دراسات وبحوث
بدر الفيومي: الخوارج في مثل الإمام الشعبي.. ورع مدَّعى وغلوٌّ مبتدَع

لم يكن الإمام عامر الشعبي -وهو أحد أذكى فقهاء التابعين وأوسعهم إدراكًا لتقلبات الفكر الإسلامي بعد الفتنة الكبرى-، يروي الأمثال عبثًا أو على سبيل التندر. فقد كان ذا نظرةٍ فاحصةٍ في بنية العقول، يُعبِّر عن رؤيته الدينية بلسانٍ رمزي ساخر، لكن يحمل من الفلسفة ما لا يُدركه إلا المتأمل في طبائع الفكر حين ينفصل عن الحكمة.
ومن أبلغ ما رُوي عنه في هذا الباب ما ذكره ابن سعد في الطبقات الكبرى، حيث قال (إن شأن هؤلاء – يعني الخوارج – كرجلٍ مات وترك ثلاثة أبناء: كبيرٍ وأوسطٍ وصغير. فاستأثر الكبيرُ بالمال كلِّه، ولم يُعطِ أخويه شيئًا. فجاء الأوسطُ إلى الأصغر فقال له: أعِنِّي على قتال أخينا الكبير فإنه قد ظلمنا وأخذ حقَّنا. فقال الأصغر: لا أقدر على ذلك ولكن أصبر واحتسب. فعدا الأوسط على الأصغر فقتله، لأنه لم يقاتل معه الكبير).
هذا المثل البسيط في ظاهره ينطوي على تحليلٍ بالغ العمق لظاهرة الغلوّ، إذ يجسّد بنيةً فكرية تتكرّر في التاريخ كلما تحوّل الوعي بالظلم إلى نزعةٍ عدوانيةٍ مغلّفة بثوب الورع. فالأخ الأكبر هنا يرمز إلى (السلطة) التي استأثرت بالأمر بعد انقضاء العدل الأول، والأوسط هو (الخارجي) الذي تأجّجت في نفسه نار الحماسة للدين وطلب الإنصاف، أما الأصغر فهو (الرعية)، الذين آثروا السكينة والانتظار، متوكِّلين على حكم الله لا على سيفه. لكن الكارثة وقعت حين جعل الأوسط الصمتَ جريمة، والحيادَ خيانة، والتوقّيَ من الفتنة نفاقًا، فانقض على من لم يشاركه في الخروج كما لو كان ظالمًا مثل الكبير، فجمع بين التطرّف في الفكرة والعنف في الموقف. وهذه الصورة الدقيقة هي بعينها ما حذّر منه النبي ﷺ في قوله عن الخوارج (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان).
فالشعبي، وهو يتحدث في زمنٍ قريبٍ من وقائع النهروان وما بعدها، لم يكن يستعرض حكاية بل كان يقرأ في جوهر الانحراف الديني في وقته؛ حين يتحوّل الدين إلى وسيلةٍ للتماهي مع الذات المنغلقة على تصورٍ مطلق للحقيقة. فالخوارج لم يبتدعوا باطلهم من فراغ، بل خرجوا من رحم الغيرة على الدين والعدالة، كما قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس (أول تلبيسة عليهم في الدين أنّهم توهّموا أنّهم على غايةٍ من الطاعة، فجعلوا مخالفيهم أعداء الله، فكفَّروا المسلمين وسفكوا دماءهم). وهذا هو لبّ مثل الشعبي، إذ يصوّر الإنسان الذي يبدأ مصلحًا غيورًا ثم ينقلب إلى ظالمٍ متديّن باسم حماية الدين.
ومن لطائف هذا التمثيل أنّ الشعبي لم يجعل الكبير فاسقًا أو خائنًا بالضرورة، بل تركه مجهول الملامح، لأنّ المقصود ليس توصيف السلطة في ذاتها، بل توصيف العقل الذي يُحوّل السلطة إلى ذريعةٍ للخروج، دون ميزانٍ من علمٍ أو فقه. وهذا ما أكّده ابن تيمية بعد قرون حين قال في منهاج السنة (أصل ضلال الخوارج أنهم ظنّوا أنّهم يطيعون الله بقتال المسلمين، ولم يفقهوا معاني الكتاب والسنّة، فاستحلّوا دماء المؤمنين بتأويلٍ فاسدٍ وجهلٍ مركب). وذلك لأن العقل الخارجي لا يعرف التمييز بين الحقّ المشروع والحقّ الموهوم، كما لا يعرف أن العدالة في الإسلام لا تقوم على الغضب بل على الفهم، وأنّ الإصلاح لا يكون بالدم بل بالهداية والتربية.
ولعل أجمل ما في مثل الشعبي أنّه يعبّر عن الحركة النفسية للفكر الخارجي بصدقٍ نفسي نادر. فالأخ الأوسط ليس طالب دنيا، بل هو رمزٌ للإنسان الذي يشعر أنه وحده الذي يملك الحقيقة، فيغتذي من هذا الشعور لذةً أخلاقيةً تُعميه عن رؤية الآخرين. وهنا يكمن ما يمكن أن نسمّيه بـ(مغالطة الطهر)، أي تلك الحالة التي يجعل فيها المرء من نقائه المزعوم مبررًا لإدانة الجميع، ومن إيمانه الشخصي سببًا لاستباحة المخالف. وقد عبّر الغزالي عن هذه الحالة في إحياء علوم الدين بقوله (ما أكثر ما يغترّ المتعبدون بغرورهم فيحسبون الغيرة لله، وهي حميّة للنفس، ويظنون أنّهم يجاهدون في سبيله، وهم إنما يقاتلون في سبيل الهوى). وهذه هي بعينها مأساة الأوسط في مثل الشعبي (غيرةٌ بلا علم، وحميّةٌ بلا بصيرة).
ومن زاويةٍ أخرى، يمكن أن نقرأ هذا المثل في ضوء تطوّر مفهوم الحاكمية الذي صار شعارًا للخوارج، ومن جاء بعدهم من التيارات الحركية التي رفعت راية (لا حكم إلا لله). فلو سُئل الأوسط عن سبب خروجه لقال كما قال أسلافه (نريد أن نُحكم بما أنزل الله). لكنه لم يدرك أنّ الحاكمية ليست شعارًا يُرفع في وجه الحاكم فحسب، بل منظومة قيمٍ تُقام في النفس قبل أن تُقام في الدولة. فحين يرفع الإنسان سيف الدين على أخيه المسلم لمجرّد أنّه لم يشاركه ثورته، فقد جعل من نفسه حاكمًا على نيات الناس، واستبدل سلطان الله بسيفه الخاص. وهذا ما قصده ابن تيمية بقوله (كل من دعا إلى طاعةٍ بغير علمٍ فقد دعا إلى فتنة)، وهي عبارة تصلح أن تُكتب تعليقًا على مثل الشعبي.
وإذا مدّدنا النظر إلى التجارب المعاصرة، وجدنا أن نموذج (الأخ الأوسط) يتكرّر في صورٍ حديثةٍ لا تقلّ خطورة. فكم من جماعةٍ رفعت شعار الإصلاح أو مقاومة الفساد، ثم انتهت إلى تدمير المجتمعات التي خرجت من أجلها، لأنها لم تفرّق بين العدو والمخالف، ولم تميز بين الدين كقيمة والدين كراية سياسية.
والخوارج الجدد، وإن اختلفت أزياؤهم وشعاراتهم، إلا أنهم يحملون العقلية نفسها، يبررون سفك الدم باسم الغيرة على الدين، ويكفّرون من لم يقف في صفّهم باسم الولاء لله، كما فعل الأوسط حين قتل الأصغر لا لأنه ظالم، بل لأنه لم يُقاتل معه الظالم. وهنا يظهر المعنى العميق للمثل (أن التطرف لا يحتاج إلى حجة، بل إلى شعورٍ متضخّم بالحقّ يجرد الآخر من إنسانيته).
وفي سياقٍ مقارب، أشار أبو حامد الغزالي إلى هذا النمط من التفكير في فصلٍ دقيقٍ من فضائح الباطنية، حين قال (إنّ الخطأ في التأويل يُفضي إلى تكفير الأمة بأسرها، حتى لا يبقى في الأرض مسلمٌ غير من وافق رأي المؤوّل، فيسفك الدماء ويزعم أنّه ينصر الله، وهو من أجهل الناس بالله). وهذا التوصيف ينطبق على الأوسط في حكاية الشعبي، إذ جعل من اجتهاده الفردي معيارًا للحقيقة المطلقة، ومن مبايعة الآخرين له دليلَ إيمانهم. ومن هنا ندرك أنّ الإمام الشعبي كان يضرب مثلًا في التحذير من احتكار الصواب أو الحقيقة باسم الدين، لا في سرد حكايةٍ اجتماعيةٍ فحسب.
فالقيمة الفلسفية لهذا المثل إذن تكمن في أنّه يقدّم تصورًا مبكرًا لما يمكن تسميته بـ(انقلاب المعنى الأخلاقي في الفعل الديني)، أي حين يتحول الإحسان إلى عدوان، والغيرة إلى بطش، والإصلاح إلى فوضى. وهو ما يشبه ما سمّاه فلاسفة الأخلاق المحدثون أمثال كانط (1724-1804م)بـ(النية الطيبة المدمّرة)، إذ قد يقود الإخلاص غير العاقل إلى فسادٍ أكبر من النفاق الواعي. فالأوسط كان صادق النية، لكنه أخطأ في فهم المقاصد، فجمع بين صدق الإرادة وسوء الفعل، لأن النية الحسنة وحدها لا تكفي كما ذكر ابن القيم (كم من مريدٍ للخير لم يُصبْه، لأنه لم يزن فعله بميزان العلم والحكمة)، وهي عبارة لو سمعها (الأوسط) لما سالت الدماء بين الإخوة.
وخِتامًا، فإنّ الشعبي لم يورد هذا المثل تندّرًا أو حكاية أدبية، بل أراد أن ينبه العقلاء إلى قاعدةٍ جامعة وهي (لا يُزال الباطلُ بباطلٍ أعظم منه، ولا تُطفأ الفتنةُ بفتنةٍ أشدّ، ولا يُرفع شعار الدين على حساب مقاصده؛ فإنّ العدل لا يُستخرج بروح الانتقام، والحاكمية لله لا تتحقق بتحويل الرأي الفردي أو حماسة الغاضبين إلى معيارٍ للشرع). ولعلّ من أبلغ الشواهد على هذا المعنى ما رُوي عن عمر بن عبد العزيز حين قيل له (إن الناس قد تمرّدوا فقاتِلْهم)، فقال: (إني أكره أن ألقى الله وفي عنقي دمٌ من دمائهم). هنا تتجلّى الحكمة التي غابت عن (الأوسط) في مثل الشعبي، إذ غاب معها التوازن بين الحقّ الإلهي والرحمة الإنسانية، وبين نصّ الشريعة ومقاصدها. فكان مقصد الشعبي تحذيرًا مبكرًا من انقلاب الغيرة إلى غلوّ، وانحراف الإصلاح إلى سفكٍ للدماء باسم الحق.
وعلى هذا، فإنّ المثل الذي ضربه الشعبي ليس مجرّد قصة رمزية عن الخوارج، بل هو مرآة لكل فكرٍ متصلّبٍ يتعامل مع الخلاف بوصفه جرمًا، ومع الصبر بوصفه عجزًا، ومع الحكمة بوصفها خيانة. وهو تنبيه ضد العقلية التي لا ترى في العالم إلا حدّين (أبيض ناصع وأسود حالك)، فتمحو المنطقة الرمادية التي لا يسكنها إلا العقلاء. ولذلك ظل قول الشعبي خالدا، لأنّ الظاهرة التي وصفها لم تنقضِ بزوال الخوارج الأوائل، بل تناسلت في صورٍ جديدة تبنّاها متديّنون غاضبون ظنّوا أنّهم ينصرون الله، وهم في الحقيقة يطفئون نور حكمته.
ولذلك فاستعادة مثل الشعبي اليوم ليست ترفًا بيانيًّا، بل رجوعًا إلى بصيرة مبكرة في فهم السنن الفكرية والاجتماعية؛ إذ إنّ المجتمعات التي ترفع لواء الطهر بلا فقه ولا علم تتحوّل سريعًا إلى ساحاتٍ للدم المقدّس، وتستبيح مخالفيها باسم النية الصالحة. وما لم تُستعدّ الأمة لردّ الغيرة إلى علمٍ، والحماسة إلى حكمة، ستظلّ في كل عصر تُنجب (أوسطًا) جديدًا يثور على (الكبير)، ثم يقتل (الصغير)، ظنا منه أنه يقيم العدل، وهو في الحقيقة يعيد إنتاج الظلم في ثوبٍ ديني مستعار.
***
بقلم د. بدر الفيومي