دراسات وبحوث

إنتزال الجبوري: نحو وعي تربوي جديد في عالم متغير (8)

2- طرق التعليم الحديثة:

يُنظر للطالب في التعليم الحديث على أنه مشروع مستقبلي تعمل المدرسة جاهدة لإعداده الإعداد الصحيح، باعتبارها البيئة التي فيها يتلقى العلوم والمعارف لنمو قابلياته ومواهبه الفكرية، والعقلية، والفنية، والبحثية، وتشجعه على الإبداع الذي به يخدم مجتمعه.

تطور تكنولوجيا العلوم والمعارف يشمل تطور أساليب التعليم. ويهدف التعليم الحديث إلى اتباع استراتيجيات مهمة في أسلوبه تختلف عن أسلوب التعليم التقليدي الذي دأبت عليه مؤسساتنا التربوية والتعليمية.

التعليم القديم كان يقتصر على نقل العلوم للطالب من المنهج المقرر وعبر المعلم، وما على الطالب سوى حفظها عن ظهر قلب بتكليف الطالب تحضير المادة المطلوبة منه في المنزل؛ ليكون مستعدا للإجابة عن أي سؤال يطرحه عليه المعلم من دون توسيع مدارك ومهارات الطالب الفكرية والعلمية والعملية. التعليم القديم هو عملية حشو عقل الطالب بالمعلومات من دون فهم أحيانا. حينما كنا طلابا في المرحلة الابتدائية أحيانا نحفظ المادة المطلوبة منا حتى الأخطاء المطبعية نذكرها دون فهم.

اليوم أساليب التعليم القديم بدأت تنحسر، وتحلّ مكانها أساليب التعليم الحديث التي تهدف إلى تنشيط عقل الطالب، وتحفيزه للفهم، والتحليل، والاستنتاج.

استراتيجيات التعليم الحديث لها معاييرها الخاصة التي يجب "أن تكون مناسبة للهدف الذي يجب تحقيقه، واختيار طريقة تدريس تتناسب مع المادة العلمية، ومراعاة الفروق الفردية، واختيار الطريقة التي تناسب المعلم وخبراته ومهاراته، وتتناسب مع الإمكانيات المادية التي توفرها المنظومة التعليمية، واختيار الطريقة التي تتناسب مع عدد الطلاب في الصف الدراسي "[1].

ومن طرق التعليم الحديثة هي:

أ-التعليم التعاوني بين الطلاب: وهي طريقة الهدف منها إيجاد حالة التفاعل والتعاون بين الطلاب في موضوع من الموضوعات، يطرحونه ويدرسونه ويتناقشون فيه، حيث يكونون في مجموعات متجاورة، وكل طالب يكون مسؤولا عن العمل التعاوني والمشاركة الفعالة فيه. هذه الطريقة تساعد على تنمية روح الجماعة والتعاون والتضامن بين الطلاب[2].

بـ-التعليم المتباعد: وتعني تقسيم الحصة الدراسية إلى عدة أقسام بشكل متناوب بين كل مرة وأخرى يفسح المعلم استراحة للطلاب لمدة عشر دقائق، تمارس خلالها الأنشطة الرياضية والبدنية لغرض تنشيط الجسم والعقل، وزيادة يقظة الطلاب ليكونوا على استعداد للحصة الثانية، ويكونوا في حالة حيوية حركية ونشاط.[3] "يجب تحرير الأطفال أحيانا من قيود المدرسة الضيقة وإلاّ ستطفأ فرحتهم الطبيعية قريبا. وعندما يتحرر الطفل سرعان ما يستعيد مرونته الطبيعية. إن الألعاب التي يحاول الأطفال من خلالها أن يتمتعوا بحرية تامة وأن يتخطوا بعضهم البعض ستخدم الهدف بطريقة أفضل، وستجعل عقولهم مشرقة مبتهجة من جديد"[4].

ج-الفصل الدراسي المقلوب: وتعني عكس طريقة التعليم التقليدي الذي يكون فيه التلميذ هو من يحضر ويدرس المادة المطلوبة منه في المنزل، ومن ثم يأتي إلى المدرسة ويلقيها في الصف إذا طلب منه المعلم، أو يجيب عن أي سؤال. المعلم في هذه الطريقة يقدم المادة المطلوبة ويشرحها للطلاب، ويطلب منهم إعادة دراستها في المنزل، وحلّ الواجبات المترتبة عليها، وممارستها، والتعرّف أكثر على الموضوع المطلوب من خلال الفيديوهات التعليمية، أو عبر البحث في مواقع الإنترنت، وتُناقش مع المعلم، وتُحل بعض الواجبات عليه. تساعد هذه الطريقة في حل مشاكل الطالب حول الموضوع وإشكالاته، والجواب عن أسئلته واستفساراته[5].

د-طريقة التعليم الذاتي: وتعني الاعتماد على ذات الطالب للبحث والتنقيب والتعمق الفضولي من خلال وسائل التعليم الحديثة مثل مواقع الإنترنت، والمصادر المهمة التي تخص الموضوع للتعرف عليه، وفهمه، وتحليله.[6]

هـ-طريقة التعليم باللعب: وهي طريقة فعالة ومسلية تعتمد على ألعاب تعليمية مخصصة تمنح الطالب إذا مارسها خبرة ومعرفة في مجال معين، مثل الألعاب المخصصة لممارسة مهارات الرياضيات وحل المعادلات[7].

و-العصف الذهني: وتعني التفكير العميق لطرح أفكار جديدة وإبداعية؛ فتمنح الطالب الحرية في إبداء آرائه، وأفكاره، واحترام آراء الآخرين[8].

ز-التعليم العملي: وتعني تحويل المادة التي يدرسها الطلاب إلى مشروع عملي يمكن تطبيقه[9].

إذن طرق التعليم هذه تمنح الطالب حرية البحث والتفكير والتحليل والإبداع، وتعمل على تنشيط عقله عبر البحث في منابع المعرفة؛ وما أكثرها الورقية والإلكترونية، وتعلّمه التعاون والتضامن والعطاء الفكري دون احتكار للمعرفة بدافع الأنانية، وطرح رأيه بثقة عالية دون خوف أو وجل، وتعليمه المشاريع العملية التي تؤهله لامتهان مهنة ما في المستقبل، فضلا عن تنشيط جسمه وزيادة فعاليته عبر الحراك الجسدي وممارسة التمارين الرياضية بين الحصص الدراسية. أيضا طرق التعليم هذه تمنح المعلم الحرية والخبرة في أداء وظيفته، وقد يبدع ويبتكر طرق تعليم أخرى.

وفي طرق التعليم هذه ينبغي الاستفادة القصوى من مواهب الطلاب المتنوعة تبعا لأنواع الذكاء التي يتمتعون بها، ولا ننسى عدم وجود فرد غبي بالمعنى الأخص، بل إن لدى كل فرد منا موهبة ذكاء خاصة، وقد تجتمع موهبتا ذكاء أو أكثر لدى فرد واحد وقد لا تجتمع؛ فأنواع الذكاء متعددة أقلها ثمانية. بأنواع الذكاء هذه يفكر الفرد، ويحلل، ويؤوّل، ويستنتج، ويبدع.

والذكاء على أنواع هي؛ الذكاء اللغوي؛ ويعني انطواء الفرد على موهبة لغوية خاصة، يتكلم اللغة الفصحى، ويستخرج الكلمات والعبارات الجديدة، ويبتكر المصطلحات الخاصة به، وباللغة يفكر ويبدع وينتج الأفكار الجديدة، من أمثال الذين يتمتعون بالذكاء اللغوي الروائيون، والشعراء، والذين يحبون كافة ألوان الأدب. والذكاء المنطقي الحسابي أو الرياضي، المتمثل بالجمع، والحساب، والمقارنة، والتصنيف، وتطبيق النظريات، والاستنتاج؛ من أمثال الذين ينطوون على هذا النوع من الذكاء علماء الرياضيات والفيزياء والكيمياء. والذكاء الموسيقي، يتمتع بعض الأفراد بالموسيقى والعزف على الآلات الموسيقية، ويحب الأنغام والإيقاعات والغناء؛ من أمثالهم الموسيقيون، والمطربون. والذكاء البصري المكاني هو أيضا الذكاء الفني: يتمتع فيه الفرد المحب للرسم، مكوّنا أفكارا مرئية وصورا ذهنية، أو محب للخياطة، والتطريز، والنقش على المعادن والأخشاب والأحجار؛ من أمثال ذوي الذكاء البصري المهندسون والنحاتون والجراحون. والذكاء الذاتي حينما يحلل الفرد فكرة ما من خلال منظاره الخاص، أو شخص آخر كالمعلم، والأب. والذكاء التفاعلي حيث يكون فيه الفرد مدركا لنقاط ضعفه وقوته في تفكيره إلى الأمور ونظرته إليها. والذكاء الطبيعي حيث يكون الفرد مهتما بعالم الطبيعة ومفرداتها. والذكاء الوجودي حيث يكون الفرد في فضول لمعرفة الوجود والكون والمعنى الروحاني للحياة[10].

المعلم الماهر القدير يمكنه اكتشاف أنواع الذكاء تلك لدى طلابه عبر براعته في استخدام أساليب التعليم الحديثة دون تعسّف، وإطلاق الحرية للطالب لكي يعبر عن رأيه وفكره بطلاقة.

حينما يكون الطالب متعلما تعليما ليس فيه رغبة من المعلم أو سلطة أخرى أو إكراه، فإن دافع التربية والتعليم ينمو في نفسه بشرط وجود بيئة تهيئ لهذا الدافع، فالمعلم الجيد يهب الطالب المغامرة الفكرية لاكتشاف العالم المليء بالمجهولات ببذل الجهود الكافية لدرجة تشعر الطالب بالانبساط والفرح حينما يجد نفسه مبدعا في مجال من مجالات المعرفة في المستقبل، لذا يجب أن ندع مجالا للطالب لأن يستخدم كل جهوده وامكانياته وفاعلياته في عملية تلقي المعرفة، وهذا أحد أسرار جعل المعرفة إحدى أسرار سعادة الفرد بدلا من أن تكون مصدرا للشقاء والعناء والعقاب[11].

التعليم في بلداننا على الدوام يقتصر على الذكاء اللغوي والرياضي، وهما أس عملية التعليم فيما يهمل أنواع الذكاء الأخرى. ولا ننسى أن الكثير من التلاميذ يتمتعون بأنواع الذكاء المذكورة؛ حيث أن من يتمتع بالذكاء البصري يمكنه فهم الدرس من خلال التطبيق العملي، ويمكنه أن يبدع في مجاله خاصة إذا صار نقاش فيه وتحليل واستنتاج. وإن من يتمتع بالذكاء اللغوي يمكنه فهم المواد بحسب ذكائه وموهبته اللغوية التي يمكنه بها من فك رموز العلوم الرياضية.

نتمنى على نظام التعليم في بلداننا أن يحذو حذو الغرب ولا يهمل أنواع الذكاء الأخرى والاستفادة من مواهب ومهارات الطلاب القصوى في تنمية وبناء الأوطان في مختلف الحقول العلمية، والنظرية، والعملية، والفنية، والاقتصادية، والطبيعية؛ فالغرب أسس حضارته على أنواع الذكاء المذكورة دون تفضيل لأحدها على الآخر.

3- تنمية التفكير لدى الطالب:

ما توصّلت إليه اليوم طرق التعليم الحديثة؛ هي التركيز على أهمية التفكير لدى الطالب وتعليمه كيفية توليد الأفكار.

من نظريات الفيلسوف كانط حول التفكير يقول فيها:

"يجب علينا أن نكف عن تلقي الأفكار فحسب، يجب أن نتعلم كيف نفكر". وضع كانط هنا أهم أساس من أسس عملية التعليم الحديث التي هي أن نتعلم كيف نصوغ الأفكار ونجتهد فيها ونبدع، لا أن نتلقى فقط، ونقلد، ونردد ما يقوله الآخر.

التفكير العامل الأساس اليوم للتغيير الجذري في التعليم. فالتفكير يعلّم الطالب التأمل العميق وابتكار الأفكار وإطلاقها، وحل الإشكاليات إن وجدت في مختلف نواحي الحياة بكل جدارة.

حب الاطلاع، وانفتاح العقل، والصبر، والجد، والدقة هي (فضائل فكرية) ينبغي تعليمها لطالب العلم بها يفهم الحياة؛ فالمعرفة بالحياة ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد، لا أن تكون المعرفة لأجل التعليم الوقتي[12].

من مميزات التعليم الحديث تعزيز مهارات الطالب وقدراته على التفكير والملاحظة والتحليل والاستنتاج، وحل المشكلة إن وجدت في المادة الدراسية، ومراعاة مستويات الطلاب والفروق الفردية بينهم، وتوسيع مدارك الطلاب بمنحهم المصادر المتنوعة عبر التصفح على شبكة الانترنت، وتنمية مهارات التعليم الذاتي للطلاب، فيجعلهم أكثر معرفة واطلاع بالتطورات التكنولوجية ومواكبتهم لها، وتقليل التكاليف المالية في طباعة الكتب الدراسية واستبدالها بالكتب الإلكترونية، وأيضا تشعر الطالب أكثر حبا للتعليم، وتمنع الشعور بالملل؛ لتنوع الأنشطة والمصادر التعليمية من مختلف القنوات المعرفية [13] .

و"تنص أهداف التعليم في القرن الواحد والعشرين أنه عندما يحين الوقت ليترك الولد المدرسة ينبغي أن يتمتع بالقدرة والمهارات اللازمة لتحليل المشاكل وإيجاد حلول لها، إضافة إلى القدرة على إيصال الأفكار والمعلومات، والتخطيط للقيام بالنشاطات وتنظيمها، كما التعاون مع الآخرين"[14]. فالتفكير أهم أساسيات كل الأدوار التي يخوضها الطلاب في مختلف محطات حياتهم في العائلة، والمجتمع، والحياة العملية العامة؛ فبالتفكير يكونون قادرين على تحمل المسؤولية والحكم على الأمور في القضايا الأخلاقية، أو ما يتعلق بالقيم والعدالة الاجتماعية، وعليهم أن يتمكنوا من فهم العالم وما يدور حولهم، واتخاذ قرارات منطقية سليمة تخص شؤون حياتهم الخاصة والعامة، وتحمّل مسؤولية أقوالهم وأفعالهم. إذا أردنا أن يكون أبناؤنا إيجابيين، مبدعين، سعداء، مرنين، معتمدين تماما على أنفسهم علينا أن نقدم لهم يد المعونة على التفكير العميق، وفسح الأفق حول القضايا المهمة في حياتهم، وبذلك نكون قد فسحنا المجال لهم ليتخذوا قرارات حياتهم في المستقبل [15].

و"في دراسة حديثة حول رضا صاحب العمل عن المتخرجين ورد أن المهارة التي تؤمّن حياة المتقدمين للوظيفة على عمل هو قدرتهم على التفكير بشكل مستقل وحس نقدي، فهذا ما يبحث عنه أصحاب العمل"[16]. ولأهمية تعليم مهارات التفكير "أعلن رئيس وزراء بريطانيا أنه على كافة الأولاد في المملكة المتحدة أن يتعلموا مهارات التفكير، وأن يتم تدريب الأساتذة على تقنيات تطوير قدرات الطلاب على التحليل وحل المشاكل، وأن يحصل الطلاب على دروس في التفكير والإبداع وفقا لاهتماماتهم ومستوى تحصيلهم العلمي"[17] .

ولمكتبة المدرسة الورقية أثر كبير في تنمية عقل الطالب وفتح آفاق المعرفة له إذا كانت متضمنة مؤلفات في مختلف حقول المعرفة؛ بتخصيص أوقات خاصة للمطالعة، وحث الطلاب على القراءة، وكتابة الخواطر والموضوعات الهامة، وإعداد النشرات الجدارية، والقيام بالأنشطة الثقافية التي تقيمها المدرسة في الأيام الخاصة.

ومكتبة المدرسة الإلكترونية التي تمكّن الطالب من تصفّح ما شاء له من البرامج المفيدة على شبكة الانترنيت، والاستفادة من المراجع المهمة في عملية التعليم والبحث والتثقيف. يتولى فتح مكتبة المدرسة الإلكترونية أساتذة خبراء في البرمجيات يوجهون الطلاب نحو التصفح على مواقع الشبكة عبر أجهزة الاتصال الخاصة بهم، وإشراك كافة الطلاب فيها لتعميم الفائدة من البرامج المطروحة في عملية التعليم والبحث والتثقيف، وتشجيع الطلاب على كتابة المواضيع ذات الأهمية في مختلف حقول المعرفة، وعرضها في برنامج أسبوعي تعقده إدارة المدرسة، أو في النشرات المدرسية، أو إلقاؤها على مسامع كادر التعليم والطلاب، أو من خلال أجهزة الحاسوب أو الآيباد، أو أجهزة اتصال الطلاب.

في التعليم الحديث يسعى المعلم إلى تنمية وتطوير شخصية الطالب بما ينطوي على شخصية محترمة، وجاذبة، ومحاورة، وقادرة على تشكيل علاقة إيجابية معه، ومُحبة؛ فالمحبة أسُّ أساسيات التعليم. المعلم أيضا ينحاز إلى تجاربه في التعليم، وفي نفس الوقت هو منفتح حتى يربي عقولا منفتحة تناقش في كل شؤون الحياة القابلة للنقاش، وأن تنتقد وتنبذ الآراء غير الصحيحة والسالبة، وهنا تكون عملية التعليم مشوقة غير مملة للطالب، سيما إذا كان المعلم صارما بلين وغير متسلط، بالقدر الذي يحفظ للطالب حقه في التعبير عن رأيه بجرأة، وأدب، وشجاعة، وانبساط، دون تشنج وخوف وتردد، وسيتعلم الطالب بشكل أسرع، وأسلس، وأكثر انفتاحا وربما إبداعا، وتنفتح مواهبه وتنطلق.

ويتعين على المعلم وفق متغيرات الزمن الحاضر أن يقوم بعملية جمع العلوم والمعارف، وتنظيمها، وترتيبها، وطرح الإشكاليات والأسئلة الكثيرة؛ ليثير السجال في غرفة الصف بينه وبين الطلاب، وأن يوضح لهم كيفية ترشيد الاستفادة من القنوات الإلكترونية بكل أمان ووعي.

ويمكن للمعلم من تشكيل حلقة طلابية، يطرح عليهم موضوعا ما، ويفسح المجال لمداولته والنقاش فيه، وتحليله، والتعمّق فيه، والاستنتاج، وهو بأسلوب التفكير الجماعي هذا سوف يعزز الاستعداد لطرح التساؤلات، والتأمل، والنقد، ووضع الفرضيات، والاستدلال، وتوسيع الوعي الفكري، والمقارنة، وإطلاق الأحكام بصحة الأمور، والاعتقاد والإقرار بصحة الفرضيات، وتعزيز الخبرة في التواصل بين الطلاب، والإصغاء إلى أفكار وآراء الآخرين، وتكوين المفاهيم، وطرح الحجج والبراهين، ووضع النتائج، وتعزيز حس الملاحظة، والتساؤل، والقياس، والتقييم، والشرح، والتأمل في التفكير، ومحاولة فهم الأفكار الشائعة التي نستعملها بشكل يومي من دون التفكير بها، والبحث عن معاني الأمور والمعاني المضللة في أفكارنا وأقوالنا، والتعمق في الأفكار التي يجدها العقل البشري محيرة. وإن الهدف من التفكير ضمن مجموعات يكمن في تطوير المفاهيم الذاتية الإيجابية واحترام الذات التي تنتج كوادر تعليمية مسؤولة مبدعة مستقلة[18]. ورش العمل الفكري في المدارس لها تأثير كبير على الصعيد الشخصي للتلميذ، والصعيد المجتمعي العام، فهي تهيئ التلميذ للحياة الفاعلة في العالم الخارجي؛ وتساعده على تطوير مهارات التواصل والتفاعل مع الآخرين؛ فيقوى الوعي الاجتماعي فيهم، وتقوى بينهم أواصر الاحترام والتقدير والتفكير المشترك في تحليل وفض النزاعات، وحل المشكلات، وفهم المزيد من الأخلاق الأساسية، ويقوى لديهم سلّم القيم الاجتماعية التي تصنع الديمقراطية والمجتمع السليم، واكتساب المزيد من المهارات، وعادات التفكير والتحليل النقدي، وبالنتيجة اتخاذ القرارات الصحيحة، فمسائل مثل  تغييرات المناخ، وأثرها على البيئة، والحرب البيولوجية، والآيديولوجية، ومنجزات الطب كصنع عقار مضاد للسرطان، أو عقار مضاد للإشعاعات النووية، وقضايا الانترنيت، والذكاء الاصطناعي، وصنع الروبوتات وغيرها الكثير[19].

وما ينبغي لمدير الورش الفكرية هذه أن يكون كفوءا، مثقفا، وقادرا على إدارة دفة الحوار باحترافية، وذكاء، وصبر، وتحمّل كافة الآراء برحابة صدر وروح رياضية، وأن لا يكون منحازا لرأيه، ويسمح للطلاب من إبداء آرائهم، ويفرض عليهم أن يشتركوا جميعا دون استثناء في النقاش والتحليل. ويسمح لكل طالب بالمشاركة الفعالة في كل مرة لمدة خمس دقائق، وهكذا يتم تدوير الحوار فيما بينهم. وما يجدر بالتلاميذ فعله هو الإصغاء لآراء بعضهم، واحترامها، وعدم المقاطعة، والتزام الأدوار، والامتناع عن السيطرة على النقاش، وعدم توجيه الانتقادات للأشخاص بل للأفكار، والغوص في مناقشة آرائهم عبر طرح الأسئلة العميقة، وشرح مفاهيمهم ووجهات نظرهم بكل صبر ورحابة صدر وحكمة .

و"يقتضي غرس روح المسؤولية والواجب، وبناء الانتماء الراسخ إلى هوية ثقافية- وطنية متينة، وإطلاق العنان للطاقات المبدعة والمشاركة الكونية في صناعة المصير من خلال التواصل الثقافي العالمي. وكلها مهام تحتاج إلى توظيف كامل طاقات التلميذ في برمجة مدروسة. نقطة البدء في مشروع التنشئة هذا تتمثل في القبول غير المشروط للتلميذ في شخصه وقيمته الذاتية ككيان مستقبلي"[20]. و"ينبغي لإدارة المدارس أن ترتبط بأحكام معرفة الأشخاص الأكثر استنارة، تبدأ الثقافة على الصعيد الفردي ثم يؤثر تدريجيا بالآخرين. لا تستطيع الطبيعة الإنسانية أن تقترب من هدفها إلاّ بفضل جهود الأشخاص الذين يملكون رؤية واسعة ويهتمون بالخير العام، وبالتالي هم قادرون على أن يتصورا فكرة وضع الأشياء في المستقبل"[21] .

والطالب الحديث يمتلك أساليب التعليم المختلفة التي يلتقطها من عوالم الانترنيت اللامحدودة التي تساهم في أغلب الأحيان في تشييد البنى الفكرية له وترقيتها، وتحفّز لديه قدرة التعلم السريعة والإبداع في مجال، أو علم من العلوم باستخدام تكنولوجيا التعليم المتنوع عبر القنوات الإلكترونية؛ إذ لم يعد يقتصر على المنهج التعليمي الذي يتلقاه من المدرسة والمعلم.

طبيعة الحياة اليوم، والتطورات المتسارعة التي تتطلب منا جميعا أن نقف وقفة حازمة في مدارسنا وجامعاتنا ونعيد النظر مليا في طرق التعليم؛ فما عادت طرق التعليم القديمة مجدية في عالم متغير لحظي، فالمستقبل ومتطلباته ومتقلباته يدعونا أولا أن نعمّق تفكيرنا ونظرتنا لكل الأمور، ومن ثم نعلم الطلاب التفكير والتأمل العميق فيها، ومن ثم إصدار الأحكام.

التدفق المعلوماتي الهائل اليوم فسح المجال للطالب أن يأخذ دوره ومكانته ويستفيد من العلوم والمعارف، وقد يتفوق على المعلم في هذا المضمار.

(يتبع)

***

إنتزال الجبوري - باحثة

....................
1- صبحي، هبة. موقع كوركت منصة الاختبارات الإلكترونية(18 سبتمبر/2022).
2- أنظر: العبد، نسرين. موقع موضوع (22 أغسطس 2022).
3- نفس المصدر.
4- كانط، مصدر متقدم، ص92-93.
5-
6- العبد، نسرين. مصدر متقدم.
7- نفس المصدر.
8- صبحي، هبة. مصدر متقدم.
9- نفس المصدر.
10- أنظر: دورهام، كريستين. تنمية الإبداع عند الأولاد في خمس خطوات سهلة. ترجمة: فاتن صبح. بدون مكان النشر: بدون تاريخ، ص261، 262.
11- أنظر: رسل، برتراند. مصدر متقدم، ص168-178.
12- أنظر: رسل، برتراند. في التربية. مصدر متقدم، ص168.
13- أنظر: صبحي، هبة. مصدر متقدم.
14- دورهايم، كريستين. مصدر متقدم، ص257.
15- نفس المصدر، ص258.
16- نفس المصدر والصفحة.
17- نفس المصدر، ص259.
18- أنظر: دورهام، كريستين. مصدر متقدم، ص250-251.
19- نفس المصدر، ص251-252..
20- حجازي، مصطفى. الصحة النفسية. مصدر متقدم، ص245-246.
21- كانط. مصدر متقدم، ص33.

 

في المثقف اليوم