دراسات وبحوث
علي أسعد وطفة: التجليات الأخلاقية في الفلسفة الكانطية
الواجب بوصفه قانونا أخلاقيا
"ليس الكمال الأخلاقي الذي يبلغه المرء هو الذي يهمنا، بل الطريقة التي يبلغه بها" ليو تولستوي
"إن الأخلاق لا تعلمنا الكيفية التي يمكننا بها أن نجعل أنفسنا سعداء، ولكن الكيفية التي نجعل وفقها أنفسنا جديرين بالسعادة" كانط.
1- مقدمة:
استحق كانط أن يلقب بفيلسوف الأخلاق، وهو لا ريب يتبّوأ المنزلة السّامقة من المثالية الأخلاقية في تاريخ الفلسفة والفكر الإنساني برمته. ومن أراد أن يدرك العمق الروحي لفلسفته الأخلاقيّة فعليه أن يتأمل في مقولته المشهورة: شيئان يملآن قلبي دائماً بالإعجاب المتزايد والخشوع، وهو شعور لا يفارقني كلما أطلت التفكير فيهما: «السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي والقانون الأخلاقي في داخلي. إنني أراهما أمامي مباشرة، وهما يثيران فيّ المرة بعد المرة الوعي بوجودي" [1]. إنّ هذا القول لشبيه بأنشودة يترنّم بها الشعراء ويرتلها الأدباء، أو بلوحة يبدع في رسمها الفنانون، ويقف أمامها الفلاسفة والمفكرون بإجلال وإكبار. إنها الحكمة الأخلاقية الخالدة التي تؤكد أن الأخلاق هي غاية الخلق في تكوين الفيلسوف كانط. فالقانون الأخلاقي كما يوحي به هذا القول هو مبتدأ الوجود وغاية الخلق الإنساني. وستبقى هذه الفكرة منارة تومض في كل أشكال التفكير الذي ينحو نحواً أخلاقياً وقيمياً.
ومن يتأمل في مضمون الفلسفة الكانطيّة وعمقها سيجد أن هذه الفلسفة تتجه بمجملها إلى البحث عن القيمة الأخلاقية للوجود والإنسان. ولا غَرْوَ أن هذه الفلسفة كانت، وما تزال، فلسفةً رسوليةً في الدعوة إلى الأخلاق بقيمها المطلقة وواجباتها المقدسة.. وإذا كان النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم يقول: إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق، فإنّه حَريّ بنا أن نقول: إنّ كانط قد نهج نهجه العظيم ليضع صروح الفلسفة الأخلاقية، ويرسخ دعائمها، ويرسم تألقها في تاريخ الفكر الإنساني.
لقد استحق كانط - كما ذكرنا - لقب فيلسوف الواجب الأخلاقي، وهو ما رفعه إلى أعلى مرتبة من مراتب السمو الأخلاقي الإنسانيّ. وما لا شكّ فيه أنه جعل المهمة الأساسية للتربية متمثّلة في تحقيق أنموذج الإنسان الأخلاقي سعياً إلى الجمال والكمال، وذلك لأن الله قد خلق الإنسان خلقاً غائياً، وأودع فيه نزوعاً أصيلاً إلى السّير على منهج الكمال الأخلاقي في ذاته وفي الوجود الكوني الذي يحتضنه. ومن الطبيعي ضمن هذا التساوق أن يكون كانط أكثر الفلاسفة اهتماماً بالأخلاق. ولا يخفى على العارفين من أهل العلم أنه خصّص ثلاثة من أهم أعماله لمسألة الأخلاق، وهي: "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق" (1785) و «نقد العقل العملي» (1788)[2] وأخيراً «ميتافيزيقا الأخلاق» (1797 )[3]، يضاف إلى ذلك أن الأخلاق احتلت مكانةً واضحةً في مختلف أعماله، ولا سيّما كتابه الأشهر "نقد العقل المحض". وقد أفرد للأخلاق فصولاً مهمة فيه. ويجب علينا ألّا ننسى في هذا المقام أن كتاباته التربوية لا تعدو أن تكون ترسيخاً لفلسفته الأخلاقية، فالتربية عنده تجسيد للقيم الأخلاقية وسعي إلى تأكيد القوانين الأخلاقية لفلسفته ومنظوره الأخلاقي الرسولي.
ينطلق كانط من الفكرة التي تقول بأصالة المنزع الأخلاقي في الإنسان، فالأخلاق بحسب رأيه أصيلة في فطرة العقل الإنساني، وبذورها كامنة في عقل الإنسان وفي روحه على صورة مبادئ وأفكار وتصورات سابقة للتجربة ومتعالية عليها، لأن مصدرها العقل الخاص الّذي يدور في فلك قصي عصي على التجربة الإنسانية برمتها. ويؤكد في هذا الخصوص شمولية القيمة الأخلاقية في النوع الإنساني، إذ هي ممكنة في عقول البشر جميعهم، وهذا يقتضي أن القوانين الأخلاقية لا يمكن أن تستنبط إلا من التصورات المجردة المستقلة عن المادة والتجربة.
ومن الواضح أن الفلسفة الأخلاقية عند كانط تقوم على العقل وحده، والعقل هو الذي يشكل أساس الالتزام الأخلاقي أو ما يمكن أن نسميه بالوازع الأخلاقي. وقد أعلن في مختلف المواقف والاتجاهات قوانيناً أخلاقيةً أوليةً كامنةً في العقل الأولي للإنسان، ووصفها بأنها تتسم بالضرورة الكلية في مضمار التفكير الإنساني. وقد أكد مراراً وفي مختلف المدارات الفكرية أن الأخلاق مفارقة للتجربة، ولا يمكنها أبداً أن تقوم على أسس تجريبية" مؤكداً وجود «وازع أخلاقي مطلق» ينتمي إلى ما يسميه "عملية تركيبية قَبْلية". والحال أن هذا التفكير الكانطيّ الجديد أعاده في السياق نفسه إلى معاني «الله» و «الحرية» و «الخلود»، وهي برأيه مسلّمات أخلاقية مطلقة يستلزمها العقل[4].
2- الواجب بوصفه مطلقاً أخلاقياً:
يشكل مفهوم الواجب قطبَ الرَّحَى في فلسفة كانط الأخلاقية، ويأخذ مكاناً مركزياً في مختلف أعماله الفلسفية، كما أنه يشكل حجر الزاوية في منظومته الأخلاقية. فالحياة الأخلاقية تخضع لمنطق الواجب وضرورته الكونية بوصفه نشاطاً أصيلاً ينبع في أعماق الحياة الوجدانية للفرد. ولا غرو أن يحتل الواجب هذه المكانة في مختلف الإنتاجات الكانطية بوصفه سعياً دائماً إلى تأصيل الفعل الأخلاقي الذي يشكل ضرورة عقلية نابعة من ذات إنسانية عاقلة تتسم بطابع الحرية والاستقلال والنزوع إلى ممارسة الفعل الأخلاقي الحرّ. وغالباً ما يُنظر إلى كانط بأنه فيلسوف الواجب بلا منازع، لأنه جعل منه المحور الأساسي للأخلاق الإنسانيّة والمصدر الوحيد للإلزام الخلقي.
فالإنسان وفقاً لهذه الرؤية يمارس الفعل الأخلاقي انطلاقاً من الواجب الذي يتميز بعقلانيته وكونيته، حتى وإن تعارض مع مقتضيات الميول والرغبات الذاتية لدى الفرد. وتستمد هذه النظرية مشروعيتها من مشروعية العقل الكوني للإنسانية، إذ يجب احترام القانون الأخلاقي الذي يحكم الجميع؛ ليتمكن الفرد من العيش المشترك مع الآخرين في وئام وسلام تحت مظلة المساواة والقانون. ومن هذا المنطلق فإن العقل الكوني يشكل مصدر الواجب ومنهل الحياة الأخلاقية برمتها، ويشترط كانط في الواجب أن يكون مجرداً من كل غاية نفعية أو ذاتية.
ويتضح من معالم النظرية الفلسفية عند كانط، أنّ الواجب يشكل غاية الأخلاق التي هي غاية الفلسفة. والواجب مطلق ترانسندنتالي يعلو على كل أشكال المادة والتجربة، وهو كيان روحي معنويّ مثاليّ، يعدّ غاية في ذاته بغض النظر عن أي معطى خارجي. إنه أمر مطلق ينبع من العقل المفارق للمادة، ويرتبط بما يجب أن يكون وليس بما هو كائن أو ما هو إليه صائر أبداً. وقد عبر كانط عن القيمة المطلقة للواجب، مؤكّداً أنّه يجب علينا "أن نتقبل هذه الواجبات على أنها أوامر إلهية، ومع أنها كذلك فإن هذه الأوامر ليست ملزمة أو إجبارية بل هي خيار إنساني، وقبولها يأتي من السرائر الذاتية للإنسان"[5].
يماهي كانط بين الواجب والعقل على نحو كلي، ويجعل من العقل مصدراً وحيداً للواجب. وأي عقل هذا إذا لم يكن عقلاً كلياً مطلقاً قادراً على إنتاج الواجب والخضوع له في آن واحد؟ وهي جدلية لا تتوقف أبداً. وفي كل الأحوال لا يكون الواجب استجابة لنزوع وحشي في الإنسان أو غريزة متأصلة فيه، بل يكون دائماً استجابة لنداء العقل وفعل الضمير الكامن في أصل العقل العملي الأخلاقي الذي ينتج الأوامر القطعية المطلقة، وهي التي تشكل الصرح الأساسي للأخلاق في مختلف تجلياتها الإنسانية.
وقد اعتاد المفكرون بصورة عامة على تسمية الفلسفة الأخلاقية عند كانط بـ "فلسفة الواجب"، وذلك لأن الأخلاق الكانطية تنص صراحة وبوضوح تام على مطلقية الواجب وغائيته بوصفه السمة الأخلاقية الأسمى في الوجود، وعلى هذا الأساس تتماهى الفلسفة الكانطية كلياً مع فلسفة الواجب الأخلاقي الذي يكتفي بنفسه قوة معنوية سامية متعالية على الواقع والتجربة، نعم هو الواجب الأخلاقي الحرّ الذي ينبع من ذواتنا ليلبي مطلب الضمير المقدس لنداء الحق والخير والجمال في هذا العالم [6].
3- الواجب قانوناً أخلاقياً:
يعرف كانط الواجب بأنه "ضرورة القيام بالفعل تجسيداً لمبدأ احترام القانون". [7]؛ أي هو ضرورة أداء الفعل احتراماً للقانون العقلي الكلي في ذاته. ومفهوم الواجب يتعارض مع كل الأفعال المنافية للأخلاق والقيم الأخلاقية، من مثل: الكذب والسرقة والخيانة والنميمة والغدر والطمع والكراهية والتعصب وكل القيم الأخرى المشابهة.
ويؤكد كانط الأهمية القصوى للعلاقة بين الواجب والعقل. فالواجب كما يتصوره ليس استجابة لميل أو غريزة أو دافع وحشي، بل يشكل استجابة لنداء العقل الإنساني، وتحديداً العقل العملي الأخلاقي الذي يصدر أوامره القطعية المطلقة، لتكون في نهاية الأمر أساس الأخلاق. وبعبارة أخرى يشكل العقل مصدر الأخلاق وينبوع القيم الأخلاقية، وهو الذي يصدر أوامره المطلقة التي تتصف بطابع الكلية والشمولية. ويعبر كانط عن إشكالية العلاقة بين العقل والواجب مؤكداً أنه لو كان الإنسان عقلاً خالصاً محضاً لكان فعله يتجه بالضرورة الكلية إلى فعل الخير وأداء الواجب، وهذا يعني أن فعل الخير سيكون فطرياً بالمطلق عند الإنسان ضمن صيرورة التطابق الكلي بين العقل المنطلق من عقاله والإرادة الخيرة.
ويقودنا هذا – وفق كانط - إلى استكشاف أصل الشر في الإنسان الكامن في الإنسان الذي يتكون جوهرياً من ثنائية العقل والمادة، أو من ثنائية المادة والروح. وهو التصور الذي يقدمه كانط ليدلل بأن الإنسان قد يعرف الخير ثم يتركه ليرتكب شراً، ويكون ذلك عندما تخضع الإرادة البشرية إلى منازعها الحسية الشّهويّة المتعارضة مع العقل والمتناقضة مع القانون الأخلاقيّ. وهذا يذكرنا بالأمثولة التي نردّدها دائماً: إن الله خلق الملائكة من العقل الخالص وخلق البهائم من الغريزة الخالصة، وركب الإنسان من كليهما. وعندما يستطيع الإنسان أن يغلب عقله على شهواته يرتقي إلى درجة أعلى من مصاف الملائكة، وعندما تنتصر شهواته ينحدر إلى مستويات أدنى من البهائم. فالملائكة لا ترتكب شراً لأن الخير من طبيعتها، والبهائم لا تفعل خيراً لأنها لا تمتلك عقلاً، والإنسان هو صاحب المعجزة إذا انتصر بعقله على غريزته.
ويركز كانط في هذا السياق على أهمية التطابق بين الواجب والفعل الأخلاقي على نحو كلي، وهذا يعني أن الفعل الأخلاقي يجب أن يكون غائياً كلياً وإنسانياً في الوقت الواحد، وأي فعل يفقد سمته الأخلاقية ما لم يرتبط بهذه الشرطية الغائية للواجب، ودون أن يكون صادراً عن الإرادة الخيرة (النوايا). ويلفت كانط النظر إلى وجود أفعال تتفق مع الواجب ولكنها لم تصدر عنه، أي عن الإرادة الخيرة. وهذا يعني أن العمل الأخلاقي الذي يهدف إلى تحقيق مصلحة أو منفعة لا يمكن أن يصنف فعلاً أخلاقياً مطابقاً للواجب، لأن هذا العمل لا يمكن أن يكون نفعياً. فالموظف الذي يصل إلى عمله بانتظام، ولا يتأخر بدافع الخوف من العقوبة، لا يعد سلوكه سلوكاً أخلاقياً. وكذلك الطبيب الذي يعالج مرضاه بهدف تحقيق الشهرة لا يمكن أن يكون عمله أخلاقياً. والشخص الذي يعامل أصدقاءه بود كي يكسب احترامهم لا يمكن لفعله أن يكون أخلاقياً. وكذلك فإن فعل التاجر الذي يعامل زبائنه بإخلاص وأمانة كي يحقق رواجاً لبضاعته وأرباحاً لا يكون فعلاً أخلاقياً. وهذا يعني أن هذه الأفعال لم تكن طبقاً للغاية من الواجب التي تتمثل في فعل الخير المجرد المطلق المنزه عن أي مصلحة كانت. "ولا يكفي لكي يكون الفعل أخلاقياً أن يتطابق مع الواجب، بل يجب أن يصدر عن تقدير عقلي لمبدأ الواجب، ما يدل على صرامة الأخلاق الكانطية، إذ يبدو الواجب عنده وكأنه موجه ضد الطبيعة، كما أن الحياة الأخلاقية تبدو وكأنها إنكار للميول الطبيعية البشرية"[8].
وعلى هذا النحو ينطلق كانط من التأكيد على أن الواجب لا يمكن أن يستند إلى العاطفة أو الوجدان ولا إلى الميول ولا الرغبات، مهما كانت نبيلة وسامية. ومن الواضح أنه أراد في نسق فلسفته الأخلاقية المثالية "أن يحرر السلوك الأخلاقي من قيود الميول والأهواء؛ ولهذا استبعد اللذة والمنفعة والسعادة بوصفها غاية قصوى لأفعال الإنسان الإرادية، إذ جعل الباعث يقوم في الإرادة نفسها، وبذلك ارتدت عنده الأخلاقية إلى مبدأ الواجب" [9].
ولذا، فقد "وصفت أخلاق كانط بالتشدد لأنها أيضاً لا تحبذ العواطف التلقائية والسرور بالحياة ولأنها تفرض نوعاً من القسوة والزهادة في أداء الواجب، ولهذا السبب أيضاً هاجمها معاصروه"[10]، ووصفت لاحقاً بالتّزمّت الأخلاقي.
ويمكن لنا القول: إن القوانين العقلية التي ينادي بها العقل تتطابق كلياً مع القوانين الكونية للواجب، فما الفعل الأخلاقي في نهاية الأمر إلّا محاولة تتصف بطابع الديمومة والاستمرار، لتحقيق التوافق بين القانون العقلي والنواميس الكونية العليا. وهذا يؤكد الثقة الكبيرة التي منحها كانط للعقل الإنساني الذي يقوم بتوليد المقولات الضرورية لنفوسنا، ويصك قوانينها على وزن القوانين الكونية العليا. وهذا يعني في الحصيلة أن العقول الإنسانية قادرة على استكناه الكون وإدراكه عقلياً عن طريق المسلمات العقلية الأولى الكامنة في العقل والقائمة فيه على صورة مسلمات "نومينية" (Noumène).
ويعرّف النومينون (Noumène- Noumenon)[11] - وفقاً لكانط - بأنّه الشيء في ذاته، أو هو كلّ "ما يجاوز نطاق التجربة والإدراك الحسّي؛ إذن فهو حقيقة مجرّدة من مسلّمات العقل العملي، وهو "الحقيقة المطلقة التي تدرك بالحدس العقلي، وهي حقائق مجرّدة تأخذ صورة مسلّمات العقل العملي القبلية التي تدرك بالحدس العقلي مثل: الحرّيّة وخلود النفس، ووجود الله"[12]. والحقيقة المطلقة لا يمكنها - بحسب كانط - أن تُدرك بالعقل النظري لعجز قوانينه عن الإحاطة بالمطلق. وللنومين معنيان "أحدهما سلبي، وهو دلالته على ما لا يمكن معرفته، والآخر إيجابي، وهو دلالته على إحدى مسلّمات العقل العملي مثل: (الحرّيّة وخلود النفس، ووجود الله)"[13]. ويرى أندري لالاند (André Lalande) في موسوعته الفلسفيّة "أنّ أفلاطون استخدم هذا المصطلح في كلامه عن المثل، بيد أنّه يرى أنّ النومين قد انتقل مع كانط من معنى نقديّ محض إلى معنى شبه وجودي أنطولوجي"[14]. ولولا وجود الأفكار القبلية الضرورية، لما افترق البشر عن الكائنات الحية الأدنى في مستويات الخلق والتكوين.
إن القانون المطلق الماثل فينا يسمى الضمير، والضمير على وجه التحديد هو تطبيق أفعالنا على هذا القانون، ولا يكون الضمير إن لم يكن على صورة الأوامر الإلهية السّاميَة. وعلى هذه الهيئة يأخذ الضمير صورة محكمة مقدسة في داخلنا وفي أعمق مشاعرنا الوجدانية. ووفقاً لهذا التصور فإن كانط يرى أن الضمير يعدّ شرطاً أساسياً من شروط الإيمان الديني، فالدين يجب أن يرتكز على الأخلاق، وهو -أي الدين - لا يكون ديناً حقّاً إلا بمساندة الضمير، وهو من غير الضمير لا يعدو أن يكون مجموعة من شعائر تائهة تتسم بالعبثية والتطير[15].
ومع أن كانط لا يستخدم مفهوم الضمير كثيراً، ومع ذلك فإن الضمير لديه يرمز إلى القانون الأخلاقي الساكن في أعماق الإنسان والملهم لأفعاله الأخلاقية. ومهما يكن فإن الضمير يتجلى على هيئة محكمة داخلية للإنسان مخولة بالعمل على تحقيق الفعل الأخلاقي، وتنهى عن ارتكاب الموبقات والاستسلام للنزوات والشهوات وارتكاب المعاصي، وتحثّ على الابتعاد عن كل أشكال الممارسات غير الأخلاقية. وعلى هذا النحو: "يكون القانون الماثل هو الضمير وهو الفاعل في توجيه أفعالنا نحو مطلقات الخير والواجب. فالضمير هنا يشكل قوة إلهية تحاول أن تعصم الإنسان عن ارتكاب الشرور وتنهاه عن ارتكاب المعاصي. إنه القانون الإلهي الماثل في أعماقنا" [16].
ويحدد كانط ثلاث سمات للواجب:
الأولى: أنه يأخذ طابعاً صورياً محضاً على هيئة مسلمات أو أفكار أولية صميمية في عقل الإنسان.
والثانية: أن يكون منزهاً عن كل غائية دنيوية عاطفية أو نفعية.
والثالثة: أن يطبق ويعمم دون قيد أو شرط في مختلف ظروف الزمان والمكان.
فالواجب الكانطي يشكل في نهاية الأمر غاية الأخلاق من حيث هو واجب غائي مطلق مجرد لانهائي، بغض النظر عن أي معطيات خارجة عنه. ويعني هذا أن أخلاق التجربة ترتبط بما هو كائن، أي بالواقع، وبالتالي فهي متغيرة ونسبية، أما أخلاق العقل فترتبط بما يجب أن يكون، أي بالمطلق والغائي والمتسامي. وهذا يؤكد أيضاً أن العقل يشكل المصدر الذكي للقوانين الأخلاقية المطلقة.
4- قواعد الواجب ومرتكزاته:
صاغ كانط نظريته الأخلاقية على صورة قوانين واضحة ومتكاملة، وهي طريقة فريدة في تاريخ الفلسفة الأخلاقية، إذ ترتسم الأخلاق الكانطية على صورة معادلات وقوانين رياضية متكاملة منطقياً ومنهجياً. وهي تحدد مسار الفكر الأخلاقي وتوجه النظرية الأخلاقية بصورة منظمة متكاملة. وقد أسس كانط ثلاث قواعد أساسية في ماهية الواجب الأخلاقي:
1- قاعدة الكلية: "اعمل دائماً، على أن يكون في استطاعتك أن تجعل من قاعدة فعلك قانوناً كلياً للطبيعة".
تشكل هذه القاعدة المحك الأساسي للممارسة الأخلاقية التي يفرضها العقل ويقتضيها الواجب. وتقوم هذه القاعدة على شرط التعميم المطلق دون الوقوع في دائرة التناقض. وهذا يعني أنه يجب على الفاعل الأخلاقي أن يجعل من سلوكه قانوناً كلياً لا يتعارض مع متطلبات الحياة في العالم الواقعي، أو مع مقتضيات الطبيعة وأنظمتها الحيوية. ويتطلب هذا الأمر أن يكون الفعل متطابقاً مع الواجب، لأن الواجب لا يحمل أي وجه من وجوه التناقض مع الحياة.
ويستنتج كانط أنه إذا كان الفعل الأخلاقي يتضمن تناقضاً، أيا كانت صورته، فإن ذلك سيؤدي إلى حالة من التناقض مع القانون الأخلاقي، وهو ما يفقد الفعل الإنساني جوهره الأخلاقي، ويخرجه من دائرة الفضيلة. ويوضح هذا الأمر في مثال يتعلق بتناقضات الواجب تجاه الآخرين. هذا رجل اقترض مالاً من آخر لضرورة قصوى، فقطع على نفسه وعداً برده مع سابق علمه بعجزه عن الوفاء بوعده! إنّ هذا السلوك - بحسب كانط - غير أخلاقي ولا يصلح بتاتاً أن يكون قانوناً كلياً؛ لأنّه يتعارض مع متطلبات الحياة الحرة الكريمة.
فلو جاز لكل إنسان أن يقطع على نفسه عهداً، وهو يعلم مسبقاً بأنه لن يستطيع الوفاء به، لفقد الوعد والعهد دلالتهما الأخلاقية، وأصبح التعامل بين الناس في حكم المستحيل، فتضيع مصالحهم، ويقعون في ارتباك وجودي واجتماعي من شأنه تقويض النظام الاجتماعي، وتدمير مضامينه السلوكية الأخلاقية. ومن هنا فإن تعميم هذا المبدأ - مبدأ عدم الوفاء بالوعد والعهد – سيوقع الفاعل في دائرة التناقض مع القيمة الأخلاقية للواجب من جهة، والقيمة الأخلاقيّة للحياة الإنسانية في تفاعلاتها الاجتماعية من جهة أخرى. وهذا يعني أن الفاعل الأخلاقي لا يستطيع أن يجعل من الوعد الكاذب قانوناً كلياً شمولياً عاماً، لأنه يفتقر إلى الإرادة الخيرة، وهي التي تتمثل في نوايا الفعل الأخلاقي، كما أنه فعل يتناقض مع القوانين الأخلاقية والاجتماعية الفاعلة في المجتمع، ومثل هذا الفعل قد يفقد المجتمع توازنه الأخلاقي، ويتحول إلى مجتمع تنتهك فيه العقود والعهود، وتتخذ مجرّد ذريعة للحصول على مكاسب نفعية ومادية [17]. وهذا الأمر يتعارض أيضاً مع تصور كانط للقانون الأخلاقي بوصفه قانوناً منزهاً عن المنافع والمصالح، ويتعارض معه بوصفه كياناً مطلقاً غائياً.
2- قاعدة الغائية: "اعمل دائماً على أن تعامل الإنسانية في شخصك وفي أشخاص الآخرين دائماً بوصفها غايةً لا وسيلةً".
تتّضح التوجهات الكانطية لتكريم الإنسان بوصفه غاية وجودية، وتركز على التصور الديني الذي يعطي للإنسان هذا التكريم الغائي. فالإنسان غاية الكون والغاية من خلق الطّبيعة، وتمثل هذه المركزية الإنسانية فكرة دعوية رسولية تقرها الأديان، وترفضها أكثر التيارات الفلسفية التي لا ترى في الإنسان أكثر من كائن يحتل المكانة العليا في السلسلة الغذائية للكائنات الحية. ومع ذلك نستطيع أن نلمس في هذا التصور الكانطي ما يدل على أن الأخلاق الكانطية تتجاوز الطابع المجرد الشكلي، وتسعى إلى تحقيق غاية ملموسة ومحسوسة، وهي الإنسان بجوهره وروحه. ومن الواضح أن هذا التكريم الأخلاقي عند كانط ينطلق من القيمة العقلانية للكائن الإنساني الّتي تجعل منه غاية في ذاته، وذلك لأن الجوهر العقلاني للإنسان يعدّ «غايةً في ذاته». ومن أجل أن يوضح كانط هذه القاعدة يعود إلى مثاله السابق ويقول: "إن الشخص الذي يعطي الآخرين وعوداً كاذبة إنما يتخذ منهم مجرد وسائط لتحقيق رغباته، دون أن يفطن إلى أن لهؤلاء الأشخاص حقوقهم بوصفهم موجودات عاقلة أو غايات في ذاتها" [18].
وتكمن القيمة الكبرى لهذه القاعدة في تأكيد الطّابع الإنساني للفلسفة الكانطية، وهو يتمثّل في تمكين البشر من الاستمرار في الوجود على الصورة المثلى للغاية الإنسانية. وهذا يعني أن تطبيق هذه القاعدة سيجعل من المجتمع الإنساني مجتمعاً خلاقاً يقوم على العدل والتفاعل الإنساني، فلا تكون هناك حروب أو مظالم أو قهر أو استغلال أو استعباد. ومثل هذه القاعدة كفيلة عند تطبيقها بإقامة مجتمع مثالي وغائي.
وتلك هي حال الإنسان الغائي في فلسفة كانط، إذ هو الإنسان الذي يأخذ صورته المثلى بوصفه كائناً أخلاقياً فذاً في الوجود، أو بوصفه بصمةً متفردةً في عالم الغايات الوجودية. إنه بالأحرى "كائن" يحمل الإنسانيَّة في ذاته، كائن يومض بنور الضمير وعبق الأخلاق وسمو الواجب الحر من كل قيد أو شرط، وهذه الإنسانيَّة لا يمكن أن تقدر بثمن؛ لأنها غاية الغايات في ذاتها، وليست وسيلة، كما يفيدنا القانون الأخلاقي. ويقول كانط بهذا الشّأن: “يعد الإنسان داخل نظام الطبيعة-كظاهرة من ظواهر الطبيعة وكحيوان عاقل-كائناً غير ذي أهميَّة كبرى، لكن عندما ننظر إليه كشخص، ككيان أخلاقي - أي كذات عاقلة - فإنه يسمو بقيمته على كل المخلوقات في الوجود"[19].
3- قاعة الإرادة: اعمل دائماً جاعلا من إرادتك إرادة كلية مشرعة للقانون الأخلاقي.
تأخذ هذه القاعدة طابعا غائيا مركباً، فهي تؤكد غائية الإنسان من جهة القدرة على التشريع بوصفه منطلق هذا التشريع وغايته في آن واحد. فماذا يقصد كانط وهو يقول هذه القاعدة؟ إنه يريد الارتقاء بالإنسان إلى مرتبة الغائية في البداية والنهاية، إذ هو سبب الفعل وغايته! وهذا يحمل في طياته كثيراً من المعاني والدلالات التي توحي بأنّ الإنسان شبيه بالآلهة! فالذي يشرع قوانين كلية للوجود، ويكون هو غاية الوجود، يكون فوق مرتبة الملائكة وأقرب إلى الآلهة!
وفي هذا السياق يتناول إبراهيم زكريا في كتابه "مشكلات فلسفية" هذه القاعدة، ويرى أنها تشكل توليفاً عبقرياً للقاعدتين السابقتين. فالقاعدة تنص على ضرورة أن يكون الإنسان مشرعاً للقانون الأخلاقي وخاضعاً له، وهذا يعني بالضرورة أن خضوع الإنسان للقانون لا يكون إلا خضوعاً لنفسه، وتلك هي أقصى مراتب السمو والحرية أيضاً. وعندما يقول كانط: "إن الإرادة هي المشرعة العامة للقانون" فهو يعني أن لها من الاستقلال الذاتي ما يجعل منها إرادة حرة، لا تصدر كل أفعالها إلاّ عن طبيعتها العاقلة [20].
وتبرز مثل هذه القواعد العبقرية في صياغتها وفي عمقها الفلسفي سمو الواجب الأخلاقي الذي لا يمكن أن يكون مجرد واجب اجتماعي عادي، بل هو فوق ذلك كله واجب كوني مطلق في مختلف معانيه ودلالاته. ويتضح هنا أن كانط قد شرّع هذه القوانين الكونية للواجب تعبيراً عن الإنسان في صيغته المطلقة بوصفه عقلاً وإرادةً خيرةً ثمّ طبيعةً كونيةً. والواجب - كما يتجلى في فلسفة كانط- هو عصب الأخلاق وجوهر القيمة الأخلاقية، ومن ثم فإن الالتزام به يؤدي إلى تحقيق الغايات الأخلاقية والارتقاء بالأخلاق إلى أعلى مراتب السمو الأخلاقي [21]. والواجبات عند كانط هي نوعان: واجبات الإنسان المرتدة إلى ذاته وواجبات الإنسان تجاه غيره.
5- الأوامر الشرطية والأوامر الغائية:
يميّز كانط بين الأوامر الشرطية والأوامر الأخلاقية القطعية الغائية التي يفرضها الواجب. فالأمر الأخلاقي الذي يصدر عن الواجب يكون غائياً كلياً، وهو ذاتيّ حرّ، لا يتوخى نفعاً ولا يجاري مصلحةً ذاتيةً. أما الأوامر الشرطية فتتمثل في القيام بالفعل لخير مطلوب بوصفه غايةً كليةً. وعلى خلاف ذلك تأخذ الأوامر الأخلاقيّة القطعية صيغة القيام بالفعل لغاية ذاتية مطلقة (الحق من أجل الحق). ويضرب كانط مثلاً بالتاجر الذي يستقيم مع زبائنه، وهذه الاستقامة تتطابق مع مطالب الواجب، ولكنه هذا التطابق يأتي بدافع المنفعة لا بوحي من الواجب نفسه، وهذا التطابق العرضي لا يمنح فعل الاستقامة طابعاً أخلاقياً.
وتخضع الأوامر الشرطية المقيدة للقاعدة العامة: من أراد الغاية أراد الوسائل كذلك. فمثلاً: إذا أردت أن تحيا سعيداً فيجب أن تكون صالحاً. وإذا أردت أن تكسب ثقة الناس فيجب أن تكون صادقاً. "وهذا يؤدي إلى نتيجة أساسية، ألا وهي ضرورة اتباع الوسائل المناسبة لبلوغ الغايات المطلوبة، وأما الأوامر القطعية أو المطلقة فإنها لا تخضع لأي شرط. لماذا؟ لأن ما يلزمنا ضروري في ذاته بصرف النظر عن نتائجه. مثلاً: كن خيراً، قل الصدق دائماً، لا تخن العهد" [22].
والأوامر الشرطية لا تعدو أن تكون أوامر تحكمها معاملات الناس في حياتهم اليومية. فعندما يتجنب المرء السرقة خوفاً من السجن، والإسراف في الطعام خوفاً من المرض، وعندما يجتهد أملاً في النجاح، ويزور الآخرين طلباً للاحترام، ويمارس الرياضة طمعاً بصحة جيدة، فإنه يؤدي واجبات أخلاقية نفعية وشرطية وليست في مقام الأوامر والإلزامات الأخلاقية التي يفرضها الواجب كواجب أخلاقي مطلق، ومثال ذلك، افعل الخير دائماً وأبداً لأنه خير، كن صادقاً واصدق دائماً أبداً حباً بالصدق، لا تكذب خوفاً من العقاب بل لا تكذب، لأن الكذب حرام بالمطلق. اجتهد حباً في الاجتهاد لأن الاجتهاد واجب، وساعد الآخرين ليس طمعاً في أمر آخر غير القيمة الأخلاقية لواجب الخير المطلق.
6- الحرية شرط الواجب:
يحيل كانط مفهوم الواجب إلى شرط الحرية، وتأسيساً على ذلك فإنّه يعطي لمفهوم الحرية أهميةً كبيرةً بوصفها شرطاً مطلقاً للفعل الأخلاق، وعلى هذا الأساس لا يكون الفعل الأخلاقي فعلاً يتم تحت دواعي القسر ومطلب الإكراه على وجه الإطلاق.
فالإنسان يخضع للطبيعة عملياً بوصفه كياناً مادياً، ويخضع للمبادئ جوهرياً بوصفه كياناً روحياً. وهذا يعني أنّه يكون مقيّداً بوصفه جسداً، ويكون حراً بوصفه روحاً ونفساً وعقلاً. وهنا يكمن سر الفعل الأخلاقي، فهو يخضع للواجب خضوعاً حراً، ولا يكون خضوعه للواجب على وجه القسر والإكراه. وينبه كانط إلى أنّ الخضوع لا يكون إلا خضوعاً للذات الروحية لأن المبادئ والقيم الأخلاقية متأصلة في العقل، وحين يخضع العقل للمطلق الأخلاقي فإن هذا الخضوع لا يكون إلا فعلاً ذاتياً صادراً عن العقل الذي يستبطن القانون الأخلاقي. وهذا يعني أن الخضوع لا يكون بأوامر خارجية بل هو بمقتضى الإرادة الذاتية. "والأوامر القطعية المطلقة هي تلك المبادئ الأخلاقية التي يلزم بها الإنسان نفسه بوصفه كائناً ناطقاً حراً، وهذه الحرية لا تعني القدرة على إتيان أي فعل كائناً ما كان، بل هي تعني قدرة الإنسان على تنظيم حوافزه، وتهذيب ميوله، وتوجيه سلوكه. ففي وسع الإنسان أن يفعل أو يمتنع عن الفعل، "وهذه القدرة الإرادية هي التي تسمح له بتنظيم ميوله وفقاً للرفض والقبول والالتزام بما يقضي به القانون الأخلاقي" [23]. ويعني هذا بإجمال أن حرية الإرادة مطلق من مطلقات العقل العملي وبدهياته. إذ لا يمكن "أن يُجبر إنسان ما على فعل ما، ويوصف بأنه أخلاقي أو غير أخلاقي، فالحرية هي الشرط الأول والأساسي للحرية الأخلاقية عند كانط" [24].
7- الإرادة الخيرة:
ينطلق كانط في نظريته الأخلاقية من الإقرار بوجود إرادة طيّبة في الإنسان. وتشكل هذه الإرادة منهل القيم الأخلاقيّة، وتجسد جوهرية القانون الأخلاقيّ. وبناءً على هذا الإقرار البدهي أسس نظريته الأخلاقية على أساس الإرادة الخيرة، قائلاً: "من بين الأمور التي يمكن حصرها في هذا العالم أو خارجه لا يوجد شيء يمكن أن يكون خيراً على وجه الإطلاق إلاّ شيء واحد هو: الإرادة الخيرة" [25].
ويورد كانط نسقاً من الملكات العقلية والنفسية الأخرى القائمة في الإنسان التي يمكن توظيفها في ممارسة الخير أو الشر أو كلاهما معاً، مثل الذكاء على سبيل المثال لا الحصر. ويرى في هذا السياق أن بعض الفضائل ليست خيراً في ذاتها، مثل فضيلة التحكم في النفس. لماذا؟ لأن السارق الذي يسيطر على نفسه يصبح أخطر سارق على الإطلاق. وهو ما يؤدي إلى الإقرار بأن الإرادة الخيرة هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يعد خيراً في ذاته، لأنها لا تستمد طابعها الخير من المقاصد أو الغايات، بل تستمده وتمتحه من ذاتها بوصفها خيراً مطلقاً. وما "يجعل الإرادة خيرة هو قيامها بالواجب، لأن الإرادة الخيرة هي تلك التي لا يكون لها قانون آخر سوى قانون الواجب بمطلقاته الغائية، وعلى هذا النحو فإن الواجب هو ضرورة إنجاز الفعل احتراماً للقانون"[26].
ويؤكد كانط في سياق آخر "أن جوهر الإرادة الخيرة لا يكمن في نتائج الفعل الأخلاقي أو في نجاحه أو بلوغ الهدف المنشود، وإنما يكمن جوهرياً في النية الخيرة. وما دامت هذه الإرادة خيرة بذاتها لا بنتائجها، فإنه لابد من عدّ النية بمثابة العنصر الجوهري للأخلاقية، فالإرادة تظل خيرة حتى ولو عجزت مادياً عن تحقيق مقاصدها مادامت استخدمت شتى الوسائل التي كانت موجودة بين يديها"[27].
وتستند القيم الأخلاقية إلى مبدأ الإرادة الخيرة المستقلة على وجه الإطلاق، وتشكل النية الطيبة جوهر هذه الإرادة وعمقها الوجداني، وهذا يعني أنه عندما تنعدم النية الأخلاقية، فإنّ الفعل يفقد كل صفة أخلاقية، ويصبح مجرد سلوك عابر لا يحمل أي قيمة أخلاقية. القيمة الأخلاقية الحقيقية لا تصدر عن مادة العمل الأخلاقي، بل تتبع صيغته الغائية الشكلية. ويُستنتج من ذلك أن مادة العمل الأخلاقي هي ما يفعله الشخص أو ما يعتقد أن من واجبه فعله مثل: اعتقاد المدين بوجوب دفع دينه، هذا من جهة، أما العمل الأخلاقي فإنّه يتجلى في نية الفاعل الأخلاقي. وهذا يعني أن القيمة الأخلاقية لا تتركز في الخير المتجسد في الفعل وإنما في الفاعل الأخلاقي كقوة ذاتية تتمثل في النية الخيرة لأداء الواجب وفق القانون الأخلاقي. وهنا يقرر كانط بأن الفعل الأخلاقي لا يهدف إلى تحقيق السعادة، بل إلى تحقيق الواجب ضمن شروط الإرادة الخيرة والضمير الحي الساكن في أعماق الإنسان.
ويجب أن تكون الإرادة الخيّرة خيّرة في كل الظروف، مهما كانت الأحوال والمواقف، فلا تكون خيّرة في موقف ما وغير خيرة في آخر، كما أنها لا يمكن أن تكون وسيلة لغاية ما وشريرة كوسيلة لغاية أخرى [28]. وهنا ينبه كانط إلى خطر الانزلاق في "الخلط ما بين الإرادة الخيّرة، وبين مجرد الرغبة في الخير دون اتخاذ الوسائل المتاحة لتحقيقه"[29]. ومن أجل فهم طبيعة الإرادة الخيّرة "يستعين كانط بفكرة «الواجب». فالإرادة التي تعمل وفقاً للواجب هي إرادة خيّرة بالضرورة، أما الواجب فإنه يمثل ضرورة إنجاز الفعل احتراماً للقانون، أما القانون فصفته الجوهرية تكمن في أنه كلي «أي صادق في الأحوال كافة دون استثناء»، والقانون الأخلاقي هو ذلك القانون الذي يقول لنا: إن الفاعل الأخلاقي يتصرف أخلاقياً إذا سيطر العقل على كل ميوله"[30].
ويلفت كانط النّظر إلى وجود علاقة صميمية بين الواجب الأخلاقي والإرادة الخيّرة. ومن يتأمل في منظوره الأخلاقي سيجد أن الواجب يرتبط بالإرادة الخيرة ارتباطاً محكماً، فكل منهما يستند إلى الآخر، ويمتح معناه من معينه الأخلاقي؛ فلا تكون الإرادة إرادة خيرة من غير الاستناد إلى الواجب، ولا يكون الواجب واجباً أخلاقياً حقاً إلّا باستناده إلى الإرادة الخيرة. وهذا يدل على الترابط الجدلي العميق بين المفهومين في الحضور والغياب. ولا يمكن لنا أن ندرك البعد الأخلاقي لمفهوم الواجب خارج مسار التفاعل الصميمي مع مفهوم الإرادة الخيرة، والإرادة الخيرة كما يقدمها كانط هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يعد خيراً على الإطلاق دون أدنى قيد أو شرط. وهي أيضاً تملك شرط الخير، لأنها تعمل بمقتضى الواجب وبصرف النظر عن النتائج. "والإرادة الخيرة هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يكون خيراً في ذاته؛ لأنها لا تستمد خيريتها من المقاصد التي تحققها أو الغايات التي تعمل من أجلها؛ بل تستمد خيريتها من باطن ذاتها بوصفها الشرط الضروري الكامن لكل أخلاقية"[31].
ويمكن أن نبسّط، فننظر إلى الإرادة الخيرة بوصفها "نية الفعل الخير". والنية كما يرى أصحاب النظريات الأخلاقية هي عماد الفعل الأخلاقي، وهي سابقة للعمل والفعل الأخلاقي. وهذا يعني أن أي فعل يستند إلى النية الخيرة سيكون بالضرورة فعلاً أخلاقياً حتى وإن لم يحقق الهدف الذي يسعى إليه. والنية هي العنصر الجوهري في الفلسفة الأخلاقية عند كانط، لأنها "هي وحدها التي يمكن أن تعد خيراً في ذاته أو خيراً مطلقاً من دون أدنى قيد أو شرط؛ "بل إن خيريتها غير مشروطة بعلاقتها بظروف أو بغاية أو برغبة، وهي بهذا المعنى خير مطلق وغير مشروط أبداً" [32].
ومثال ذلك الطبيب الذي بذل جهده لإنقاذ المريض بنية علاجه ومداواته، لذا فلا تترتّب على نتائج صنيعه أي عاقبة أخلاقية؛ أي بمعنى أن القيمة الأخلاقية لعمل الطبيب لا تتحدد بشفاء المريض أو موته، وهذا يعني أن نتيجة الفعل لا تقلل أبداً من القيمة الأخلاقية للفعل القائم على الإرادة الطيبة. وهذا يعني في نهاية الأمر أن الأفعال لا تكون أخلاقية إلا إذا صدرت عن قانون أخلاقي. ومثال ذلك أن الإنسان الذي يقوم بإنقاذ غريق لا يكون فعله أخلاقياً إلّا إذا كان الشرط الأساسي له القيام بالواجب، مهما تكن البواعث الأخرى حاضرة في هذا الفعل مثل الشفقة والعواطف النبيلة، فهذه العوامل تساعد على أداء الواجب، ولكن الأصل في الفعل هو أن يكون استجابة لمطلق الواجب.
8- خاتمة:
تشكل النظرية الأخلاقية لبّ الفلسفة الكانطية وجوهرها، ولا يمكن الفصل في حقيقة الأمر بين الفلسفة والأخلاق في منظومته الفكرية، فالفضيلة تشكل الغاية الكلية السامية عند كانط، وعلى هذا الأساس يشكل الواجب بشروطه وقانونياته الواضحة منهجه في نظريته الأخلاقية، ومن خلاله ترتسم الفضيلة بوصفها الغاية الكلية الكونية للوجود الإنساني.
وتكمن عبقريّة كانط الأخلاقية في قدرته العلمية التي جعلته يصوغ نظريته الأخلاقية بطريقة هندسية واضحة، ويرسمها بطريقة القوانين والقواعد الرياضية. وقد استحق عن جدارة لقب فيلسوف الواجب ومن ثم فيلسوف القيمة الأخلاقية، إذ جعل - كما أوضحنا - من القيمة الأخلاقية قيمة غائية للوجود والحياة والتاريخ.
ويبدو أن كانط كان يخطّ للإنسانية طريقها إلى الفضيلة، إذ جعل من الفضيلة والواجب المنهج الذي يجب أن تعتمده من أجل خلاصها الأبدي. وما لا شك فيه أنّه تصوّر نظريته الأخلاقية بوصفها استراتيجية يمكنها أن تخلص الإنسانية من أوجاعها، وتدمر كل القيم السلبية مثل: الظلم والكراهية والعدوانية بين البشر.
وتتمثل نظريته جوهرياً في غائية الإنسان، وقد جعل من هذه الغائية قانوناً عاماً شاملاً إنسانياً، فالإنسان غاية في نظريته ولا يمكن أن يعامل على أنه وسيلة أو موضوع، بل يجب أن يكون دائماً ذاتاً خلاقة فاعلة رافضة لكل أشكال الظلم والكراهية، وهذا ينطبق على كل إنسان في كل زمان ومكان. ولو أخذت الإنسانية بالقانون الغائي للإنسان -الذي نجده واضحاً في فلسفة كانط- فإن ذلك سيؤدي إلى نهاية الظلم والعبودية والقهر ومظاهر الاستغلال ضد الإنسان في كل عصر ومصر.
ومن المظاهر الحيوية في النظرية الأخلاقية عند كانط أنه جعل من الحرية الأخلاقية للإنسان قانوناً لا يُغلب ولا يتغيّر، فالأخلاق يجب أن تصدر صدوراً عفوياً حراً خلاقاً من عقل الإنسان وروحه الداخلية. وهذا يعني أنه استطاع أن يربط بين الأخلاق والحرية وأن يجعلهما صنوين لا يفترقان، لا في الزمان ولا في المكان. فالإرادة الخيرة هي المصدر الحقيقي لكل فعل أخلاقي يتجه نحو الفضيلة الإنسانية ويجسدها حقيقة واقعية حيّة.
ومن المقوّمات الأساسية لتصوّر كانط للفضيلة الأخلاقية أنه استطاع أن يربط بين الأخلاق والعقل، فالعقل يجب أن يكون المصدر الأول والنهائي للحرية الأخلاقية، ويكسب هذا الأمر للإنسان هوية أخلاقية يتكامل فيها الذكاء بالحرية والعقل والغائية.
وهنا يمكننا القول: إنّ النظرية الأخلاقية عند كانط تشكل طفرة عبقرية لا مثيل لها في تاريخ الفكر الإنساني، وقد تمكّن من إخراجها بطريقة فنية مُحكمة وبدرجة عالية من التصميم الهندسي المعقد، إذ استطاع أن يستخلصها من خميرة تتخاصب فيها الحرية بالعقل، وتتمازج فيها الغائية بالإرادة الحرة لتأخذ صورة واجب، وهو الواجب الذي يرتسم على صورة أمر إلهي مقدس، ومع أنه أمر إلهي فإنه يصدر من أعماق الإنسان ومن صميم إرادته الحرة.
وقد يبدو لنا من الصعب على المتأمل أن يجيد الربط ما بين أمشاج النظرية الأخلاقية عند كانط، ولكن يمكن لأي كان أن يدرك أنّه أراد لهذه النظرية الأخلاقية أن تشكل سعياً مطلقاً لتأكيد الغائية الإنسانية وترسيخ الفضيلة في المجتمع الإنساني ضد كل أشكال القهر والاستلاب والاغتراب والظلم والعبودية، لقد أراد للإنسان أن يكون حراً في مجتمع حر تحكمه الفضيلة وتسوده القيمة الأخلاقية العليا ضمن مسار الغائية الإنسانية على وجه الإطلاق.
وهذه الصورة الأخلاقية التي أرادها كانط أن تتحقق تشكل - كما أسلفنا - جوهر الفعل التربوي، إذ لا يمكن ترسيخ هذه القيم الأخلاقية وتأصيلها في المجتمع إلا عن طريق التربية الأخلاقية التي يمكن أن تؤدي دورها الحيوي في بناء الفضيلة وترسيخ الواجب الأخلاقي بوصفه قيمةً مقدسةً.
***
أ.د. علي أسعد وطفة
أستاذ علم الاجتماع التربوي بجامعة الكويت
....................
مراجع الدراسة وهوامشها:
[1] - إيمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1980 ص108-109.
[2] - Immanuel Kant, Critique of Practical Reason, in The Cambridge Edition of the Works of Im-manuel Kant: Practical Philosophy, ed. by M. Gregor (Cambridge: Cambridge University Press), 1996.
[3] - Immanuel Kant, The Metaphysics of Morals, intro., trans. and ed. by Mary Gregor, San Diego State University (Cambridge: Cambridge University Press) 1991.
[4] - إبراهيم العريس، "ثلاثية الأخلاق» لكانط: أبعد من ضرورات الحياة المادية، ثقافات، يوليو 16, 2016، https://thaqafat. com/2016/07/32166
[5] - انظر محمد علي البار، الأخلاق: أصولها الدينية وجذورها الفلسفية، دار كنوز المعرفة، عمان، 2010.
[6] - انظر محمد علي البار، الأخلاق: أصولها الدينية وجذورها الفلسفية، المرجع نفسه.
[7] - إيمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مرجع مذكور، ص 51.
[8] محمد بوبكري، التربية والحرية، مرجع مذكور، ص42.
[9] - مصطفى حلمي، فلسفة كانط الأخلاقية، مرجع مذكور.
[10] - علا عبد الله خطيب، مفهوم الواجب عند كانط.. مقاربة نقدية، الاستغراب، خريف 2017. صص 299- 310. ص 303.
[11] - يعد مفهوم النومينون (Noumenon) واحدا من أهم المفاهيم المركزية في فلسفة كانط، ويقصد به "الشيء في ذاته أو الحقيقة الأساسية للشيء التي تكمن وراء الظواهر" ( Thing in itself)، ويقابله بالألمانية (Ding an sich). ويعود أصل الكلمة إلى اليونانية، فهو من كلمة (νοούμενoν) المشتقة من الفعل (νοέω) ومعنى هذه الكلمة هو: أعتقد أو أعني. ويستخدم مصطلح "النومينون" بشكل عام كمصطلح مضاد لمفهوم الظاهرة "فينومينن" (Phenomenon) الذي يقصد به ظواهر الأشياء أو الأشياء من الخارج أو المواضيع التي تتلقاها الحواس.. و"النومينات" هي أشياء أو أحداث لا يمكن العلم بها عن طريق الحواس، لأنها مفاهيم مجردة مستقلة عن الحواس الإنسانية. وهذا يعني أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك الأشياء بذاتها بل يستطيع أن يدرك مظاهرها وقوانينها الخارجية.
[12] - جميل صليبا، المعجم الفلسفي (ج 2)، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982، ص 513.
[13] - جميل صليبا، المعجم الفلسفي، المرجع نفسه، ص 513.
[14] - أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، ت: خليل أحمد خليل، (ط. 2). منشورات عويدات، بيروت، 2001. ص 884.
[15] - إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص: تأملات في التربية، مرجع مذكور، ص 83.
[16] - انظر: مولود إمسعودان الجزائري، قراءة في النصوص الكانطية الثّلاثة، مرجع مذكور.
[17] - زكريا إبراهيم، عبقريات فلسفية: كانت أو الفلسفة النقدية، مكتبة مصر، القاهرة، 1972، ص 142.
[18] - زكريا إبراهيم، مشكلات فلسفية: المشكلة الخلقية، مكتبة مصر، القاهرة، 1966، ص 176.
[19] - زكريا إبراهيم، مشكلات فلسفية: المشكلة الخلقية، المرجع نفسه، ص 176.
[20] - زكريا إبراهيم، مشكلات فلسفية، المرجع نفسه، ص 177.
[21] - إيمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي، مرجع مذكور، ص 51.
[22] - الزواوي بغورة، أخلاق الواجب والمؤتلف الإنساني في الفلسفة المعاصرة، التفاهم، المجلد 18، العدد 67 ،31 يناير/كانون الثاني 2020، صص. 89-112، ص94.
[23] - علا عبد الله خطيب، مفهوم الواجب عند كانط، مرجع مذكور ص 083.
[24] - علا عبد الله خطيب، مفهوم الواجب عند كانط، مرجع مذكور، ص 083.
[25]- Immanuel Kant, Métaphysique des moeurs II, Doctrine du droit, Doctrine de la vertu, trad. Alain Renault, Paris, Flammarion, 1994, p. 174.
[26] - انظر: الزواوي بغورة، أخلاق الواجب والمؤتلف الإنساني، مرجع مذكور، ص93.
[27] - زكريا إبراهيم، عبقريات فلسفية (كانت أو الفلسفة النقدية)، القاهرة، مكتبة مصر، 1972. ص 133.
[28] - إبراهيم العريس، "ثلاثية الأخلاق» لكانط، مرجع مذكور.
[29] - إبراهيم العريس، "ثلاثية الأخلاق» لكانط، مرجع مذكور.
[30] - إبراهيم العريس، "ثلاثية الأخلاق» لكانط: مرجع مذكور..
[31] - علا عبد الله خطيب، مفهوم الواجب عند كانط، مرجع مذكور، ص 300.
[32] - علا عبد الله خطيب، مفهوم الواجب عند كانط، المرجع مذكور، ص 300.