دراسات وبحوث
إنتزال الجبوري: نحو وعي تربوي جديد في عالم متغير (9)
![](/images/1/almothaqaf_newspaper.jpg#joomlaImage://local-images/1/almothaqaf_newspaper.jpg?width=&height=)
ثالثا: أثر تكنولوجيا المعلومات في تربية وتعليم جيل اليوم
المحيط الافتراضي المحيط الثالث الحاضن لتربية طفل اليوم؛ المحيط الذي أوجدته تكنولوجيا المعلومات عبر التمازج بين عالم الخيال والحقيقة بواسطة الأجهزة الذكية.
العالم الافتراضي هو "برنامج ثلاثي الأبعاد يحاكي الواقع والبيئة من حولنا، يتفاعل فيه المستخدمون فيما بينهم مشكّلين ما يُعرف بالحياة الافتراضية، هذه العوالم قد تحاكي العالم الحقيقي، أو قد تكون خيالية أو مثالية، وبشكل عام يتم التوجه نحو هذه العوالم بصفتها وسيلة للعب والتسلية والترفيه لمستخدم الإنترنت، لكن ذلك لا يعني أنها تقتصر فقط على الألعاب حيث يتواجد فيها مختلف ما تتخيله من احتياجات، علاقات تجارية، عملة افتراضية لها سعر صرف، علاقات اجتماعية، واقتصادية، وتجارية، وكل ما هو موجود فعليا في الحياة الحقيقية" [1].
في المحيط الافتراضي لا يحتاج الطفل إلى وسيط تربوي كالأبوين، أو المعلم؛ هو الوسيط التربوي لنفسه، مستعين بحواسه الثلاث؛ السمع، والبصر، واللمس، وأدواته هي الأجهزة الحديثة المختلفة؛ حاسوب، أو شاشة عرض كبيرة، أو جهاز اتصال كبير، أو صغير، يتمكّن الطفل من خلالها صياغة مشاهد، وتأليف سيناريوهات، أو تصوّر عوالم افتراضية لمحاكاة الواقع، أو تشييد عوالم خيالية أو مجازية، ويمضي الطفل غوّاصا في عالم الخيال، ورحّالا مكتشفا العالم في عصوره السحيقة، متقمّصا شخصيات افتراضية، أو مشكّلا صداقات مختلفة حول العالم؛ يتعلم من خلالها التجارب والخبرات دون خوف، أو وجل، أو قيد، أو رقيب، عبر تطبيقات مختلفة كثيرة؛ تويتر، فيسبوك، انستكرام، تلكرام، واتساب، فايبر، تيك توك، كوكل، جي بي تي، وغيره من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، روبوتات محادثة، وكتابة، وتعليم مختلف العلوم والفنون. اللعب والتعليم واكتساب المعلومات يكون مباشرا تلقائيا، وكل ما يريده الطفل موجود أمامه على الشاشة، وما عليه سوى نقرة إصبع واحدة ليتمثّل العالم بين أنامله بسهولة وانسيابية. هذه الأدوات تشكل أهم تحدٍّ، ومنافسًا قويا للمربين سواء في العائلة، أم المدرسة، ولها سلطة عليا على مختلف الفئات العمرية.
أثر تكنولوجيا المعلومات في تربية جيل اليوم
تقنيات المعلومات والاتصالات التي تطال اليوم كل مجالات الحياة المختلفة العلمية، والثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية، تشكّل تحديا رئيسيا يواجهه المربون. وكلما ازدادت سعة العالم الرقمي ومنصات الانترنيت وتطبيقاته اللامحدودة، والذكاء الاصطناعي وما يخفيه، ازدادت التحديات. وتشكل التحديات سلاحا ذا حدين؛ إيجابي وسلبي. العائلة اليوم قلقة بشأن تربية الأبناء؛ كونهم في كل مجتمع يتصدرون النسبة الأكبر من حيث الاتصال بشبكات الانترنيت، وهم في تزايد مستمر، وتتزايد طرديا مع زيادتهم الأجهزة الرقمية، ومنصات الاتصال التي تفتح آفاقهم نحو العالم خاصة الذكاء الاصطناعي ومثيلاته.
تكنولوجيا المعلومات اختصرت العالم في قرية صغيرة تمازجت فيها ثقافات الأمم والشعوب، وأخلاقياتها، وقيمها عبر قنوات التواصل الاجتماعي، ومواقع الانترنيت، وساهمت التكنولوجيا اليوم بتغيير قيمنا التربوية والسلوكية.
كما إن لتكنولوجيا العالم الرقمي فوائد فإن أيضا لها أضرارا "إن الواردات الفكرية للأطفال تمثل المنهاج العام لحياتهم الاجتماعية وأن الخواطر الصالحة أو الفاسدة التي تستقر في ذهن الطفل لا تمحى بل تظهر آثارها الخيرة أو الشريرة في دور الشباب[2]".
تكمن فوائد العالم الرقمي بالمصالح المعرفية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، التي يتلقاها الطفل عبر اتصاله بشبكة الإنترنت. على الصعيد المعرفي والثقافي فإن العالم الرقمي يمنح الجيل فرصا تثري عقوله، فتكسبه المهارات العلمية الكثيرة، وتقوي عقوله نحو التفكير والإبداع والاختراع أحيانا إذا كان قد انتمى إلى مجموعة ثقافية علمية يتعلم منها المزيد من الخبرات والمهارات العقلية والعلمية. على الصعيد الاجتماعي تمكّن وسائل التواصل الاجتماعي التي يتلقاها الطفل عبر الانترنيت من تواصله مع مختلف الأصدقاء ومن مختلف البلدان، تواصلا ودّيا، أو تُثري حياته في هذه الجوانب خاصة إذا كان الطفل يعاني من قلة العناية الخاصة به من قبل الأسرة، أو يعاني من أزمات نفسية، أو ليس لديه أصدقاء خارج المنزل، وأطفال اليوم قابعون في المنزل أمام الشاشات. أما على الصعيد الاقتصادي فقد يتعلم مهنة أو عملا؛ أو يمارس عملا يدر عليه المال.
إذا أخذنا موردا واحدا من التكنولوجيا -مثلا- الألعاب الإلكترونية ألفاها الجيل الجديد جاهزة بين يديه على الشاشات الزرقاء، ويتفنّن في كيفية تنظيمها وإمضاء الوقت معها، كما أنها تهبه عقلا إلكترونيا فعالا، ذكيا، حادا، وكل يوم تطل علينا تكنولوجيا المعلومات بجديد ليس آخرها الذكاء الاصطناعي، الذي لا نعلم ما يخفيه لنا خاصة مع جيل اليوم ذي العقل الإلكتروني.
في تقريرها الصادر يوم 11 كانون الأول / ديسمبر 2017 أوردت اليونيسف (منظمة الأمم المتحدة للطفولة) بنودا تخص الطفولة في العالم الرقمي وكشفت عن فوائد التكنولوجيا الرقمية التي يمكن أن توفرها للأطفال الأكثر حرماناً، منهم أولئك الذين ينشأون في ظل الفقر، أو في المناطق المحرومة وفي مخيمات اللاجئين أو المتأثرون بحالات الطوارئ الإنسانية. ومن هذه الفوائد زيادة فرص حصولهم على المعلومات، وبناء مهاراتهم في مكان العمل الرقمي، ومنحهم منصة للتواصل والتعبير عن آرائهم. كما يدرس التقرير أيضاً كيف تزايد تعرض الأطفال على الإنترنت للمخاطر والأضرار، بما في ذلك إساءة استخدام معلوماتهم الخاصة، والوصول إلى المحتوى الضار، والتسلط عبر الإنترنت. وأشار التقرير إلى أن وجود الأجهزة النقالة في كل مكان قد جعل الوصول إلى الإنترنت لكثير من الأطفال أقل خضوعاً للإشراف وربما أكثر خطورة. وتمكن الشبكات الرقمية مثل الشبكة المظلمة والعملات المشفرة من وقوع أسوأ أشكال الاستغلال والإيذاء، بما في ذلك الاتجار بالنساء والاعتداء الجنسي على الأطفال. ويعرض التقرير البيانات والتحليلات الحالية حول استخدام الأطفال للإنترنت وتأثير التكنولوجيا الرقمية على رفاه الأطفال، ويستكشف النقاشات المتزايدة حول "الإدمان" الرقمي والتأثير المحتمل لوقت الشاشة على نمو المخ.[3]
إن العمل الجماعي فقط من جانب الحكومات والقطاع الخاص ومنظمات الأطفال والأوساط الأكاديمية والأسر والأطفال أنفسهم هو الذي يمكن أن يسمح بالتساوي في الساحة الرقمية، ويجعل الإنترنت أكثر أماناً للأطفال ويزيد من وصولهم إليه. وتشمل التوصيات العملية للمساعدة في توجيه عملية صنع سياسات أكثر فعالية وممارسات تجارية أكثر مسؤولية إزاء الأطفال ما يلي: تزويد جميع الأطفال بإمكانية الوصول بأسعار معقولة إلى موارد عالية الجودة على الإنترنت. وحماية الأطفال من الأذى بما في ذلك الإساءة، والاستغلال، والإتّجار، والتنمّر، والتعرّض للمواد غير المناسبة. وحماية خصوصية الأطفال وهوياتهم على الانترنت. وتعليم محو الأمية الرقمية لإبقاء الأطفال على دراية وانخراط وأمان على منصات الاتصال. والاستفادة من قوة القطاع الخاص للنهوض بالمعايير الأخلاقية والممارسات التي تحمي الأطفال وتفيدهم. وجعل الأطفال مركزاً للسياسة الرقمية. لقد تم تصميم الإنترنت للبالغين، ولكن يستخدمها الأطفال والشباب بشكل متزايد والتكنولوجيا الرقمية تؤثر بشكل متزايد أيضاً على حياتهم ومستقبلهم. لذا، يجب أن تعكس السياسات والممارسات والمنتجات الرقمية احتياجات الأطفال، ووجهات نظر الأطفال، وأصوات الأطفال[4] .
أما الجانب السلبي في العالم الرقمي فيكمن في المخاطر التي يواجهها الطفل. طفل الأمس كان يواجه المخاطر خارج محيط المنزل؛ في المدرسة أو الشارع، لكن طفل اليوم يداهمه الخطر وهو في منزله. ويصعب على الأهل تتبع ومراقبة الأبناء طوال اليوم لذا على الأهل أن يعدوا العدة لمواجهة مثل هذه المخاطر، ودرئها عن أبنائهم بكل ما يستطيعون. مخاطر العالم الرقمي يقع ضحاياها الأطفال الضعفاء، أو الأقل خبرة وقدرة على فهمها خاصة القابعة خلف الأستار في شبكة الانترنيت.
مخاطر العالم الرقمي يصنّفها الباحثون إلى "ثلاث فئات؛ هي مخاطر المحتوى، ومخاطر الاتصال، ومخاطر السلوك" [5].
مخاطر المحتوى حيث يتعرض الطفل لمحتوى غير لائق يشمل الصور الإباحية والعنيفة، أو مواقع تروّج لسلوكيات غير صحيحة، كخطاب الكراهية والتحريض على العنف، أو غير صحية كإيذاء النفس والانتحار، وارتكاب جرائم القتل، وغيرها.
أما مخاطر الاتصال فهي حينما يتلقى الطفل اتصالا من شخص غير سوي يسعى فيه إلى غايات جنسية، أو اتصالا من أفراد، أو جماعات تشجع الطفل على التطرف وإقناعه إلى الانخراط معها في سلوكيات خطيرة، أو غير صحية.
وأما مخاطر السلوك فقد تسهم مواقع الإنترنت في صياغة سلوك الطفل فقد تدفعه إلى صياغة أو إنتاج محتوى يحض على العنصرية والكراهية والتمييز، أو نشر صور إباحية غير لائقة.[6]
أثّرت التكنولوجيا كثيرا على سلوك جيل اليوم فصار جيلا ذا سلطة قوية على الأهل -على سبيل المثال؛ حالة الاستهلاك لديه لم نجدها لا في مجايلينا، ولا في أبنائنا، يفرض قناعاته وآراءه مهما كانت عليهم دون رحمة لأنه يريد خلق المستحيل من أجل الاستحواذ على كل ما لدى الأهل من ذخيرة مادية، ورأي سديد، وليس للمعنى من وجود في حياته، كلما استحوذ على شيء يريد المزيد. بالتأكيد بين جيل اليوم توجد استثناءات، كما انوجدت في جيلنا وما بعده- أعني به من لم تصل يداه إلى عالم التكنولوجيا، ومنهم أبناء الأسر ذوي الدخل المنخفض أو الفقيرة، إذ من السهل عليهم أن يحافظوا على قيم وأخلاق الأسر التي نشأوا فيها وتربوا في أحضانها؛ وما أكثرهم اليوم، فليس كل الأسر قادرة على توفير وسيلة إلكترونية للأبناء، إذا كان هم الأب توفير لقمة العيش لهم. وللأسف فإن أبناء هذه الطبقة يقعون فريسة مجتمع التكنولوجيا الذي تضعف فيه القيم الحية الأصيلة، ويعيشون غرباء وسط محيط التكنولوجيا المتلاطم، فضلا عن حرمانهم من الفرص الأكثر تطورا في تعليم المهارات والمهن، والكثير من المعارف التي تؤهلهم لحياة أفضل.
ومن صفات جيل التكنولوجيا أيضا عدم توفره على طاقة تحمّل أعباء المسؤوليات الثقيلة كإدارة أسرة، أو إدارة مركز، أو مؤسسة، أو شركة، أو غيرها لكن يمكنه إدارة مؤسسة معقدة على الشاشة الزرقاء بكفاءة عالية؛ كونه جيل المعلومة الزئبقية السريعة، التي ساهمت في تسريع الحياة وتسهيلها، ووضعت كل شيء نصب عينيه بسرعة البرق.
معلومات وتصورات وتطبيقات العالم الرقمي أيضا لها مردودها السلبي على صحة الأطفال العقلية والنفسية والجسدية والعصبية؛ فالإفراط والإسراف يمكن أن يؤدي إلى العزلة، ونقص في المهارات الاجتماعية، وانفصال الأطفال عن عالمهم الحقيقي حيث لها أثر في التسبب بالنسيان، والإصابة بالخدر، والكسل، والخمول، وتشتت الذهن، وعدم تلبية الواجبات الأساسية خاصة ممن هم في سن المدرسة، فضلا عن بروز مشكلة السمنة عند الأطفال بسبب عدم الحركة، أو قلتها، كذلك جهلهم الحماية من أخطار التنمر، والجرائم الإلكترونية. وأكدت الدراسات العلمية على أضرار الجلوس إلى شاشات الكومبيوتر والأجهزة الذكية الأخرى، وأكدت دراسة طبية أجريت على مجموعة من تلاميذ المدارس الابتدائية أن اعتياد الأطفال الجلوس إلى شاشات الكومبيوتر تحول إلى مرحلة الإدمان لألعاب الفيديو، وتؤدي تلك الألعاب إلى آلام ومعاناة في منطقتي الرسغ والأصابع، والعزلة النفسية، والاكتئاب، والقلق، والاضطراب في النوم، والفشل في الدراسة، وممارسة العنف اللفظي مع العائلة ومع حل المشكلات، والتوتّر الشديد، والوقوع في منزلق الرذائل الأخلاقية.
بالتأكيد الجلوس الطويل على الشاشات يعيق النمو البدني للطفل سيما هو في مرحلة النمو التي تتطلب الحركة والنشاط البدني المستمر. "تؤكد الأبحاث التي أجرتها الدكتورة Joanne Cantor مديرة مركز أبحاث التواصل بجامعة Wisconsin تؤكد أن مشاهدة الأطفال تحت سن 14 عاما للأفلام المخيفة تسبب لهم مخاوف اضطرابية مدى الحياة، يرجع هذا إلى أن الأطفال يتسمون بكونهم أكثر تأثرا من غيرهم، ويصعب عليهم التفريق بين التهديد الحقيقي والخيال. وفي السنوات الأخيرة وبعد أن لاحظ منتجو تلك الأفلام أنها أصبحت لا تستهوي الأطفال بسبب مشاهدها المتكررة تفتق ذهنهم عن أفكار جديدة فاتجهوا إلى إنتاج "أفلام الخيال" التي تحلق بالطفل في عالم آخر غير عالمه الواقعي، وتعتمد على أبطال ملامحهم غريبة. الاستشاري النفسي عثمان بدير يرى أن تلك الأفلام لها العديد من الآثار السلبية ومنها: قتل روح الواقع داخل الطفل، وخلوها من الطموحات المناسبة لبني البشر، وتقديمها حلولا سهلة وغبية للمشكلات التي تواجهها وتحللها من جميع المعايير الأخلاقية. وإدخال أفكار ومعتقدات خرافية لها تأثيرها الخطير على مستقبل الطفل ونظرته الواقعية للأمور وطريقة تعامله مع الواقع"[7].
وجدت دراسة أجريت في مارس(آذار) الماضي أن الوقت الذي يقضيه الأطفال أمام الشاشات يحرمهم من سماع أكثر من (1000) كلمة يتحدث بها الأشخاص البالغون كل يوم، مما يؤدي إلى تراجع مهاراتهم اللغوية"[8]، خاصة في العوائل المثقفة التي في الغالب تتحاور في مختلف الأمور، وتتكلم الفصحى بدلا عن العامية.
تكتب سوزان لين في كتابها "من يربي الأطفال"(نيو برس2022) وهي خبيرة في اللعب الإبداعي وتأثير وسائل الإعلام والتسويق التجاري على الأطفال، جذور وعواقب هذا التحول الهائل نحو طفولة رقمية تجارية، مع التركيز على قيم الأطفال وعلاقاتهم وتعلمهم منذ الولادة. أصبح الأطفال مصدرا مربحا لمجموعة من شركات التكنولوجيا والإعلام والألعاب. تشير الكاتبة إلى أن كثيرا من نخب "وادي السيليكون" لا يسمحون بتعريض أطفالهم للتقنيات ذاتها التي يطلقونها لأطفال الآخرين[9].
تقول ميليندا غيتس زوجة بيل غيتس صاحب أكبر شركة برمجيات حواسيب شخصية في العالم(مايكروسوفت):
"وإذا تجنبت ببساطة إعطاء أطفالك كل ما يريدونه، يمكنك مساعدتهم بشكل أكثر فاعلية في تدريب أخلاقيات العمل المستقبلية، كما قالت المعالجة النفسية إيمي مورين لشبكة «سي إن بي سي ميك إت» العام الماضي. وأكدت مورين أن الأطفال الذين يكبرون ليصبحوا بالغين ناجحين للغاية يتعلمون في وقت مبكر أنه «إذا أرادوا النجاح، فقد لا يأتي ذلك بشكل طبيعي"[10].
وتفصل تكنولوجيا العالم الافتراضي بين عالم الفرد المعنوي الروحي، وعالمه المادي الذي أوجدته الآلة ووضعت كل شيء بين يديه. كلما تقدم العلم والتكنولوجيا زاد استهلاك الفرد المادي، وتضاءل رصيده المعنوي، كأنما الاستهلاك المادي الخارجي يستنزف الرصيد المعنوي الداخلي "فالعلم والتكنولوجيا في تطور دائم، ولكن الحالة الداخلية عند الإنسان ثابتة؛ فهو لا يعدو كونه الإنسان الذي كان قبل عشرين أو ثلاثين قرنا، فالنوع البشري وكل ما يماثله يتضاءل؛ في حين أن التقدم يتعاظم، ومع أن الجميع يصفقون لاستمرار التقدم التقني، فإن القيم الأخلاقية مهملة. إن ثقافة الترف واللذة والرفاه تعمل بسرعة على استلاب العالم الروحي عند الكائن الإنساني، في حين يتزايد طغيان المادية والعنف وفي النهاية تسرق الانتهازية والمادية روح الناس، مغتصبة بذلك الوظائف التي تنسب إلى الشيطان"[11].
وأدت تكنولوجيا العالم الرقمي إلى غياب التفاعل اليومي بين أفراد الأسرة الواحدة لانشغال كل منهم بجهازه الخاص يستطلع فيه ما طاب له من مواقع تواصل، وقد سلبت الحميمية والروابط المتينة بين أفراد الأسرة. حينما يرى الأطفال غياب التفاعل هذا فإنهم يتمردون على الأهل؛ ولم تعد فضيلة الطاعة لديهم سارية فالطاعة لما يُملى عليهم في هذه الوسائل، ولم تعد فضيلة بر الوالدين موجودة لدى جيل اليوم، لأنه تجاوز سلطة الأبوين. ولم تعد للطفل من شخصية قدوة هي نموذجه الثابت، وصار الأشخاص الذين يُعرضون عليه يوميا هم النجوم الذين يستوجب الاقتداء والتعلق بهم، والتواصل اليومي معهم.
من خلال تجربتي مع الجيل الرقمي أنه كلما أمضى وقتا طويلا أمام الشاشة ازدادت لديه حالة الفردية والانفصال عن عالم الأسرة والمجتمع، خاصة إذا كان منهمكا فيها. لكن في الجانب الآخر حينما ينفصل عن الواقع الافتراضي أراه يتفاعل بحياء وحذر مع المجتمع العام، ومن ثم يتحرر تدريجيا من الممانعة والخجل ويتفاعل بحيوية مع الأسرة والمجتمع الخارجي. هذه الحالة ما زالت فتية عند بعض جيل اليوم، ويمكن للعائلة من استدراكها، وترشيد جلوس الطفل أمام الشاشات لمدة طويلة؛ تجنبا لتمادي الطفل مع حالة الجلوس على الجهاز، وبالتالي يصعب السيطرة عليه.
منظومة القيم التي اكتسبناها عبر التفاعل الحقيقي مع الواقع اليومي في الحياة والناس، اليوم التفاعل أصبح مع العالم الرقمي عبر الأجهزة الذكية، ومن الطبيعي أن تتدنى القيم الأخلاقية لانعدام التفاعل مع المجتمع الواقعي، وانعزال الأطفال عن قيمهم، وعاداتهم، وأخلاقياتهم، وصارت أخلاقهم وسلوكياتهم رقمية، وغابت عنهم الروادع الاجتماعية الحقيقية. الرصيد المعنوي من القيم والمثل الأخلاقية لدى جيل اليوم يتضاءل كلما حققت تكنولوجيا المعلومات إنجازات وتطورات جديدة.
تكاد تكون أزمة العالم اليوم هي أزمة قيم، فالحياة تبدّلت وتبدلت القيم معها، القيم الاجتماعية والسياسية والثقافية؛ فالقيم القديمة التي ترسخت منذ الصغر في عقول الجيل القديم لا يمكن اقتلاعها بسهولة، وإن عملية بناء قيم جديدة ليست سهلة لديهم. بالنسبة لطفل اليوم فإنه إذا تمت السيطرة على وقته الذي يمضيه أمام الشاشة فإنه يمكن تغيير القيم تبعا لاختلاف الموضوعات التي هي مثار اهتمام الفرد، ويمكننا من خلق قيم جديدة من خلال التربية التي تركز اهتمامها على موضوعات بعينها وإدخالها في حياة الأفراد والجماعات حتى تتم عملية التغيير. ويمكن لتربية اليوم أن تستفيد من إيجابيات قيم الأمس، وأن تبرز سلبياتها المعوِّقة لتطوير الفرد، حينما تقوم بتعديل القيم تبعا لأهميتها بالنسبة له، وهكذا تعيد بناء سلم القيم من جديد للأفراد[12]. وكل هذا مرتبط بعملية ترشيد الجلوس على منصات التواصل والحد من استخدام الأجهزة الذكية.
يؤكد برتراند رسل في نظريته "ذاتية القيم"، على أن الاختلاف على قيمة هو ليس في ذات القيمة وحقيقتها بل في الذوق وطريقة الاستفادة من القيمة، فالتصرف الذي يعتبره شخص ما شريرا هو تصرف فاضل عند آخر، ويقول: "من هنا تتضح النتائج الأخلاقية لهذه المفاهيم، إنها السرطان الأخلاقي الذي يبتلينا في العصر الحاضر غياب أية قيمة سامية" مثلا استبدال الحب الرومانسي الذي ينتهي بالزواج بعلاقات خاطفة تفضي إلى علاقات جسدية عابرة تتجدد باستمرار، أو أن العلاقة بين الجيران التي كانت قائمة على الود أصبحت أكثر ندرة[13]. أسلوبنا الذين نتعامل به مع الناس والأشياء هو خارطة طريقنا، فعلينا أن نجتهد في رسمها بالشكل الذي يتناسب ويتكيف مع متغيرات الزمن لكن بثقة، وحزم، وإرادة قوية.
أثر تكنولوجيا المعلومات في تعليم جيل اليوم[14]
يوضّح المستشار التربوي محمد عقوني في كتابه "التكنولوجيا في التعليم" أثر التكنولوجيا في عملية التعلّم والتعليم على الوجه الآتي باختصار:
فتحت تكنولوجيا المعلومات لجيل اليوم آفاقا واسعة في تلقّيهم العلوم والمعارف. وسهّلت التعليم وجعلته أكثر تفاعلية من خلال توفير تجارب علمية مثيرة مثل ألعاب الفيديو والواقع الافتراضي لمساعدة الطلاب على فهم المفاهيم المعقدة، والواقع الافتراضي جعل التعليم أكثر تخصيصا من خلال جعل المحتوى والتجارب التعليمية متكيفة مع احتياجات الطالب؛ منها على سبيل المثال: الذكاء الاصطناعي حيث يمكن استخدامه لتوفير تعليمات مخصصة لكل طالب بناء على تقدّمه وأسلوب تعلّمه وحتى مدى استيعابه ومستوى الذكاء لديه. كذلك جعل الذكاء الاصطناعي أكثر سهولة بتوفيره الوصول إلى الموارد التعليمية للطلاب من جميع الخلفيات-مثلا استخدام الفصول الدراسية الافتراضية لتوفير التعليم للطلاب الذين لا يستطيعون الحضور إلى المدرسة. كما يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لمساعدة الطلاب على تطوير مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات. وتساهم التكنولوجيا في تسهيل الوصول إلى المحتوى التعليمي عبر الانترنت، وهذا ما يساعد على توسيع رقعة توفير التعليم في جميع أنحاء العالم . وأيضا ساهمت التكنولوجيا بتوفير الأدوات التكنولوجية، الأجهزة الذكية، والوسائط المتعددة، والتطبيقات التفاعلية، مما يجعل عملية التعلم أكثرا إشراكا وتفاعلا وهذا ما يعزّز فهم الطلاب وتحفيزهم للمشاركة بشكل أفضل. كما مكّنت تقنيات التعليم الآلي والذكاء الاصطناعي من تخصيص تجارب التعلم وفقا لاحتياجات وقدرات كل طالب مما يعزز فرص نجاح الطلاب بشكل أفضل. وأيضا تطوير مهارات التفكير النقدي وهذا ما يشجع الطلاب على التفكير بشكل أكثر تحليلا وابتكارا، وكذلك وفّرت التكنولوجيا فرصا للتعلم التعاوني بين الطلاب عبر الانترنت مما يعزز فهمهم المتبادل والتواصل الفعّال وإبداء الآراء والإبداع فيها. وساهمت التكنولوجيا أيضا بتعزيز بالوصول إلى مصادر متعددة عبر الانترنت مما يسهم في تطوير مهارات البحث والتحليل وتعزيز الإبداع والابتكار. وساعدت التكنولوجيا في تجهيز الطلاب بالمهارات الضرورية للنجاح في سوق العمل المتغير باعتبارها جزاء أساسيا من الحياة والعمل في العصر الحديث. وهذه نماذج لكيفية استخدام التكنولوجيا في التعليم مثلا: استخدام السبورات الذكية لعرض الرسوم البيانية والصور، واستخدام أجهزة الكمبيوتر المحمولة للسماح للطلاب بالتفاعل مع المواد التعليمية. أجهزة الكمبيوتر المحمولة في التعليم تمكن الطلاب من الوصول إلى المعرفة من جميع أنحاء العالم، مثلا يمكن للطلاب الوصول إلى المكتبات الرقمية والندوات عبر الانترنت.[15]
نموذج الكمبيوتر-مثلا- أو أي جهاز ذكي يُستخدم كأحد الوسائل لتنمية ثقافة الطالب ووعيه الإدراكي وتنمية المواهب والقدرات العلمية. تلميذ اليوم غير تلميذ الأمس فإن جهاز الكمبيوتر "يمكّن الطالب من السيطرة على عرض المعلومات بالكم والسرعة التي يريدها فضلا عن أنه يقوم بعمل المعلم في الإرشاد والاختبار والتقويم، ويستخدم في صياغة المواد الدراسية العلمية والأدبية والتاريخية في شكل برامج عن طريق طرح الأسئلة على الجهاز وتلقي الإجابات، ويمكن استخدامه كأداة استيعاب مثالية، وقناة لنقل المعلومات الثقافية إلى الطلاب بشكل يغاير الطرق التقليدية كالتلقين المباشر، بل تتوفر فيه إمكانات عديدة من طرق التدريس من تعزيز وتغذية ومراجعة ومحاكاة وتبسيط وتمثيل وتصغير"[16].
ثورة تكنولوجيا المعلومات قضت على دور التلميذ التقليدي باعتباره تابعا لسلطة المعلم والكتاب المعرفية؛ واليوم التلميذ فيها باحث مبحر في المحيطات المعرفية محددا جهته وأهدافه ويتعامل مع الكم الهائل من المعلومات، والرسوم، والبيانات، والصور فيقوم بتشذيبها وفرزها، ثم يؤلف فيما بينها في معرفة جديدة تمثل الجهد العلمي المطلوب منه، ودور الأستاذ هنا هو رسم المحددات في عملية الاستكشاف التي يقوم بها التلميذ، معنى هذا أن التلميذ دوره في تكنولوجيا المعلومات دور المتسوّق لمواد معرفته الأولية ومن ثم طهيها، وتجهيزها وجبة معرفية كاملة متحملا بذلك مسؤولية طريقة طهيه المعرفية المحترفة أم غير المحترفة، وعليه أن يكون ماهرا في تحليل المشكلات واتخاذ القرارات، وهذه تتطلب التمتع بالصحة النفسية العالية، والاستقلالية، والثقة العالية بالنفس للوصول إلى صناعة المستقبل العلمي التخصصي[17].
تحظى تنشئة الطفل في المحافل العلمية والندوات والمؤتمرات الخاصة بواقع الطفولة العربية والآفاق المستقبلية بالاهتمام حيث وضعت الاستراتيجيات الهادفة لبلورة ذات الطفل العربي المبدعة ذات الهوية الاصيلة وتسعى إلى التجدد الحضاري والفكري، ووضعت التوصيات على ضرورة إعادة صياغة دور المؤسسات التربوية لتهيئة الناشئة للمستقبل من خلال عدة بنود؛ هي:
التربية الدينية، وتعميق الهوية وشعور المواطنة الحقيقية، وتوضيح فكرة تكامل وحدة الأمة من خلال تكامل الثقافات الجزئية، إعداد علماء من الجيل الجديد، وتعميق عمليات التفكير العامة والتفكير الإبداعي خاصة، وتشجيع العمل الجماعي والحوار الهادف، وتمكين الفرد مع معطيات ونتاجات القرن الحادي والعشرين، وتعليم الفرد سلوكيات الديمقراطية عبر الحوار والتفاوض والمناقشة وتنمية روح المشاركة، واكتساب المهارات الأساسية وربط المعلومات النظرية بالتطبيقات العملية، وتوفير مقومات الصحة والسلامة النفسية والبدنية، وتعليمه فن التعامل مع تكنولوجيا المعلومات الحاضرة، وتنمية القدرة على تحليل المعلومات وتفسيرها وفن الاستنتاج واتخاذ القرار، وتعليمه المرونة والحيوية والاستجابة الواعية، وتطوير اللغة العربية واللغات الاجنبية[18].
الانترنت وتطبيقاته غير المحدودة ساهم بشكل كبير في إيجاد طفرة نوعية في عملية التعلّم والتعليم، وساهمت في ارتقاء الطالب والمعلم معا في مضمار تحصيل العلوم والمعارف عبر إيجاد طرق جديدة في توصيل العلوم، وطرائق التدريس والإبداع في كل منهما.
(يتبع)
***
إنتزال الجبوري - باحثة
..........................
[1] بركات، أ.د. وجدي محمد، وتوفيق، أ.د توفيق عبد المنعم. الأطفال والعوالم الافتراضية...آمال وأخطار. بحث مقدم إلى مؤتمر الطفولة في عالم متغير (مملكة البحرين- الجمعية البحرينية لتنمية الطفولة- 18-19/5/2009)، ص4.
[2] فلسفي، محمد تقي. الطفل بين الوراثة والتربية. تعريب وتعليق: فاضل الحسيني الميلاني. بيروت: دار التعارف، ط2، 1401هـ- 1981م)، ص28.
[3] تقرير اليونيسف. حالة أطفال العالم لعام 2017. الأطفال في عالم رقمي. الناشر: شعبة الاتصال التابعة لليونيسف. (أمريكا: 2017).
[4] تقرير اليونيسف. حالة أطفال العالم لعام 2017. الأطفال في عالم رقمي. الناشر: شعبة الاتصال التابعة لليونيسف. (أمريكا: 2017).
[5] نفس المصدر.
[6] نفس المصدر.
[7] كتاب أبي أرجوك ص131-132
[8] نفس المصدر.
[9] ندمان، محمد خير. "في هذا العصر الرقمي.. من يربي أبناءنا؟". صحيفة الشرق الأوسط (9 أكتوبر2022) (تحقيقات وقضايا).
[10]" مبدأ جيد". صحيفة الشرق الأوسط ( ٧ فبراير ٢٠٢٥)(يوميات الشرق).
[11] باينس، جون. مصدر متقدم، ص68.
[12] أنظر: شريف، د. عبد القادر. التربية الاجتماعية والدينية في رياض الأطفال. بدون مكان النشر: بدون طبعة، بدون تاريخ، ص147-158.
[13] باينس، جون. مصدر متقدم، ص376.
[14] للتفصيل أكثر أنظر أيضا: الحلقة الثامنة من هذه الدراسة التي تخص طرق التعليم الحديثة وتنمية التفكير لدى الطالب.
[15] أنظر: عقوني، محمد. التكنولوجيا في التعليم. موقع: aggouni. Blogspot.com
[16] مجلة التربية (قطر): ع 92(1/1990)، ص35-36.
[17] حجازي. مصدر متقدم، ص ص304-305.
[18] أنظر: عماد الدين، محمد. الأطفال مرآة المجتمع. الكويت: مجلة عالم المعرفة: العدد 99(1986)، 269-270، نقلا عن بركات، مصدر متقدم، ص12.