قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: دراسة نقدية لقصيدة "نَضَيْتُ ثِقالَ الكُدَى"
للشاعرة التونسية هادية السالمي دجبي
قصيدة «نَضَيْتُ ثِقالَ الكُدَى» تُشخص تجربة وجودية/ وجدانية تتوسّل عناصر الطبيعة لتعيد ترتيب الذات في مواجهة الغياب والوحشة. تهدف هذه الدراسة إلى فكّ طلاسم النص عبر مناهج هيرمينوطيقية تأويلية، أسلوبية، رمزية، جمالية ووطنية، ثم تطبيق منظور غريماس السيميائي لاستخراج محاور الأدوار، وقراءة مستويات: الانفعالي، التخيّلي، العضوي، اللغوي. النبرة تقوم على قراءة متن–سياق: ما تقول القصيدة وما تُشي به خلف الألفاظ (ما تحت الجلد الشعري).
قراءة تأويلية مبدئية (المنظور الهيرمينوطيقي):
1. الأفق المقروء/ الظاهري: تكرار «كأنّ» كفعل تمثل، يدخل النص في فضاء رؤيويّ-نصُّ الرؤية والخيال، يتكوّن من صور متداخلة: السراب، السحب، الرّمل، النخيل، المرايا.
2. الأفق المُتوقع/ الوديعي: النص يسعى إلى تجميع الذات المشتتة («لِيَجمعني»، «لِيَعْتِقَني»)؛ هناك رغبة في الاعتناق/ الاعتِق، في استعادة لغة الأمان والسكن.
3. الدلالة العميقة: الغياب ليس فقط فقدان شخص بل حالة حضارية/ وجودية. الصور الطبيعية تعمل كأدوات شفاء/ تطهير ولكنها أيضاً تنطوي على تهديد (السراب، دخان الماء). القراءة الهيرمينوطيقية تكشف صراع قراءة النص لذاتها: بناء/ هدم، حضن/ طرد.
تحليل أسلوبي - أدوات الشعر والخطاب:
١- التركيب النحوي: اتكاء على الجمل الاسمية والتوكيد (وإنّي)، مما يمنح النص رهبة وتكثيفًا.
٢- التكرار والأنفرا: «كأنّ» تتكرّر كإيقاع مركزي يخلق حالة من الترنّح بين اليقين والخيال؛ التكرار يعمل كـ refrain مدوٍّ يعيد قراءة الصورة في أوضاع مختلفة.
٣- الاستعارة المركبة: «نَضَيْتُ ثِقالَ الكُدَى» استعارة مركبة: النضْوُ فعل يمتدح الثقل/ الزخارف الحزينة (الكُدَى) كحمل شعري.
٤- التصوير الحسي/ السمعي: «صهيل السّراب»، «همْسُ التّراب شهيق شريد»، توظيف أحاسيس متعددة لجعل الغياب ملموسًا.
٥- للغة الصوتية: وجود تواشجات صوتية (ش، س، ر) تمنح الإيقاع ملامسًا حادًّا وناهيكًا عن تعتمد على الطبقات الصامتة للّغة لتكثيف الشعور بالانهدام.
- البُنى الرمزية والدلالية:
١- السراب: رمز للهروب/ الوهم والمأوى في آن، يُحضِر الأمل لكنه لا يفي.
٢- الكروم/ النخيل/ المرايا: عناصر تزاوج بين الخصوبة والهوية والانكسار؛ المرايا رمز للذات والانعكاس الذي لا يجتمع بسهولة («أرْتق وجه المرايا بجفني لِيَجمعني»).
٣- الدخان/ المداخن: عنصر مفارق؛ دخان الماء سقفٌ - استعارة للغموض والاختفاء، ولأحقاب من التلوث الوجداني.
٤- الباشق/ الذئب: صور مفترسة أو مُرَوِّعة تُشير إلى قوى اجتماعية/ سياسية/ ثقافية تحكم الحكم على الذات: «و قلتُم: نراك غَوِيّا...».
قراءة سيميائية: تطبيق نموذج غريماس:
(نصّغ الأدوار لاستخراج محاور الاشتغال الدرامي داخل النص)
١- الفاعل: الصوت الشاعري/ الذات الساردة («وإنّي...») - يسعى إلى جمع ذاته وإعادة الاعتِق.
٢- المفعول/ الهدف: «جمعي/ اعتِقادي/ النبع الضوئي للكروم» - تحقيق التعافي والالتئام الوجودي.
٣- المرسل: الغياب/ القدَر/ الواقع القاسي (يحث الشاعرة على الفعل).
٤- المتلقي: الذات نفسها والجمهور/ الأرض («أبحث عنكم»؛ «يا أرضُ!») - قد يتطابق المرسل والمتلقي في مستوى تجارب المجتمع.
٥- الناصر: عناصر الطبيعة (الكروم، النخيل، المرايا، الأوتار، الفرس) - تقدم وسائل للتعافي.
٦- المعوق: السراب، الدخان، الحشود، «النداءات» (النقِيق) - قوى تمنع الالتئام.
منطق غريماس: القصيدة تتحرّك كسردية وظائفية؛ البطلة/ الصوت يخوض سلسلة محاولات (زراعة، غرس، اعتِق) تُقابَل بعقبات (سراب، نقِيق) وتستعين بعون/ رموز الطبيعة لتقريب الهدف.
قراءة في الأنساق المعرفية (معرفيّات النص):
١- معرفة رمزية/ أسطورية: النص يستدعي مفاهيم الطقس والطقوس (التعميد، النتج عن الأيدي على الطين، أسرجة الفرس) - ذاكرة طقسية تُستخدم كآليات لخلق المعنى.
٢- معرفة نفسية: بنى الحزن والحنين والاندفاع نحو الذات بوصفها الكائن الجريح.
٣- معرفة مجتمعية/ وطنية: إشارات إلى الأرض، الحشود، الباشق، ونداءات الجماعة تفتح النص على قراءات عن الانتماء الوطني أو التجربة الجماعية للنهب/ الغياب.
تحليل المستويات (مقارنة متعددة المستويات):
1. المستوى الانفعالي (العاطفي):
١- طيف المشاعر: من الألم والحنين إلى الإصرار على العمل (غرس، اقتلاع، اعتِق).
٢- اللغة الانفعالية مكثفة: أدوات توصيح الذات (وإنّي)، خطاب مباشر/ مخاطبة («أيا أرض!») مما يثير تواصلًا حادًّا مع القارئ.
2. المستوى التخييلي (الخيالي/ التصويري):
١- فضاءات رؤيوية (سراب، دخان الماء) تنتج صورًا متحولة متداخلة؛ القصيدة أقرب إلى مشهد سينمائي وجيبي للرؤى.
٢- التخييل ليس هروبًا فقط بل تقنية لإعادة تشكيل الواقع.
3. المستوى العضوي (الجسدي/ الحسي):
الجسد والملامسة حاضران: أيادي تُوقد، جفن يرتق، أقدام/ أحذية تُهجّر. الجسد كوسيط بين الذات والطبيعة/ الآخر.
الإحساس الملموسي يعزز مصداقية الألم والبحث عن الشفاء.
4. المستوى اللغوي (البلاغي):
استعارات مركبة، توظيف متقن للتكرار والوزن الموسيقي الداخلي، ونبرة تأملية-قصصية.
المفردات ترتكز على دالّات حمولة ثقافية (كروم، نخيل، بشْر، باشق)، مما يربط اللغة بالتراث المحلي/ الوطني.
تفسير مفردات محورية (نماذج قصيرة):
١- نَضَى: فعل يشي بالحمل والنسج والعمل اليدوي؛ هنا يحيل على حمولة عاطفية ثقالها الوجداني.
٢- الكُدَى: الحزن العميق أو البؤس؛ تركيب «ثِقالَ الكُدَى» إشارة إلى أن الحزن ثقلٌ ينبغي حمله/ إعادة توجيهه.
٣- صهيل السراب: تركيب مفارق؛ الصهيل صوت الخيل ومصدر القوة، لكنه هنا تابع للسراب، أي قوة وهمية.
٤- دَخَنُ الماء: صورة مفارقة؛ الماء، رمز الحياة، يتحول إلى دخان يغطّي - إشارة إلى تلوّث أو فقدان الشفافية الروحية.
القراءة الوطنية/ السياقية:
القصيدة، مع إشاراتها إلى الأرض والحشود والباشق، تسمح بقراءة تربط الفرد بالجماعة/ الوطن: هناك إحساس بجسدٍ وطني مجروح يتحدث عبر التجربة الحميمية. يُقترح قراءة محلية (تونسية) تستحضر ذاكرات الاستعمار/ التحولات الاجتماعية إنْ رغب الباحث في توسيع ذلك، مع مراعاة عدم فرض دلالات سياسية لا تبرهن عليها نصوص أخرى.
مسار منهجي لدراسة قصيدة «نَضَيْتُ ثِقالَ الكُدَى» للشاعرة التونسية هادية السالمي دجبي:
1. مدخل: المنهجية والأطر النظرية (هيرمينوطيقا، أسلوبية، غريماس).
2. قراءة مقاربة سطريّة لكل مقطع/ بيت.
3. التحليل الأسلوبي والبلاغي (إيقاع، صور، تكرار).
4. السيميائيات التطبيقية: مخطط غريماس وتبعاته.
5. البنيات الرمزية والدينية والنفسية.
6. مستويات المقارنة: انفعالي/ تخيّلي/ عضوي/ لغوي.
7. الإطار الوطني/ الاجتماعي.
8. الخاتمة: ما تحت الجلد الشعري-إعادة تركيب المسائل المفتوحة.
خاتمة:
قصيدة «نَضَيْتُ ثِقالَ الكُدَى» عمل كثيف يناور بين الخيال والوجدان والرمز؛ صوتٌ ساعٍ إلى استرداد أمانه عبر طقوس لغوية وصور طبيعية. تطبيق منهج هيرمينوطيقي/ أسلوبي/ سيميائي يُمكن أن يكشف طبقات متعددة من «ما تحت الجلد»؛ من ألم فردي إلى مرآة لمآلات مجتمعية. الدراسة المقترحة توفر خطة تحليلية قابلة للتنفيذ وتنتج نتائج معرفية قابلة للنشر الأكاديمي إذا ما أُرفِقَت بمقارنة نصّية ونصوص مرجعية.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين






