحضور سيداتٌ أيضًا... ومن بينِهن زوجةُ الملازمِ الثرثار أوكورين... وجُنّ جنون أوكورين... 'كيف يجرؤ الرجل أن يتصرف بصورةٍ غيرِ لائقةٍ بحضور زوجتي؟' وتطورت الأمور من سيءٍ إلى أسوأ... أنت تعرف زملاءَئا...! أرسل أوكورين مساعِدَه 'إلى دروزكوف، فقال دروزكوف "لا تكن أحمق... لكن قل له إن من الأفضل له ألّا يرسلَ مساعدَه إليّ بل إلى الخياطِ الذي خاط لي ذلك البنطال. إنه خطأُه، كما تعلم. هاهاها! هاهاها... '"
ليليا وميلا، ابنتا العقيد، اللّتان كانتا تجلسان عند النافذة ووجناتُهما المستديرة تستند إلى قَبْضاتِهما، تحوّل لونهما إلى القرمزي وأسبلتا عيونهما التي بدت مدفونةً في وجهيهما الممتلئين.
"ها أنتَ سمعتَه، أليس كذلك؟" وتابعت السيدة نشاترين حديثَها مخاطبةً مديرَ الفندق. "وهذا ما تعتبره أمرًا لا يستحقُ الاهتمام على ما أتصوّر؟ أنا زوجةُ عقيدٍ يا سيدي! زوجي هو ضابط آمر. لن أسمح لسائقِ سيارةِ أجرةٍ أن ينطقَ بمثل هذه البذاءات بوجودي!"
"إنه ليس سائقَ سيارة أجرةٍ يا سيدتي، بل كيكين كابتن الفريق... رجلٌ نبيلُ المولدِ والمحتد.".
"إذا كان حتى الآن قد نسيَ مكانتَه ليعبّرَ عن نفسه كما يفعل سائقُ سيارةِ الأجرة، فهو أجدرُ بالاحتقار! باختصار، لا تردَّ عليّ، بل تَفضّل باتخاذ الإجرءات!"
"ولكن ما الذي في وسعي أن أفعلَه يا سيدتي؟ أنتِ لستِ الوحيدة التي تشتكين، فالجميع يشتكون، ولكن ماذا في وسعي أن أفعلَ به؟ يذهب أحدهم إلى غرفته ويبدأ في توبيخه قائلاً: 'هانيبال إيفانيتش، ليكن عندك شيء من مخافة الله، إنه أمرٌ مخزٍ!' وسوف يلكمه في وجهه بقبضتيه ويقول أشياءَ من كل لونٍ وصنف: 'احشُ ذلك في غليونك ودخّنْه'، وما إلى ذلك. هذا عار! يستيقظ في الصباح ويشرع في السير في الممر ولا شيء يستره، مع احترامي لمقامكِ، سوى ملابسِه الداخلية. وبعد أن يشربَ شيئًا، يلتقطُ مسدّسًا ويفرِغُ الرصاصاتِ في الحائط. في النهار يعبُّ الخمرَ عبًّا وفي الليل يلعب الورقَ بجنون، وبعد لعبِ الورق يأتي العراك... أشعر بالخجل من أن يرى المقيمون الآخرون ذلك!"
"لماذا لا تتخلصُ من الوغد؟"
"لا سبيل إلى إخراجه! إنه مدينٌ لي بثلاثةِ أشهر، لكننا لا نطلب نقودنا، نحن ببساطة نطلب منه أن يصنع معنا معروفًا ويخرج... لقد أصدر القاضي إليه أمرًا بإخلاء شقّته. لكنه ينقل الأمر من محكمةٍ إلى أخرى، وهكذا تطول المسألة... إنه مصدر إزعاجٍ لا مثيل له، هذا هو حاله. ويا الله، فهو رجلٌ بحقٍّ أيضًا! شابٌّ وسيمُ المظهر ومفكِّر... وعندما لا يكون ثملًا، فلن تجدي رجلًا ألطفَ منه. فقبل أيام لم يكن ثمِلًا وقضى اليوم بأكمله في كتابة الرسائل إلى أبيه وأمه ".
"يا للأب والأم المسكينين!" تنهدت زوجة العقيد.
"يستحقان الشفقة بالتأكيد! لا ينعمان بالراحة وعندهما مثل هذا الحقير! لقد أطلقَ الشتائمَ وغادر مكان إقامته، ولا يمرُّ يومٌ إلا ويواجه مشكلةً بسبب فضيحةٍ ما. إنه أمر مؤسف!"
"يا لتعس زوجتِه المسكينة!" تنهدت السيدة.
"ليس لديه زوجة يا سيدتي. وكأن هذه الفكرة يمكن أن تتحقق! ولو تحققت فستحمد الله إن لم يُحطّمْ رأسُها..."
قطعَتِ السيدةُ الغرفةَ جيئةً وذهابًا.
تقول "إنه غير متزوج؟"
"بالتأكيد غير متزوجٍ يا سيدتي".
قطعِتِ السيدةُ الغرفةَ جيئةً وذهابًا مرة أخرى وتفكّرت قليلا.
"ممم، غير متزوج..." قالت وهي في حالةِ تأمل. "ممم. ليليا وميلا، لا تجلسا قرب النافذة، هناك تيار هوائي! يا للأسف! شابّ ويترك نفسَه يغرقُ إلى هذا المستوى! وكل ذلك بسبب ماذا؟ عدم وجودِ قدوةٍ حسنة! ما من أمٍّ تفعل... غير متزوج؟ هو ذاك... من فضلِكَ لو تكرّمت،" واصلتِ السيدة الحديث ببراعة بعد لحظة من التفكير، اذهب إليه واطلب منه باسمي... أن يمتنع عن استخدامِ عباراتٍ... أخبره أن مدام نشاترين تتوسّل إليه... أخبره أنها تقيم مع ابنتيها في رقم 47... أنها جاءت إلى هنا تاركةً أملاكها في الريف..."
"بالتأكيد."
"قل له إنها زوجةُ عقيدٍ مع ابنتيها. لعلّه يأتي ليعتذر... نحن دائمًا في المنزل بعد العشاء. آه، يا ميلا، أغلقي النافذة!"
قالت ليليا مُتشدقةً بعد أن ذهب مديرُ الفندق ليستريح: "لماذا، ماذا تريدين من هذا... الخروف الأسود يا أمي؟ توجهين دعوةً إلى شخصٍ غريبِ الأطوار! نذلٍ سِكَيرٍ مشاكس!"
"أوه، لا تقولي ذلك يا ابنتي! أنت تتحدثين هكذا دائمًا؛... اجلسي! أيًّا كان، لا ينبغي أن نحتقرَه... هناك جانبٌ جيد في كل إنسان... من يدري." تنهدتْ زوجة العقيد وهي تتفحص ابنتيها من الأعلى والأسفل بقلق،" ربما يكون نصيبُكِ هنا. غيّري ملابِسَك على أية حال..."
--------------------------
نبذة عن الكاتب
يعتبر أنطون بافلوفيتش تشيخوف أحد كبار كُتّاب المسرح والقصة القصيرة في روسيا. ولد في تاغانروغ في جنوب روسيا على بحر آزوف في 17 يناير 1860، لأسرة فقيرة، وكان ترتيبه الثالث بين ستة أطفال. كان والده صاحب محل بقالة، أما جده فكان من الأقنان. لكنه اشترى حريته في عام 1841.
التحق تشيخوف بالمدرسة الثانوية في تاغانروغ وفي عام 1879 التحق بكلية الطب في جامعة موسكو. وكان عليه أن يكسب المال ليتابع دراسته ويعيل أسرته. وقد استطاع أن يحقق دخلًا متواضعًا بكتابة القصص والطرائف في المجلات والصحف. وفيما بعدُ التقى بالكاتب ديمتري جريجوتوفيتش، الذي تنبّه إلى موهبته في الكتابة، فوقف إلى جانبه وساعده على تحسين جودة قصصه. ومن هنا بدأ نجم تشيخوف يسطع.
بعد تخرجه في عام 1984، وممارسته لمهنة الطب، بدأت أولى أعراض الإصابة بمرض السل تظهر عليه. لكنه تابع الكتابة، وفي عام 1886 تولت إحدى دور النشر طباعةَ كتابٍ له بعنوان قصص موتلي. وقد حقق الكتاب شهرة واسعة، ومنذ ذلك الحين ازداد تركيزه على الكتابة على حساب ممارسته مهنةَ الطب.
في عام 1988 ذهب تشيخوف إلى أوكرانيا، حيث مات شقيقه نيكولاي، وقد استوحى من تلك الزيارة روايته القصيرة "قصة كئيبة" (1989)، التي يتحدث فيها رجل عجوز عن حياته وهو في سكرات الموت، حيث يعتبرها عديمة القيمة. ثم سافر تشيخوف إلى يالطا في جزيرة القرم. وهناك التقى الروائي الروسي الشهير ليو تولستوي.
في عام 1890 قام تشيخوف برحلة إلى سجن جزيرة سخالين الواقعة في الشرق الأقصى إلى الشمال من اليابان. وبعد عودته إلى روسيا، كرّس نفسَه لأعمال الإغاثة خلال مجاعة عام 1892. ولم يلبث أن اشترى عقارًا في ميليخوفو وانتقل إليه ليعيش هناك مع أسرته، حيث استقرت أوضاعه الماليه.
كوّن تشيخوف صداقاتٍ مع الكثير من النساء الجميلات والموهوبات، لكنه لم يتقدم لخطبةِ أيٍّ منهن، إلى أن التقى الممثلةَ أولغا كنيبر، ووقع كلاهما في حب الآخر، واقترن بها في أيار/ مايو، 1901. لكنها بقيت في موسكو تعمل في التمثيل، بينما أقام هو في يالطا للنقاهة. وفي عام 1904 ساءت صحته كثيرًا وسافر إلى مدينة بادِنْ وايلر في ألمانيا. وفي 2 تموز/يوليو 1904 توفي في أحد فنادق بادِنْ وايلر. وتمّ نقل جثمانه إلى موسكو، حيث دفن هناك.
كتب تشيخوف أكثر من 500 قصة قصيرة ورواية واحدة وسبع روايات قصيرة و 17 عملًا مسرحيًا). أما أعماله غير الأدبية فاقتصرت على عملين، أحدهما في أدب الرحلات، والثاني كتاب مذكرات. ومن أشهر أعماله:
- "نورس البحر" (1895): مسرحية تدور حول كاتبٍ شابٍّ مكافحٍ وحبيبته وأمّهِ وممثلةٍ مشهورة والعلاقات التي تربط هؤلاء معًا.
- "العم فانيا" (1899): مسرحية عن أستاذ جامعي متقاعد وزوجتِه الثانية يأتيان للإقامة مع ابنته وزوجها في عِزبتهما الريفية، ما يفضي علاقات يشوبها التوتر والصراع.
- "السيدة صاحبة الكلب" (1899): قصة قصيرة عن علاقة بين شابٍ غير سعيد في حياته الزوجية وامرأةٍ متزوجة يلتقيها أثناء إجازته في مالطا.
- "الشقيقات الثلاث" (1900): مسرحية عن حياة شقيقاتٍ ثلاثٍ يرغبن في العودة إلى منزلهن في موسكو.
- "بستان الكرز" (1903): مسرحية تدور حول عائلة أرستقراطية تواجه مشاكل مالية حادّة، ما يضطرها إلى بيع بستان الكرز الذي يعز عليها كثيرًا.