دراسات وبحوث
أسعد عبد الرزاق: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر

من التصور الفقهي الى التصور القيمي، مقاربة تأسيسية للاجتهاد القيمي فيما لا نص فيه
مدخل: يستمد العقل الفقهي من النص الديني موقفه الاجتهادي في مختلف القضايا والمسائل، موسعاً ومستنطقاً لدلالة النص (قرآنا وسنةً)، لاستنباط المواقف التشريعية تجاه الوقائع والقضايا التي تتصل دلاليا بمنطوق النص او مفهومه، او ما تنتجه طرق الاستدلال والاستنباط، من ربط دلالي بين النص، والواقع.
ومع تقدم الزمن، تستجد كثير من الوقائع، مما حدى بقسم كبير من الفقهاء المسلمين، الى إدراك ما يمكن أن نطلق عليها: (ما لا نص فيه)، من الوقائع التي من المفترض أنها لم يرد فيها نص، أو من غير الممكن شمولها وتغطيتها بدلالة النصوص الشرعية، غير أن قسم آخر من الفقهاء، تنكر لهذه المساحة (غير المنصوص عليها)، إصراراً منهم، على أن العقل الفقهي هو القاصر غالبا، في إدراك المناسبات الدلالية بين النص، ومستحدثات الواقع، وأن بإمكان الموروث الروائي بالجملة، أو في جملة منه، أن يغطي تلك المستحدثات.
فيما اختلف القسم الأول من الفقهاء، بعد تسليمهم بوجود تلك المساحة الفارغة من النص، في تحديد الموقف مما لا نص فيه، عبر مبانٍ واتجاهات عدة، أبرزها:
١- توسيع نطاق الأدلة الشرعية - مضافا الى القران والسنة- ليشمل (العقل، والقياس، والاستحسان، والمصلحة، والعرف، وشرع من قبلنا، وسد الذرائع وفتحها..)، بحسب مبنى كل مذهب..،
٢- تأسيس الأصول العملية التي تعالج موقف الشك في الحكم ودليل الحكم، من خلال الاحتياط والبراءة والاستصحاب، والتخيير، فهذه تعالج موقف الشك بالحكم عندما لا يتم الدليل عليه تبعا للشك في وجود دليله او الشك في شموله بمدلول الدليل..
٣- الدلة الثانوية، والتي تشمل، ما يطلق عليه عند اصوليي الامامية بالدليل اللبي، مثل السيرة العقلائية والارتكاز العقلائي، وما يطلق عليه بسيرة المتشرعة، وما يندرج في العناوين الثانوية مثل حفظ النظام، والاحتياط في الدماء والاعراض، وغيرها من المفاهيم المؤثرة في انتاج الموقف الاجتهادي.
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كفريضة جزئية:
يتناول الفقهاء عادة، فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كفريضة جزئية، ويتصورونها على النحو الآتي:
1- كونها فريضة جزئية لا كلية:
فالفقهاء يعدّونها واحدة من جملة الفرائض الشرعية العملية (إلى جانب الصلاة، الزكاة، الصوم…)، وليست أصلاً تأسيسياً عاماً في أصول الاجتهاد.
أي أنها حكم تكليفي فرعي، وليست أصلاً مؤسساً أو قاعدة فوقية تحكم فهم الموقف من الواقعة التي لا نص فيها.
2- قيود الفريضة وشروطها:
الفقهاء يقيّدون وجوبها بجملة شروط دقيقة، من أهمها:
- المعرفة بالمعروف والمنكر: فلا يجب إلا على من يعرف الحكم الشرعي.
- احتمال التأثير: فإذا علم المكلف أن كلامه لن يغير، أو سيزيد المنكر، يسقط عنه الوجوب.
- أمن الضرر البالغ: إذا كان في الإنكار ضرر على النفس أو المال أو العرض بدرجة شديدة، يسقط التكليف.
- التدرج في المراتب: يبدأ بالإنكار القلبي، ثم اللساني، ثم اليدوي عند القدرة وضمن شروطه.
3- الجزئية التطبيقية:
الفريضة تُمارَس غالباً في المجال الفقهي الأخلاقي الفردي (مثل ترك الصلاة، شرب الخمر، كشف العورة…) أكثر مما تُمارَس في المجال السياسي أو الاجتماعي العام.
ويندر أن يتم توسيعها لتشمل البُنى الاجتماعية والسياسية، بل غالباً تُربط بإذن الحاكم الشرعي أو السلطة.
لذلك فهي أقرب إلى كونها تكليفاً جزئياً فردياً يمارَس في دوائر ضيقة، وليست قاعدة كبرى تُبنى عليها نظم أو منظومات فكرية.
٤- علاقتها ببقية الواجبات:
العقل الفقهي لا ينظر إليها كفريضة تؤسّس لهيمنة الدين على الاجتماع، بل كإحدى الواجبات التي لها أثر في صيانة الفرد والمجتمع من الانحراف، وبحدود ما تسمح به الشروط والقدرة.
ولهذا تراها في الكتب الفقهية تأتي بعد العبادات والمعاملات، كفصل مستقل محدود، لا كمبدأ شامل حاكم.
4- في المجال العام اقترن تصور الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بحكم الجهاد، وهو ما أضفى نوعا من المزاوجة بين الحكمين، وهذا ما جعله تابعا بنحو ما لحكم الجهاد.
تحليل مفردة المعروف:
مفردة المعروف، وبالنظر إلى صياغتها الصرفية التي تفيد المعرفة المقطوع برسوخها في وجدان الأمة، والمنكر كذلك، وكأن كلاهما مقطوع بهما في ظائرة الادراك.
وعبرت بوجدان الأمة، لأن المعرفة بحسب الاصطلاح الفلسفي، العرفاني، هي أقرب إلى الإدراك الوجداني منه إلى الإدراك العقلي، وعند الإمعان والملاحظة نجد أنه لم يقل الأمر بالمعلوم، أو الأمر بما يجب أن يعمل أو الأمر بما شرع الله وغيرها من المعاني والاصطلاحات القريبة والمرادفة فالمعروف ما رسخ وانتشر في وجدان الجميع، وهو أقرب إلى القيم الفطرية التي يدركها الجميع من دون تحصيل وكسب، بخلاف المعلوم، وما ينبغي أن يعلم من أحكام التشريع التي يختص بها الفقهاء، وغيرهم من العلماء الراسخين في تعلم شرع الله وأحكامه.
عند هذا التصور يتضح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو حكم وأمر كلي يتعلق بالمجموع لا بالأفراد، وقوله (الذين يأمرون بالمعروف) أداة عموم يستفاد منها العموم المجموعي أكثر من العموم الاستغراقي.
ويمكن تقرير ان المعروف: كلّ ما أمر الله به أو استحسنه العقل أو أجمع عليه ضمير الإنسان السوي، فهو معروف، تجب الدعوة إليه والعمل به.
اتجاهان في تصور المعروف:
1. الاتجاه الواقعي (التحليلي)
يرى أن المعروف نتاجٌ لعقل عمليٍّ يبحث عن المصلحة، فالقيمة تُفهم بقدر منفعتها الاجتماعية.
مثل اعتمادهم على الوفاء بالعهد، أو صدق الخبر، لأنها تحفظ النظام الاجتماعي.
2. الاتجاه القيمي (المعياري)
يرى أن المعروف ليس مجرد نفعٍ اجتماعي، بل هو تعبير عن إدراك فطري للخير؛ فالقيمة متجذرة في كيان الإنسان قبل التجربة.
محاولة المقاربة التأسيسية:
يمكن عقد مقاربة تأسيسية للمعروف والمنكر كواقع قيمي مؤثر في توجيه الاستنباط فيما لا نص فيه، عبر محاولة ضبط (إدراك القيمة)، كمؤثر فاعل في إنتاج الموقف الاجتهادي فيما لا نص فيه، وضمان حاكمية الإطار المرجعي لقيم النص التشريعي، في مجالها القطعي، وعقد المقاربات والمناسبات بين الموضوعات من جهة، والقيم المنتجة للأحكام، من جهة أخرى، ولا بد من عرض أبرز الكليات التي تسهم في إنضاج هذه الرؤية:
1. المبدأ الجامع
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليسا أحكاماً جزئية فقط، بل آلية مستمرة لحفظ القيم والمعايير في الواقع،
و"ما لا نص فيه" هو فضاء واسع تُترك فيه التفاصيل للفقيه وفق مبادئ الشريعة، وكلاهما يمثلان مساحة مفتوحة للاجتهاد، ويُبنى عليهما تفاعل الدين مع الواقع.
2. التأسيس القيمي
المعروف والمنكر مفهومان مفتوحان، يتغيران بتغير العرف والعقل الجمعي ما لم يخالفا النصوص القطعية، وهذا الانفتاح شبيه بمساحة "ما لا نص فيه"، إذ يُرجع فيه إلى المقاصد والقيم الكبرى.
وعليه فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثلان منهجية حية لمعالجة المستجدات، لا مجرد واجب أخلاقي فردي.
3. الوظيفة الاجتهادية
في المسائل التي لا نص فيها، المرجع هو الاجتهاد المستند إلى القواعد الكلية (العدل، رفع الحرج، حفظ الضروريات)، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المرجع هو الوعي بالمصلحة والمفسدة المعروفتين، أي قراءة الواقع في ضوء الراسخ والمستقر من القيم.
4. البعد الاجتماعي والسياسي
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس فرديًا فقط، بل له بُعد مؤسساتي (كما في الحسبة قديمًا أو الرقابة الاجتماعية حديثًا)، و"ما لا نص فيه" عادة ما يفرز تشريعات مدنية أو أعراف اجتماعية يحتاج المجتمع لتنظيمها.
والمقاربة: كلا المجالين يبرزان أن الدين لم يرد أن يُحيل المجتمع إلى نصوص جاهزة فقط، بل إلى آليات دائمة تتضمن تفاعلا بين العقل والنص لإنتاج الحلول.
5. النتيجة التأسيسية
يمكن القول إن:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الإطار العملي لحماية مقاصد الدين في فضاء ما لا نص فيه.
بينما النصوص المحدودة تضبط "الحدود"، فإن هذه الفريضة تضمن أن القيم تبقى حيّة وفاعلة في مواجهة المستجدات.
خلاصة:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن أن يمثلا أداة تأسيسية لمواكبة ما لا نص فيه، عبر تفعيل القيم الكبرى للشريعة في كل زمان ومكان، من خلال سعة مدلول المعروف لكل ما يتسق مع القيم، وسعة مدلول المنكر لكل ما هو مخالف للقيم.
تبقى اشكالية الضبط والتحديد، وحلها منوط بتأسيس منظومة قيمية مستندة الى النصوص والثوابت، تحكي عن مقولة المعروف، في إطار نظري مرن.
***
د. أسعد عبد الرزاق الأسدي