دراسات وبحوث
محمد الربيعي: من حضارة العلوم الى هامش المعرفة
شكل العالم العربي على مدى قرون متتالية منارة للعلوم والمعرفة، تضيء دروب الحضارة الانسانية وتفتح افاقا جديدة امام تقدم البشرية. لقد امتدت هذه الحقبة الذهبية من القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر الميلادي، حيث كانت حواضر العلم العربية والاسلامية في بغداد وقرطبة والقاهرة ودمشق وفاس والقيروان تشع بنور المعرفة إلى العالم اجمع. لم تكن هذه المرحلة مجرد فترة ازدهار عابر، بل كانت ثورة علمية حقيقية اسست لمنهجية البحث العلمي الحديث ووضعت اللبنات الاولى للعلوم كما نعرفها اليوم.
في بغداد، كانت مكتبة بيت الحكمة - التي اسسها الخليفة العباسي هارون الرشيد واشرف على تطويرها ابنه المأمون - تمثل اعجوبة العالم الفكرية في عصرها. لم تكن مجرد مكان لحفظ الكتب، بل كانت مجمعا علميا شاملا ضم مرصدا فلكيا ومدرسة للترجمة وورشات للنسخ والتأليف. ضمت هذه المكتبة العملاقة اكثر من مليون مخطوط في شتى فروع المعرفة، من الفلسفة إلى الطب، ومن الرياضيات إلى الفلك، ومن الكيمياء إلى الجغرافيا. كان المترجمون والعلماء في بيت الحكمة ينقلون اعمال الفلاسفة والعلماء اليونان والفرس والهنود والسريان، لا مجرد نقل حرفي، بل بنظرة نقدية واضافات مبتكرة.
وفي فاس، كانت جامعة القرويين - التي تأسست عام 859م على يد فاطمة الفهرية - تمثل اقدم جامعة في العالم باستمرار عملها حتى اليوم. لم تكن هذه الجامعة مجرد مكان للتعليم، بل كانت مركزا اشعاعيا حضاريا جمع بين التعليم والبحث العلمي وخدمة المجتمع. تخرج فيها علماء كبار مثل ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع، والشافعي واضع اصول الفقه، وابن ماجة وغيرهم من الاعلام.
اما قرطبة في الاندلس، فقد كانت في اوج ازدهارها تحت حكم عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر منارة علمية تزينها مئات المساجد والمكتبات والمدارس. كانت مكتبة قرطبة تحتوي على اكثر من 400 الف مجلد، في وقت كانت تعتبر فيه اوروبا الغربية اي كتاب يحتوي على مائة مخطوط مكتبة ضخمة.
لقد قدم العلماء العرب والمسلمون خلال هذه الحقبة اسهامات جذرية شكلت اساس النهضة العلمية العالمية، ولا تزال آثارها واضحة في المصطلحات العلمية والمناهج البحثية حتى اليوم. يأتي في مقدمة هذه الاسهامات الخوارزمي (780-850م) الذي لم يكتف بتأسيس علم الجبر، بل ادخل النظام العشري والارقام العربية التي اصبحت لغة العلم العالمية. كلمة "Algorithm" المشتقة من اسمه، و"Algebra" من كتابه "الجبر والمقابلة"، تشهد على عمق تأثيره في المسيرة العلمية العالمية.
ويبرز ابن الهيثم (965-1040م) كأحد اعظم علماء البصريات في التاريخ، حيث وضع في كتابه "المناظر" اسس المنهج العلمي التجريبي القائم على الملاحظة والتجربة والاستنتاج. كانت ابحاثه في انكسار الضوء وانعكاسه وتركيب العين البشرية اساسا لعلم البصريات الحديث. كما قدم ابن سينا (980-1037م) في موسوعته الطبية "القانون في الطب" تنظيما شاملا للمعارف الطبية ظل مرجعا اساسيا في الجامعات الاوروبية لقرون طويلة، وقدم وصفات لاكثر من 760 دواء.
ولا يمكن اغفال دور جابر بن حيان (721-815م) المؤسس الحقيقي للكيمياء التجريبية، الذي ادخل المنهج التجريبي إلى المختبر وطور تقنيات التقطير والتبلور والتسامي. كانت ابحاثه حول الاحماض والقواعد والاملاح تمثل نقلة نوعية في فهم المادة وخصائصها.
هذا الارث العلمي الزاخر لم يقتصر على هؤلاء العلماء الكبار، بل شمل مئات العقول اللامعة مثل البيروني في الجغرافيا والفيزياء، والزهراوي في الجراحة، والبتاني في الفلك، والكندي في الفلسفة، والرازي في الطب، وابن النفيس في اكتشاف الدورة الدموية الصغرى. لقد شكلت اسهاماتهم مجتمعة النظام العلمي الاكثر تطورا في عصرهم، واسست للنهضة الاوروبية لاحقا.
لكن المفارقة المأساوية تكمن في تحول هذا المركز الحضاري الزاهر إلى هامش معرفي في العصر الحديث. فبينما تحتل الدول العربية اليوم اكثر من 5% من سكان العالم، وتسعى لتحقيق مكانة لائقة على الخريطة العلمية العالمية، فإنها تساهم باقل من 2% من الانتاج العلمي العالمي، وفقا لتقرير اليونسكو للعلوم 2021. والامر الاكثر اثارة للقلق ان العالم العربي بأكمله لا يسجل سوى 0.3% من براءات الاختراع العالمية، بحسب احصائيات المنظمة العالمية للملكية الفكرية 2022.
هذه المفارقة التاريخية تطرح اسئلة مصيرية عن الاسباب الكامنة وراء هذا التحول الجذري، والعوامل التي قادت امة كانت رائدة في انتاج المعرفة إلى ان تصبح في ذيل الامم في مضمار الابتكار العلمي والتطور التكنولوجي. من كانوا اساتذة العالم في القرون الوسطى اصبحوا تلاميذ في مؤخرة الركب في العصر الحديث. من كانوا مبدعين ومبتكرين اصبحوا مستهلكين للتكنولوجيا. من كانوا روادا في شتى فروع المعرفة اصبحوا اتباعا ينتظرون ما ينتجه الآخرون.
هذه الازمة ليست مجرد ازمة احصاءات وارقام، بل هي ازمة هوية وحضارة، ازمة مشروع نهضوي تعثر عند منعطفات التاريخ. إنها قصة تحول من الابداع إلى الاستهلاك، من الانتاج إلى التلقي، من الريادة إلى التبعية. قصة تحتاج إلى فهم عميق وتحليل دقيق للجذور التاريخية والسياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي قادت إلى هذا الواقع.
إن دراسة هذه الاشكالية ليست ترفا فكريا، بل ضرورة حتمية لاي مشروع نهضوي عربي مستقبلي. ففي عصر اصبحت فيه المعرفة والتكنولوجيا هما محركا الاقتصاد والقوة، لم يعد بمقدور الدول العربية ان تبقى على هامش المسيرة العلمية العالمية. إن استعادة المكانة العلمية اصبحت مسألة وجودية تتعلق بالقدرة على المنافسة في عالم سريع التغير، والاستقلال في اتخاذ القرار، والمساهمة في صياغة مستقبل البشرية.
الفجوة الاستثمارية
تشير بيانات البنك الدولي (2023) إلى أن متوسط انفاق الدول العربية على البحث والتطوير لا يتجاوز 0.3% من الناتج المحلي الاجمالي (لكن يجدر التنويه أن بعض الدول العربية لديها تفاوت داخلي مثل السعودية وقطر بإنفاق أعلى قليلًا، مقابل دول أخرى شبه معدومة الاستثمار)، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ 2.4%، ومتوسط يصل إلى 3.5% في دول مثل كوريا الجنوبية واسرائيل. هذا الاستثمار المحدود لا يعكس فقط ضعف الموارد، بل يكشف عن فجوة معرفية متسعة تتجذر في بنية النظام السياسي والاقتصادي العربي. أما عدد الباحثين، فبيانات البنك الدولي واليونسكو تشير إلى أن العالم العربي يسجل نحو 400–500 باحث لكل مليون نسمة، وهو أقل بكثير من المتوسط العالمي الذي يتجاوز 4,000–5,000 باحث.
وتكشف بيانات اليونسكو أن 70% من الانفاق على البحث العلمي في العالم العربي يأتي من الحكومات، بينما لا تتجاوز مساهمة القطاع الخاص 20%، مقارنة بـ 60% في الدول المتقدمة. هذا الخلل الهيكلي في تمويل البحث العلمي لا يعزى فقط إلى غياب الحوافز الاقتصادية، بل يرتبط ارتباطا وثيقا بطبيعة الانظمة السياسية والاقتصادية التي تهيمن عليها الزبائنية والمحسوبية، حيث توجه الموارد العامة وفق اعتبارات الولاء السياسي لا وفق اولويات التنمية.
فالفساد المالي والاداري المستشري في العديد من الدول العربية يعد من ابرز العوامل التي تعيق تخصيص موارد كافية للبحث العلمي. اذ تهدر مليارات الدولارات سنويا في صفقات مشبوهة ومشاريع غير منتجة، بينما تهمش القطاعات المعرفية لصالح الانفاق على البنى التحتية الشكلية او الامن والدفاع. وغالبا ما تدار مؤسسات البحث العلمي من قبل بيروقراطيات غير متخصصة، تعين على اساس الولاء لا الكفاءة، مما يؤدي إلى تهميش الكفاءات الحقيقية وتكريس الرداءة.
إلى جانب ذلك، تفتقر معظم الدول العربية إلى ارادة سياسية حقيقية لتجاوز الواقع المعرفي المتردي، اذ ينظر إلى الاستثمار في البحث العلمي كتهديد محتمل للسلطة لا كرافعة للتنمية. فالمعرفة النقدية، بطبيعتها، تزعج البنى السلطوية التي تفضل الاستقرار على التغيير، وتخشى من تمكين العقول المستقلة التي قد تطالب بالاصلاح والمساءلة. ولهذا، غالبا ما يختزل دور الجامعات ومراكز الابحاث في التلقين وتكرار الخطاب الرسمي، بدل أن تكون فضاءات حرة للابداع والتفكير المستقل.
كما أن غياب السياسات الوطنية المتكاملة للعلوم والتكنولوجيا، وافتقارها إلى رؤية استراتيجية طويلة المدى، يؤدي إلى تشتت الجهود وتكرار المشاريع دون تراكم معرفي حقيقي. وغالبا ما تطلق مبادرات بحثية موسمية مرتبطة بتغير الحكومات او رغبة في تحسين الصورة الخارجية، دون أن تترجم إلى بنى مؤسسية مستدامة.
إن الفجوة الاستثمارية في البحث العلمي ليست مجرد خلل في الارقام، بل هي انعكاس لازمة اعمق في بنية الدولة العربية، حيث تقدم الولاءات على الكفاءات، وتقدم المصالح السياسية الضيقة على المصلحة العامة. ولا يمكن ردم هذه الفجوة دون اصلاحات جذرية تطال منظومة الحكم، وتعيد الاعتبار للعلم والمعرفة كأدوات للتحرر والتنمية، لا كترف فكري او ديكور تجميلي.
هجرة العقول
تُعد هجرة الكفاءات العلمية من أبرز التحديات التي تواجه التنمية والابتكار في المنطقة العربية. فقد أكدت تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (ESCWA) أن المنطقة العربية تشهد نزيفًا مستمرًا للعقول، خاصة في التخصصات الطبية والهندسية، وهو ما ينعكس سلبًا على القدرات التنموية والاقتصادية. وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن معدلات عودة الطلاب العرب المبتعثين إلى أوطانهم بعد التخرج تبقى منخفضة مقارنة بالمعدلات العالمية، مما يعمّق الفجوة المعرفية ويضعف فرص نقل الخبرات والتقنيات الحديثة.
كما أوضح تقرير الباروميتر العربي (Arab Barometer, 2023) أن نحو 20% من السكان في 14 دولة عربية يفكرون جديًا في الهجرة، مع ميل أكبر بين الشباب وحملة الشهادات الجامعية، وهو ما ينذر بتسرب النخبة العلمية والتعليمية من المنطقة. وفي السياق ذاته، تشير تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) إلى أن آلاف الأطباء والمهندسين يغادرون المنطقة سنويًا، ما يخلق فجوة حرجة في القطاعات الحيوية مثل الصحة والطاقة والتكنولوجيا.
الأسباب التي تدفع هذه الكفاءات إلى الهجرة متعددة، أبرزها ضعف بيئة البحث العلمي، محدودية التمويل، غياب الحوافز، وانعدام الاستقرار السياسي. كما أن تدني الرواتب مقارنة بالدول المستقبِلة، إضافة إلى الفساد الإداري وتهميش الكفاءات لصالح الولاءات السياسية، كلها عوامل تدفع العقول إلى البحث عن بيئة أكثر احترامًا للعلم والابتكار.
هذه الظاهرة لا تؤثر فقط على الاقتصاد، بل تهدد أيضًا الاستقلال المعرفي والسيادي للدول العربية، إذ تصبح عاجزة عن إنتاج المعرفة أو المنافسة في الاقتصاد الرقمي العالمي. كما أن الاعتماد على الخبرات الأجنبية في القطاعات الحيوية يضعف القدرة على اتخاذ قرارات استراتيجية مستقلة، ويجعل الدول العربية رهينة للخبرات المستوردة.
ولمواجهة هذه الأزمة، توصي تقارير التنمية الدولية بضرورة إصلاح بيئة البحث العلمي، وتوفير حوافز حقيقية للكفاءات، وتبني سياسات وطنية لاستعادة العقول المهاجرة. كما يجب ربط التعليم بسوق العمل، وتوفير فرص مهنية مجزية، وضمان حرية البحث والتعبير العلمي، حتى يشعر العلماء العرب أن أوطانهم تستحق علمهم وجهدهم.
اشكالية التعليم
تشير تقارير اليونسكو إلى أن الأنظمة التعليمية في معظم الدول العربية ما زالت تعتمد بشكل كبير على أساليب الحفظ والتلقين، على حساب تنمية مهارات التفكير النقدي والإبداع. فالمناهج الدراسية غالبًا ما تُقدِّم الطالب بوصفه متلقّيًا سلبيًا للمعلومة، لا مشاركًا فاعلًا في إنتاج المعرفة أو حل المشكلات المعقدةUNESCO, 2021.
في المقابل، تؤكد الدراسات التربوية الحديثة أن التفكير النقدي يُعد من أكثر المهارات المطلوبة في سوق العمل العالمي، إذ يمكّن الأفراد من تحليل المعلومات وتقييمها واتخاذ قرارات مستنيرة في مواجهة التحديات المعقدةWorld Economic Forum, 2020. وتشير تقارير سوق العمل الدولية إلى أن نسبة كبيرة من المهنيين حول العالم تفتقر إلى هذه المهارات، مما يحد من قدرتهم على التكيف مع التحولات الاقتصادية والتكنولوجية السريعة.
أما الفجوة الرقمية التعليمية، فما زالت واسعة رغم الجهود المبذولة في السنوات الأخيرة. فوفقًا لتقارير الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU,2022)، العديد من المدارس العربية تفتقر إلى البنية التحتية التكنولوجية الأساسية، كما أن إدماج التكنولوجيا في العملية التعليمية أقل بكثير من المتوسط العالمي . هذا النقص لا يعيق فقط الوصول إلى مصادر المعرفة الحديثة، بل يضعف أيضًا فرص تدريب الطلاب على أدوات التفكير الرقمي والتحليلي.
ويضيف تقرير الإسكوا حول التنمية الرقمية العربية أن نسبة كبيرة من خريجي الجامعات العربية لا يمتلكون المهارات الرقمية المطلوبة في سوق العمل، مما يوسع فجوة المواءمة بين مخرجات التعليم واحتياجات الاقتصاد المعرفي . وهذا يعني أن التعليم العربي، في صورته الحالية، لا يُنتج أفرادًا قادرين على التفاعل مع الاقتصاد الرقمي العالمي، بل يعيد إنتاج أنماط تقليدية من التفكير لا تتماشى مع متطلبات العصر.
من العوامل المهمة في تطوير التعليم:
1- اصلاح فلسفة التقييم: يجب أن يتحول من قياس الحفظ إلى قياس الفهم والتحليل.
2- تدريب المعلمين على استراتيجيات التفكير النقدي: عبر ورش عمل ومناهج تدريبية متخصصة.
3- توفير بيئة تعليمية محفزة: تشمل مختبرات، مكتبات رقمية، ومنصات تعليمية تفاعلية.
4- ربط التعليم بسوق العمل: من خلال شراكات مع القطاع الخاص، وتحديث المناهج وفقا للمهارات المطلوبة.
إن بناء نظام تعليمي عربي حديث يتطلب ثورة معرفية تبدأ من اعادة تعريف دور الطالب والمعلم، وتنتقل إلى اصلاح المناهج، وتوفير بنية تحتية رقمية، وتنتهي بتعزيز ثقافة التفكير النقدي كقيمة مجتمعية.
التحديات السياسية والاقتصادية
لا يمكن الحديث عن ازمة التعليم والبحث العلمي في العالم العربي دون التوقف عند الجذور السياسية العميقة التي تعرقل اي مشروع نهضوي حقيقي. فقد ادت الحروب والاضطرابات السياسية التي شهدتها العديد من الدول العربية إلى تدمير البنى التحتية العلمية، وتحويل الموارد من التنمية إلى الانفاق العسكري. ووفقا لمعهد ستوكهولم لابحاث السلام، ينفق العالم العربي اكثر من 6% من ناتجه المحلي على التسلح، مقارنة باقل من 2% على التعليم والبحث العلمي مجتمعين، وهو مؤشر صارخ على اختلال الاولويات الوطنية.
لكن الاخطر من ذلك هو غياب الديمقراطية وحرية الفكر، حيث تدار السياسات التعليمية والعلمية في كثير من الدول العربية ضمن منظومات مغلقة لا تسمح بالنقد او المشاركة المجتمعية. تقصى الكفاءات، وتهمش العقول المستقلة، ويحاصر التفكير الحر، مما يجعل الجامعات ومراكز البحث مجرد مؤسسات شكلية تكرر الخطاب الرسمي ولا تنتج معرفة حقيقية. في ظل هذا المناخ، يصبح التعليم اداة للضبط لا للتحرر، ويمنع العلم من اداء دوره في مساءلة الواقع وتغييره.
كما ان الانقسامات السياسية والصراعات بين الدول العربية تمثل عائقا كبيرا امام اي تعاون علمي او تكنولوجي مشترك. فبدلا من بناء شبكات بحثية عربية موحدة، وتبادل الخبرات، وتاسيس صناديق تمويل مشتركة، تغلق الحدود امام العلماء، وتقيد حركة المعرفة، وتهدر فرص التكامل الاقليمي. لا توجد رؤية عربية موحدة للنهوض العلمي، بل تتنافس الدول في مشاريع متفرقة، وتدار المؤسسات العلمية بمنطق السيادة لا بمنطق الشراكة.
وبما ان النفط والغاز يشكلان المصدر الرئيسي لدخل معظم الدول العربية، خلق هذا الاقتصاد الريعي انظمة لا تشجع على الابتكار، بل تكرس التبعية للموارد الطبيعية. تظهر بيانات صندوق النقد الدولي ان نسبة مساهمة القطاعات المعرفية والتكنولوجية في الناتج المحلي الاجمالي العربي لا تتجاوز 8%، مقارنة بـ 35% في الدول المتقدمة، وهو ما يعكس غياب الاستثمار الاستراتيجي في اقتصاد المعرفة.
ان استمرار هذا الواقع السياسي المغلق، والانقسامات الاقليمية، وانعدام الارادة الجماعية للتعاون، يجعل من اي حديث عن نهضة علمية مجرد امنية معلقة. فلا يمكن للعلم ان يزدهر في بيئة تقمع الفكر، وتقصي الحوار، وتفضل الولاء على الكفاءة. ولا يمكن للتعليم ان يتحول إلى قوة تغيير دون حرية، ودون مشروع عربي مشترك يؤمن بان المعرفة هي السبيل الوحيد للخروج من دائرة التخلف.
العوامل الثقافية والمجتمعية
تظهر احصائيات التقرير العربي للتنمية الثقافية أن العربي يقرأ بمعدل 6 دقائق سنويا في المتوسط، بينما يقرأ الاوروبي بمعدل 200 ساعة سنويا. كما أن نسبة الكتب العلمية في المكتبات العربية لا تتجاوز 1.5% من اجمالي المحتوى، مقارنة بـ 15% في المكتبات الغربية.
ولا تزال النظرة المجتمعية في العديد من الدول العربية تفضل التخصصات النظرية على العلمية، كما أن الوظائف الادارية تحظى بمكانة اجتماعية اعلى من الوظائف البحثية. هذا الواقع يعمق الفجوة بين التعليم وسوق العمل، ويضعف الحوافز نحو التخصص في المجالات العلمية.
دائرة التخلف العلمي المفرغة
يمكن فهم استمرار التخلف العلمي العربي من خلال نموذج "الدائرة المفرغة" الذي يتكون من ثلاث حلقات مترابطة:
في الحلقة الاولى، يؤدي ضعف الاستثمار في البحث العلمي إلى هجرة العقول، مما يسبب تراجع الانتاج العلمي، وهذا بدوره يعزز قناعة بعدم جدوى الاستثمار في العلم.
وفي الحلقة الثانية، تنتج المناهج التعليمية التقليدية عقول غير مبدعة، مما يؤدي إلى مجتمعات استهلاكية، فتصبح تابعة تكنولوجيا، وهذا يعزز بدوره استمرار المناهج التقليدية.
اما الحلقة الثالثة، فتنتج الثقافة المجتمعية غير الداعمة للعلم سياسات غير داعمة للبحث العلمي، مما يضعف الانتاج العلمي، وهذا يعزز بدوره الثقافة المجتمعية المحبطة للعلم.
نحو كسر دائرة التخلف
يتطلب الخروج من دائرة التخلف اصلاحا تعليميا جذريا يتحول من التلقين إلى تنمية التفكير النقدي، وادخال مناهج STEM (العلوم، التكنولوجيا، الهندسة، الرياضيات) بشكل منهجي، وربط التعليم باحتياجات سوق العمل المستقبلية.
ويمكن بناء اقتصاد المعرفة عبر تحويل جزء من عوائد النفط إلى استثمارات استراتيجية في البحث العلمي، وانشاء صناديق وطنية وعربية لدعم المبتكرين والباحثين، وتطوير صناعات تكنولوجية عربية تنافسية.
كما يتطلب النهوض العلمي اطلاق مبادرات وطنية لنشر الثقافة العلمية، ودعم التأليف العلمي الموجه للجمهور العام، وابراز نماذج علماء عرب معاصرين ناجحين.
من الاستهلاك إلى الانتاج المعرفي
التخلف العلمي والتكنولوجي العربي ليس قدرا محتوما، بل هو نتيجة تراكم اختيارات سياسية واقتصادية وثقافية. الخروج من هذا المأزق يتطلب ارادة سياسية حقيقية، واستثمارا استراتيجيا في التعليم والبحث العلمي، وثورة ثقافية تعيد للعقل والعلم مكانتهما. الامة التي قدمت للعالم اساسيات العلم الحديث تبقى قادرة على العودة إلى ساحة الريادة، اذا استطاعت كسر دائرة التخلف وتبنت مشروعا نهضويا حقيقيا.
***
محمد الربيعي
بروفسور متمرس ومستشار تربوي، جامعة دبلن






