دراسات وبحوث

مصدق الحبيب: مقدمة فلسفية في الايمان والالحاد وما بينهما

ليس من قبيل الصدفة ان يشعر الناس عموما بالتقرب الى الله عند الشدائد وفي الويلات والمصائب، وذلك لما ترسخ في الوعي واللاوعي من أفكار مفترضة عن الله باعتباره الملاذ الرؤوم والمنقذ الجبار والحامي الرحيم. ان موضوعة الايمان بالله، باعتباره القوة الهلامية المجهولة الهوية التي خلقت الكون والقادرة على كل شيء يمكن ان يتصوره الانسان، جاءت وتأتي نتيجة لعاملين أساسيين هما الخوف والجهل، وكذلك شعور الانسان المتأصل بالضعف ومحدودية امكاناته إزاء قوى الطبيعة والمجتمع. وهذا ما استند اليه اغلب العلماء والفلاسفة، قديما وحديثا، من ديڤد هيوم ولدڤك فيورباخ وبرتراند رسل الى  ستيڤن هوكنگ وريچرد دوكنز.  خوف الانسان هو خوفه من كل ما يهدد وجوده وأمنه وسلامته. الخوف من الموت والاخطار والكوارث، من المجهول، ومن الجوع والظلام والظلم والخوف من الهزيمة ومن عشرات الأسباب الأخرى. وهذا اقوى ما يفسر لجوء الانسان الى الرغبة في ان يكون محميا. وهنا جاء دور الأديان لترسيخ فكرة الحماية والرعاية من قبل تلك القوة الجبارة وتعميقها في العقل والضمير الجمعي، إضافة الى استغلالها لتنفيذ أغراض تلك الأديان الأيديولوجية. فمثلا معصية او طاعة ذلك المنقذ والحامي الجبار اوجب نظام العقاب والثواب الذي برر للمؤسسات الدينية التسلط والتصرف بانها وكالات الله في الأرض. 

لقد درجت عموم الاديان السماوية على اعتبار الايمان بالله مسألة مسلم بها ولا جدال فيها، وهي عمومية شاملة لا يخرج عن اطرها المفترضة الا الشواذ الندر الذين يضلون طريق الصواب. وبهذا يفترض في المرء ان يولد ويتربى مؤمنا بدين اهله ومجتمعه، وبكل ما يتصل به من عوالم الغيب والروحانيات وكل الظواهر الميتافيزيقية. وليس هناك اي مجال لمناقشة هذا الحقل الفكري عموما، او اي حرية لما قد يميل اليه الافراد باي شكل يخالف فكريا ذلك الافتراض، فضلا عن عدم وجود اي امكانية للانكار وحتى التشكيك بذلك الايمان بسبب رفض المجتمع القاطع الذي يؤدي لامحالة الى التعارض الجوهري بين الفرد ودينه وثقافة وتقاليد مجتمعه، والذي قد ينتهي الى الحكم على ذلك الفرد بالخطيئة الكبرى وما تجر عليه من نتائج وخيمة قد تصل الى الموت.

ولا شك فان هذه المسألة، اذا ما اعتبرنا المنطق العلمي المعقول، لا ينبغي ان تكون بهذه الحدية وهذا التطرف، ولو شاء لنا ان نزيل خطر العقاب الدنيوي الذي تفرضه المؤسسة الدينية على كل من يتجرأ على التصريح بالالحاد أو التشكيك بوجود الله وحتى طرح الأسئلة للمناقشة لوجدنا ان الغالبية العظمى من الناس ستقع في حقل عدم القدرة على البت بهذا الامر او ذاك، ولربما سيعلن الكثير الاعتراف بعدم اهمية الجدال وعدم جدواه في خضم حياة الانسان المعاصر التي تهيمن عليها اولويات حاسمة اخرى. ومن هنا فلا بد لنا من فهم واستيعاب المذاهب الفلسفية التي وضعت نفسها بين الجهتين المتطرفتين، جهة الايمان المطلق الذي لا شك فيه، وجهة الالحاد المطلق الذي لا غبار عليه. يتخذ هذا الامر شأنا أكبر اذا عرفنا الحقيقة الاحصائية الثابتة للتوزيع الطبيعي للظواهر الطبيعية والاجتماعية التي تشير الى ان واقع هذين الجهتين المتطرفتين قد لا يتعدى في افضل الظروف ان يتجاوز نسبة ال 3% لكل منهما من عموم الآراء اذا ما اجري الاستفتاء وضمنت الحرية المطلقة للبوح بما في الدواخل دون خوف او تردد. فاذا افترضنا ان مسألة الايمان تخضع الى التوزيع الاحصائي الطبيعي، سيمكن لنا ان نلاحظ في الرسم البياني التالي ان موقف المؤمن المتوسط بين الطرفين يشكل اعلى النسب في المجتمع، ذلك ان أكثر الناس يميلون الى اتخاذ الموقف المعتدل. تأتي بعد ذلك وبالتناقص نسب الافراد الذين اما يميلون اكثر الى التصديق او يميلون الى التشكيك الى ان تتناقص النسبتين الى ما يقارب %2.27 على طرفي التوزيع للذين اما لديهم الايمان الراسخ الذي لا يتزعزع ، او الملحدين ذوي المواقف الصلبة الثابتة في الحادهم. وبهذا فان نسبة 95.46% من السكان تقع بين الطرفين.992 Faith and atheism

يصنف عالم البايولوجيا البريطاني رچرد دوكنز Richard Dawkinsمواقف الناس الفلسفية بين  الايمان بوجود الله والالحاد به الى نسب مئوية تقريبية:

1. المؤمن القح الخالص الذي يصف ايمانه بوجود الله بنسبة 100%، وهو الذي يقول بثقة عالية انه لا يؤمن فقط بشكل عابر، بل يعلم علم اليقين بوجود الله.

2. المؤمن الواقعي الذي يصف ايمانه بالله بنسبة عالية لكنها اقل من 100% والذي يصرح بانه رغم عدم امكانيته بتأكيد وجود الله لكن لديه اعتقاد قوي بانه موجود وينبغي ان نحيى حياتنا بموجب ما يريده الله من عباده.

3. المؤمن بين- بين الذي يرجح احتمال وجود الله فعلا ويعطي ذلك الاحتمال أكثر من 50% ولكن ليس بكثير.

4. المؤمن الحيادي الذي تتساوى لديه احتمالية وجود الله من عدمه. فكلاهما يأخذ 50%، ولذلك فهو لا يستطيع ان ينحاز الى أحدهما ضد الآخر.. أي انه يقف تماما على الخط الفاصل بين الايمان والالحاد.

5. المؤمن الشكّاك الذي يجد نفسه يميل قليلا الى عدم الايمان فيعطي مسألة وجود الله احتمالا بنسبة اقل من 50%

6. المؤمن الإسمي وهو المحسوب على الايمان اسميا لكنه في الحقيقة يمثل احتمال وجود الله بنسبة واطئة جدا.

7. الملحد الذي يجزم بعدم وجود الله ويعطي ذلك نسبة 100% فيما يعطي صفرا لاحتمال وجوده.

والملفت للنظر والتأمل هنا هو ليس أيا من هؤلاء يستطيع اثبات ما يعتقد، ذلك ان مسألة وجود الله مسألة عويصة وقد كانت وماتزال تشغل العلماء والفلاسفة. فبغياب البرهان لا يبقى سوى الاعتقاد الشخصي. وهذا الاعتقاد نادرا ما يكون مستقلا تماما، اذ انه يعكس بدرجة عالية النشأة والتربية، وطبيعة المجتمع، وموروثاته، وقوانينه.

من الجدير هنا ذكر بعض مصطلحات المواقف الفلسفية التي يتخذها الافراد والجماعات حول الايمان والالحاد. هناك أربع مصطلحات رئيسية متداولة في الادب المعني بهذا الموضوع ينبغي التفريق بينها:

- الگنوستية Gnosticism تصف موقف الذين يدعون انهم يعلمون، وقد سمي هذا الموقف، خاصة في ثقافة الدين المسيحي، "مذهب العرفان"، ومصدر المعرفة التي يدعونها هنا هو مصدر روحي غير مادي.

- الأگنوستية Agnosticism تقف على العكس تماما من سابقتها، فهي لا تدعي المعرفة الروحية، بل انها تصرح بعدم درايتها بأمر الوجود والخالق. ولذا فهي لا تستطيع ان تبت بمسألة وجود الله او عدمه. ومن هنا تسمى بـ مذهب اللاأدرية.

- الإگنوستية (بكسر الهمزة) Ignosticism  التي تهتم بما إذا كان هناك انسجام او توافق في منطق الايمان بالله وفي مواقف ومناقشات هذا الموضوع.

- الأپاثية Apatheism التي تهتم بسؤال "هل هناك ضرورة عملية لمناقشة مسألة الايمان والالحاد وإنفاق الوقت والطاقة في هذا المجال"؟، الأمر الذي قد يترتب عليه تحول العلاقات الطيبة الى سيئة وخسران الأصدقاء والاحباب ونشوء الأحقاد والعداوات وحتى وصول الامر الى قاتل ومقتول.

- الپانثية Pantheism وهي مذهب توحيد الوجود الذي لا يفرق بين الله وقوى الطبيعة والكون عموما.

- الديزمية  Deism التي تسمى بالعربية "الربوبية"  التي تقر بالإيمان بالله وحده دون الايمان بالأديان السماوية والانبياء.

يعتبر موقف الأگنوستية الفلسفي من بين اهم المواقف الفلسفية حيادا وعقلانية تجاه أكبر واهم وأخطر قضية فلسفية على طول التاريخ الانساني وهي قضية الايمان بوجود الله او الالحاد به. تستمد الأگنوستية مبررات حياديتها وموضوعيتها مقارنة بالمذاهب او المواقف الفلسفية الاخرى في قضية الوجود من كونها، قبل كل شيء، ليست موقفا الحاديا انما موقفا عقلانيا صريحا في اعلان عدم المعرفة بسبب غياب الادلة. انها لاتنكر وجود الله والغيبيات والروحانيات انما تلقي بظلال الشك عليها لسبب بسيط يتلخص باعتقادها بان الانسان المعاصر، ومهما بلغ التطور العلمي من مستويات عالية، يبقى غير قادر على اثبات وجود الله والروح والغيبيات الاخرى بما لا يقبل الشك. فهي اذا الفلسفة التي تضع فيصلا واضحا بين الاعتقاد والمعرفة، بين الحقيقة والوهم، وبين المادي وغير المادي. وهذا موقف مخالف تماما للالحاد الذي يقف على الطرف النقيض من الايمان بما لديه من انكار ثابت لوجود الله والاعلان بانه محض خيال، رغم عدم وجود الأدلة العلمية، بل بالاعتماد على القناعة الشخصية فقط.

ولان الحياة لا تتلون فقط بالابيض والاسود او بالنور والظلام انما تمتد عبر طبقات غير متناهية من الالوان والدرجات فان مسألة الايمان بالله والالحاد به هي الاخرى لا تسمح لنا بتقسيم السكان بين مجموعتين صافيتي النية ومسلحة بكل الثوابت. الاستنتاج العقلاني يشير الى ان الناس يتوزعون في ايمانهم او عدمه على درجات متباينة يمكن لنا ان نلاحظ توزيعها التقريبي حسب المصفوفة التالية، ومن زاوية نظر تختلف قليلا عما تقدم.

تتكون درجات الايمان والالحاد بموجب اتخاذ كلاً من العاملين في العمودين الاول والثاني، اللذين يشيران الى ان الفرد اما يؤمن أو لا يؤمن بوجود الله، واستقراء تفاعلهما مع العوامل الاخرى في الصفوف الاربعة التي تشير الى مديات الاعتقاد بامكانية او عدم امكانية الاثبات بالبراهين العلمية. وهكذا تقرأ درجات الايمان باندماج اي عامل عمودي مع اي عامل افقي، وكما يلي:

* لنأخذ اولا درجات ايمان مجموعة المؤمنين من خلال تتبع العمود الاول:

- الايمان الراسخ: يضم اولئك الذين يعتقدون بوجود الله ويعتقدون بامكانية اثبات هذا الامر ايضا.

- الايمان الاكَنوستي: يضم المجموعة التي تعتقد بوجود الله رغم اعتقادها بعدم امكانية اثباته.

- الايمان المبدأي: يضم المجموعة التي تؤمن بالله بسبب عجز اي احد عن اثبات عدم وجوده.

-الايمان الاختياري: يضم المجموعة التي تعتقد ان من الممكن اثبات عدم وجود الله لكنها تؤمن به على اية حال.

* ولو اخذنا اولئك الذين يشككون بوجود الله من خلال متابعة اتحاد العمود الثاني مع امكانات الاثبات في الصفوف الاربعة فاننا سنلاحظ مديات التشكيك على الشكل التالي:

- الالحاد المبدأي الذي يضم اولئك الذين لا يؤمنون بوجود الله حتى لو اثبت امر وجوده.

- الالحاد القاطع الجازم الذي يضم المجموعة التي لا تؤمن بالله ولا تعتقد ان هناك اي امكانية لا ثبات وجوده.

- الالحاد الاكَنوستي الذي يضم اولئك الذين يعتقدون بعجز الانسان عن اثبات عدم وجود الله لكنهم لا يؤمنون بوجوده.

- الالحاد الاختياري الذي يضم الذين لا يؤمنون بالله بغض النظر عن احتمال توفر امكانية اثبات عدم وجوده.

هناك مجموعة اخرى تفضل عدم الخوض في جدال الوجود والتركيز على عدم امكانية اثبات الوجود او عدمه، وتستنتج بان النقاش في مجال ايجاد البراهين اهم من النقاش في مسألة الايمان والالحاد، وله الاولوية عليها، وهذا الاتجاه هو ما يسمى بالاكَنوستية البراغماتية الذي ينشأ في المخطط المصفوفي من اتحاد الصف الثاني بالثالث ويهمل اعتبار العمودين. وبعكس هذا التزاوج فان التركيز على العمودين والانشغال في الجدال العقيم بين الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون دون تمكن اي من الطرفين ان يثبت اعتقاده للاخر بما لا يقبل الشك سيؤدي الى طريق مسدود او ملغوم مما يوجب وضع قضية وجود الله جانبا لحين الوصول الى اثباتها او تفنيدها، وهذا الاتجاه هو ما يسمى بالاكَنوستية التجريبية.

استنادا لما جاء في مناقشة الفيلسوف سورن كيرككَارد في كتابه "شظايا فلسفية" المنشور عام 1844 يمكننا استنتاج عدم جدوى الجدال في وجود او عدم وجود الخالق من خلال استقراء الاحتمالات الاربعة التالية:

- اذا كان الله موجودا، فاثبات وجوده يعد عمل احمق وسخيف ولاحاجة له.

- اذا كان الله موجودا، فاثبات عدم وجوده لا يرقى الا ان يكون مغالطة فاضحة.

- اذا كان الله غير موجود، فاثبات عدم وجوده يعد ضرب من المستحيل.

- اذا كان الله غير موجود، فاثبات وجوده سيكون عملا غير شريف ولااخلاقي.993 Faith and atheism

أصل الأگنوستية:

من الناحية الايتمولوجية يتكون مصطلح الاكَنوستية (Agnosticism) من مقطعين لاتينيين :

الـ (a) التي تفيد النفي، وتلحقها ( gnosis) التي تعني "المعرفة"  ليكون معنى الكلمة "اللامعرفة".   ورغم ان فكرة الاكَنوستية تعود بجذورها الى الفلسفة الاغريقية خاصة في آثار بروتاكَورس وبايرو وكارنيدس، كما ترتبط  كمفهوم عام بالنصوص السنسكريتية في الشرق، فان اول من وضعها كأتجاه فلسفي هو عالم الاحياء والفيلسوف الانكَليزي توماس هنري هكسلي  عام 1869 بتأكيده على ان الظواهر لاتقبل التصديق الاستنتاجي الا إذا كانت مثبتة عمليا او قابلة للاثبات العلمي، وماعدا ذلك يقع ضمن مجال ما اسماه بـ الأگنوستية. علما ان نقاش هكسلي لم يكن اول الامر متعلقا بوجود الله انما كان ضمن نطاق دفاعه المتحمس ودعوته لاتباع الطريقة العلمية التشكيكية في حقيقة الظواهر لحين اثباتها او دحضها بالادلة والبراهين المادية. وقد اكد هكسلي بان الاكَنوستية ليست مذهبا او عقيدة وليس لها اي هدف في معارضة الدين انما هي طريقة للاعتقاد تقوم على ضرورة الاثبات من اجل التصديق. على ان هكسلي كان قد تحدث لاحقا عن ان الأگنوستية  تتبنى موقفا "لا ادريا" في حالات عدم توفر الادلة والبراهين لاثبات ظاهرة ما، وكان يعني في هذه المناسبة ان من الافضل التصريح بعدم المعرفة نقيضا لما كانت الكنيسة الكاثوليكية تدعي معرفة تفاصيله بكل تأكيد كمسألة الله والوجود والجنة والنار والحياة الاخرى.

أما روبرت إنكَرسول، المحامي اللامع والسياسي الامريكي الذي سمي بـ "الاكَنوستي الكبير" فقد عرف موقفه من الأگنوستية  في محاضرته الشهيرة التي القاها عام 1896 وكانت بعنوان "انا أكَنوستي، فلماذا؟" والتي اعتبرت من المصادر الاصلية لتعريف معنى الاكَنوستية.                    لقد سأل إنكَرسول نفسه خلال المحاضرة : هل هناك من يعلو على كل شئ وبيده الامر والملك ؟ فأجاب بصدق بانه لايعلم وليس لديه المعرفة الكافية بذلك كما انه لايدعي القدرة على انكار الامر او تكذيبه . ولكن مايهمه اكثر هو مالديه من ايمان واضح، وهو انه مهما تكن حقيقة الامر اعلاه فلايستطيع الدين ولاتقوى العقيدة على تغييره، ولايغيره الخوف او الامل او التمني. واكد بان من الحكمة ان يكون المرء صادقا مع نفسه ويعترف بجهله في هذا الامر، وخير لكل منا ان يسلّم بعدم القدرة على اثبات الامر او اثبات عكسه.

وكان في وقت سابق لذلك بكثير فيلسوف التنوير الاسكتلندي ديفد هيوم الذي اشار الى ان كل مايتعلق بالكون وظواهره لابد ان يكون مشوبا بالشك حتى عند العلماء المختصين الذين لهم القدرة على الاتيان بنظرياتهم الشخصية حول هذه الظاهرة وتلك. ومن هنا تأتي اهمية الطرح والصياغة اللغوية في وصف الاحداث والاقوال عموما والتي تقتضي الاشارة جهد الامكان الى ان مايتكلم حوله العالم انما حسب اعتقاده المدعوم ببعض البراهين لكنه لايرقى باي حال من الاحوال الى ان يكون الحقيقة المطلقة الا اللهم اذا كان الكلام عن الظواهر التي لاجدال فيها كشروق الشمس وغروبها. لابد ان يأخذنا هذا المنعطف الى مااعتدنا عليه من صياغات غير دقيقة في طرح الامور خلال النقاشات وفي المقالات والتقارير وحتى في الاطروحات والبحوث العلمية التي يكتبها المختصون. وما يميز عدم دقة الطرح هو وضع التصريحات ووصف الاحداث وكأنها الحقائق المطلقة. والحال هو ان من الحكمة ومن الواجب ان يصاغ الاسلوب بطريقة لاتشير بان مانقول ونكتب هو الحقيقة المطلقة حتى لو كان التحدث عن ظواهر واحداث معروفة وشائعة بحيث جعلها الزمن  تبدو وكأنها الحقائق المطلقة، ولنأخذ مثالا على ذلك:

الشائع لنا ان نقول، على سبيل المثال، العبارة التالية: "ان ملك العراق غازي بن فيصل قد وافاه الاجل اثر حادث مؤسف عندما اصطدمت السيارة التي كان يقودها باحد اعمدة الكهرباء". والاكثر دقة وحيادا وأمانة وانصافا ان نسبق هذه العبارة بما يبعدها عن كونها الحقيقة المطلقة بل يضعها في نصابها الواقعي كأن نقول " تشير الوقائع المتوفرة لدينا لحد الان الى ان ملك العراق ...الى آخر القول . أو نقول "استنادا الى اطلاع الكاتب على ماتوفر من صور وتصريحات لشهود العيان وتتابع الاحداث يبدو ان ملك العراق .... الى آخر القول. ثم يكون الختام بإرجاء حقيقة ما حدث الى ما يوفره التقرير الرسمي الذي سيصدر عند اكمال التحقيقات اللازمة.

ولرب سائل يسأل: اليس الصور الفوتوغرافية وشهود العيان ادلة ثابتة دامغة عن الحدث؟ الجواب هو انه طالما هناك مجال للشك، حتى لو كان ضئيل جدا، كأن يكمن في امكانية تحوير الصور او تغيير الوقائع والمبالغة والتهويل في افادات شهود العيان، فان الحدث لا يمكن ان يعتبر الحقيقة النهائية، انما حقيقة مشروطة بما توفر من ادلة وقتذاك.

أما برتراند رسل، الفيلسوف الانكليزي الذي عاش قرابة قرن من الزمن وقدم مساهمات فذة في الفلسفة والرياضيات والمنطق، فقد اباح بموقفه الأگنوستي عام 1927 عندما نشر الكراس الشهير بعنوان "لماذا لا اعتبر نفسي مسيحيا" الذي نسف فيه التعاليم والتقاليد المسيحية وتحدى مصداقيتها فيما يتعلق بمسألة الوجود ودعا فيه القراء الى الصدق مع انفسهم في الاجابة على سؤال الوجود بحرية كاملة فكتب:

"قف على قدميك بجرأة وتأمل العالم الذي من حولك بحيادية وانصاف وبذكاء متحرر ودون تردد او خوف".

اما في عام 1939 فقد ذهب ابعد من ذلك حين القى محاضرة بعنوان "انا ملحد" التي قال فيها ان سؤال الوجود الازلي يأتي عادة بشقين: هل ان الله موجود؟ ومن هو؟ ولكن اذا كان الجواب بالنفي على الشق الاول فانه سيلغي تلقائيا الحاجة الى الشق الثاني فضلا عن الغاء الاجابة عليه. لكن رسل اوضح الفرق الفني بين مفهومي الاكنوستي والملحد عام 1947 عندما قال ان الاول يناسب المنطق الفلسفي ويصلح اكثر للجمهور الذي يعي الفلسفة اما الثاني فانه يناسب منطق الشارع ويصلح استخدامه لعوام الناس. وقد يختلف الكثير من المفكرين مع رسل في هذا التفريق الذي سيكتسب حساسية عالية في ثقافات اخرى حيث ان مفهوم الاكنوستية يتضمن مجرد التشكيك والاعتراف بعدم وجود المعرفة الكافية للاجابة على سؤال الوجود، اما الالحاد فيفيد النكران الايجابي التطوعي لوجود الله وهو بهذا اثقل بالخطايا في اوساط التقاليد الدينية من المفهوم الاول.    

رهان پاسكال:

قبل قرنین مما جاء به هكسلي حول الاكَنوستية انشغل الفلاسفة والمفكرين باطروحة باسكال، الفيلسوف وعالم الرياضيات والفيزياء الفرنسي، حول جدال الوجود والتي سميت برهان باسكال. لقد صاغ باسكال خلاصة الجدل بين المؤمنين والملحدين والمشككين في ما اصبح فيما بعد البذرة الاولى لنظرية القرار والاساس الاولي لنظرية الاحتمال الرياضية-الاحصائية. ويتلخص رهان باسكال بترتيب احتمالات نتائج الجدل والوصول الى افضل استنتاج في ظل التسليم بان كلا من الطرفين عاجز عن اثبات اطروحته بالادلة والبراهين، وان ماتبقى هو الاذعان الى النتيجة المنطقية التي سيفضي اليها الجدال حين يتشبث الطرفان بمواقفهما دون القدرة على دعمهما.

المصفوفة التالية تلخص المعنى العام لرهان باسكال:

* اذا كان الفرد يجادل لصالح وجود الله فانه يضع نفسه في نهاية المطاف امام احتمالين، لا غير:

1.  ان صح الاعتقاد وظهر ان الله موجود فعلا، فسينال هذا الموقف سعادة الدنيا وجنة الآخرة (حقل رقم 1 في المصفوفة).

2. وان ظهر بان الله غير موجود، فلن يخسر هذا المرء اي شئ على الاطلاق (حقل رقم 2).

* اذا كان الفرد يجادل لصالح عدم وجود الله، فانه سيضع نفسه امام الاحتمالين التاليين:

3. ان صح الاعتقاد وظهر ان الله موجود فعلا، فسيكون ذلك موقف الكفر والخطيئة والالحاد ولاينال الفرد به سوى تعاسة الدنيا وجحيم الآخرة (حقل رقم 3).

4. وان ظهر بان الله غير موجود، فلن يخسر المرء اي شئ (حقل رقم 4).

فإذاً، وباتباع المنطق العقلاني في مقارنة الاحتمالات الاربعة، سيكون الخيار قائم على مقارنة الاحتمال الاول مع الاحتمال الثالث، الامر الذي يؤول الى ان الاحتمال الافضل هو رقم (1)، وبهذا فمن الحكمة ان يكون الانسان مؤمنا باي حال من الاحوال.994 Faith and atheism

ا. د. مصدق الحبيب – باحث اكاديمي

في المثقف اليوم