قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: دراسة نقدية لديوان "ريما وقصائد أخرى – أنا الخيط الذي أصبح وترًا"
للشاعرة ريما سليمان حمزة
لم تعد القصيدة الحديثة مجرّد بناء لغوي محكوم بالإيقاع أو الصورة، بل غدت فضاءً تأويليًا مفتوحًا تتقاطع فيه التجربة الذاتية مع الوعي الجمعي، ويتحوّل فيه القول الشعري إلى فعل وجودي يسائل المعنى والهوية والذاكرة. في هذا الأفق، يندرج ديوان «ريما وقصائد أخرى – أنا الخيط الذي أصبح وترًا» بوصفه نصًا شعريًا يتجاوز حدود الاعتراف الفردي ليؤسّس كتابةً مشدودة بين الألم والصوت، بين الهشاشة والتشكّل، حيث لا تُستعمل اللغة للزينة، بل بوصفها أداة كشف ومقاومة.
ينفتح الديوان على ذاتٍ قلقة لا تبحث عن اكتمالها، بل عن صيغة ممكنة للبقاء وسط الفقد والتشظّي. فالقصيدة هنا ليست ملاذًا جماليًا بقدر ما هي ساحة اشتباك مع الذاكرة، والجسد، والمدينة، والحقيقة نفسها. ومن خلال بنية نثرية عالية الكثافة، وانزياحات دلالية حادّة، وتوظيف واعٍ للرمز والمجاز، يقدّم النص تجربة شعرية تنتمي إلى ما يمكن تسميته بشعر ما بعد الفاجعة، حيث يصبح الصوت بديلًا عن الخلاص، والكتابة فعل نجاة لا ادّعاء حقيقة.
تهدف هذه الدراسة إلى مقاربة الديوان قراءةً نقدية موسّعة، تستند إلى المنهج الهيرمينوطيقي والأسلوبي والرمزي والنفسي، في محاولة للكشف عن البنى العميقة التي تشكّل خطابه الشعري، وتتبع تحوّلات الذات فيه من الخيط الهشّ إلى الوتر الرنّان. كما تسعى إلى إبراز كيفية تحوّل التجربة الفردية في النص إلى أفق إنساني أوسع، تتجاور فيه اللغة والجرح، الصمت والمعنى، لتؤكد أن القصيدة، في هذا العمل، ليست نهاية القول، بل بدايته.
أولاً: مدخل منهجي – الديوان بوصفه نصًّا مفتوحًا
لا يقدّم هذا الديوان نفسه كـ«كتاب قصائد» بالمعنى التقليدي، بل كـ فضاء تأويلي تتحرّك فيه اللغة بين الاعتراف، والأسطورة، والجرح الجمعي، والأنوثة بوصفها كينونة لا هوية بيولوجية.
العنوان المركزي: «أنا الخيط الذي أصبح وترًا» يعلن منذ البداية تحوّل الذات من الامتداد الهشّ إلى الأداة الرنّانة؛ من الخفاء إلى الصوت، من الانكسار إلى الموسيقى. إنه عنوان أنطولوجي لا وصفي، يؤسّس لرؤية وجودية: الذات لا تُعطى، بل تُصاغ عبر الألم.
من هنا، فإن القراءة الهيرمينوطيقية لا تبحث عن «معنى نهائي»، بل عن حركة المعنى داخل النص، عن انزلاقاته، عن توتّر الدال والمدلول، وعن الصمت الذي يجاور القول.
ثانياً: القراءة الهيرمينوطيقية – اللغة بوصفها أفقًا للكشف
1. النص كرسالة كونية
المفتتح:
«رسالة في بريد السماء»
يضع القارئ أمام خطاب يتجاوز الأرضي، ويتجه إلى المطلق (الأب/السماء/الفردوس). غير أن هذه السماء ليست خلاصًا ميتافيزيقيًا بقدر ما هي مرآة للفقد. الرسالة هنا ليست تواصلًا، بل اعترافٌ بالعجز عن الوصول.
هيرمينوطيقيًا، السماء ليست «علوًّا»، بل مسافة، والكتابة محاولة لعبورها.
2. التكرار بوصفه حركة تأويل
يتكرر في الديوان:
الغياب
النافذة
الوسادة
المقهى
المدينة
الوجه
الضوء/العتمة
وهذا التكرار لا يعمل بوصفه زخرفة بلاغية، بل بوصفه إعادة مساءلة للمعنى. كل عودة إلى الرمز ليست تكرارًا، بل انزياحًا تأويليًا جديدًا.
فالوسادة مثلًا:
مرة: مكان للحنين
مرة: ساحة حرب صامتة
مرة: ذاكرة جسدية للفقد
وهذا ما يجعل النص يتمنّع على القراءة الأحادية.
ثالثاً: التحليل الأسلوبي – اقتصاد اللغة وكثافة الصورة
1. النثر الشعري بوصفه إيقاعًا داخليًا
الديوان يشتغل على قصيدة النثر عالية الإيقاع، حيث لا يعتمد الموسيقى الخارجية، بل:
التوازي
التكرار البنيوي
الجمل القصيرة المتقطّعة
المفارقة اللغوية
مثال:
«الوسادةُ
ساحةُ حربٍ صامتةٍ»
الجملة الاسمية المكثفة تُسقِط الفعل، وكأن الفعل مستهلك، والعنف أصبح حالة ثابتة.
2. الانزياح الدلالي
اللغة هنا لا تصف العالم، بل تُعيد خلقه:
الحقيقة لا تهدي تصفيقها
الضوء خطأ فادح
الكلمات قنابل من ورق
هذه الانزياحات تُنتج لغة قلقة، غير مطمئنة، وهي سمة أساسية في شعر ما بعد الكارثة.
رابعاً: القراءة الرمزية – الجسد، المدينة، الأنثى
1. الأنثى كرمز كوني
الأنثى في الديوان ليست موضوع غزل، بل:
وطن
ذاكرة
جرح
لغة
في «لوحات ليست للبيع»، تتحوّل الأنثى إلى مشهد تشكيلي، لكنها في الوقت ذاته ترفض التشييء. اللوحات ليست للبيع، أي أن الذات غير قابلة للاستهلاك.
2. المدينة بوصفها جسدًا مجروحًا
المدينة لا تظهر كمكان، بل ككائن:
يشيخ
يختفي
يسعل
يفقد وجهه
المدينة = الذات = القصيدة
وهذا التماهي يُنتج شعرية سياسية غير مباشرة، لا تهتف، بل تنزف.
خامساً: التحليل النفسي – الكتابة كفعل نجاة
1. الذات المجروحة والكتابة التعويضية
من منظور نفسي (لا سيما فرويدي/يونغي)، يمكن قراءة الديوان بوصفه:
تفريغًا رمزيًا للصدمات
إعادة تمثيل للفقد
محاولة لترميم الهوية عبر اللغة
الكتابة هنا ليست ترفًا، بل آلية بقاء:
«أكتبُ لأبقى»
2. الانقسام الداخلي
يتكرر الانشطار:
بين الحضور والغياب
بين الجملة والنقطة
بين الوجه والمرآة
وهذا يدل على ذات لم تكتمل بعد، أو ترفض الاكتمال لأنه يعني التوقف.
سادساً: الديوان والوعي الجمعي – من الذاتي إلى الكوني
قصائد مثل:
«آخر قيامات الدم»
«الحقيقة لا تهدي تصفيقها»
«المجاز آخر من غادر الحرب»
تنقل النص من الذاتي إلى الجرح الجمعي، من الحزن الفردي إلى الأسئلة الكبرى:
الحرب
الشهادة
الخديعة
اللغة نفسها كأداة نجاة أو خيانة
الشاعرة هنا لا تدّعي امتلاك الحقيقة، بل تكشف عجز اللغة أمام الخراب، ومع ذلك تكتب.
خاتمة: الديوان كبيان شعري وجودي
يمكن القول إن «ريما وقصائد أخرى» ليس ديوانًا يُقرأ، بل يُعاش.
هو نصّ:
ضد الاطمئنان
ضد الاكتمال
ضد الاستهلاك
ديوان يؤمن أن:
اللغة لا تشفي، لكنها تمنحنا اسمًا آخر للألم.
إنه عمل شعري ناضج، ينتمي إلى شعر ما بعد الفاجعة، حيث لا خلاص، لكن هناك صوتًا…
والصوت، في النهاية، هو آخر ما يملكه الإنسان.
إذا رغبت، أستطيع:
تحويل هذه الدراسة إلى بحث أكاديمي للنشر
إضافة مراجع نظرية (غادامير، ريكور، باشلار، يونغ…)
أو إعداد قراءة مقارنة مع دواوين عربية معاصرة مشابهة
فقط أخبرني بالاتجاه الذي تريده.
خاتمة
يخلص هذا التحليل إلى أن ديوان «ريما وقصائد أخرى – أنا الخيط الذي أصبح وترًا» للشاعرة ريما سليمان حمزة لا يُقارب بوصفه مجموعة نصوص شعرية مستقلة، بل ككيان دلالي متماسك تتوالد قصائده من جرح واحد تتعدّد أصواته وتجلياته. فالقصيدة في هذا العمل ليست غاية جمالية مكتفية بذاتها، وإنما مسار وجودي تتشكّل فيه الذات عبر اللغة، وتُعاد فيه صياغة الألم بوصفه طاقة صوتية لا صمتًا معطِّلًا. ومن هنا، يغدو التحوّل من «الخيط» إلى «الوتر» استعارة مركزية لمسار تشكّل الذات: من الهشاشة إلى الرنين، ومن التمزّق إلى القدرة على الإيحاء.
لقد كشفت القراءة الهيرمينوطيقية والأسلوبية والرمزية والنفسية أن الديوان يشتغل على تفكيك المعنى الجاهز، وخلخلة العلاقة التقليدية بين الدال والمدلول، ليقيم شعرية قوامها القلق، والانزياح، والاقتصاد اللغوي المكثف. كما يتبدّى أن الأنثى، والمدينة، والجسد، والذاكرة، ليست ثيمات منفصلة، بل علامات متداخلة في بنية رمزية واحدة، تتحوّل فيها التجربة الفردية إلى مرآة لجرح إنساني أوسع، يتجاوز حدود الزمان والمكان.
وعليه، يمكن القول إن هذا الديوان يندرج ضمن الكتابة الشعرية التي لا تسعى إلى التطمين أو المصالحة السهلة مع العالم، بل إلى مساءلته وتعريته عبر لغة واعية بحدودها وعجزها، لكنها مع ذلك تُصرّ على الكلام. فالشعر هنا لا يعد بالخلاص، لكنه يمنح الصوت، ولا يداوي الفقد، لكنه يسميه. وفي هذا التسمية بالذات تتجلّى قيمة الديوان، بوصفه نصًا شعريًا يراهن على المعنى لا باعتباره حقيقة مكتملة، بل بوصفه إمكانية مفتوحة، وعلى الكتابة لا كترف جمالي، بل كفعل مقاومة ووجود.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين







