قراءات نقدية
حمام محمد: دراسة نقدية تحليلية موسعة لقصيدة "كأنّكِ مريم" للشاعرة هادية السالمي
قداسة القرب والطهر في الشعر الصوفي المعاصر.. قصيدة كأنك مريم للشاعرة التونسية السالمي هادية
- سيمائية السواد وطقوس الطهارة في روح القصيدة
حين تمتزجُ القداسةُ بالطهارةِ في النفسِ الهادئة، التي تُدرك أنَّ ربَّها على قُربٍ يَرى ويَنظر ويَسمع، وتعي هي أنّ قربَه نعمةٌ لا تُحصى، كلُّها قداسة… ما أجمل المرأ، وما أجمله من سياقٍ حين يَتهاوى الغريقُ في وسط الطهارة، تلك هي النفسُ يأتيها خبيرُها فتتّعظ، وتتملّك الصراحةَ والحقيقة.
الشاعرة السالمي هادية توغّلت بنا في القُرب، وبنتْ من سياقها الروحاني لحظةَ بوحٍ في سماءٍ صوفيةٍ غارقةٍ في البحثّ داخل أرخَبيلٍ مُقدَّس، فزرعتْ توبةً ضافيةً في قلوبنا.
- سيمائيةُ السواد وطُهرُ البياض
أغرقتِ الحمامةُ بالعطر الأسود كالمسك، لتُعبّر عن كآبةٍ بشريةٍ غطاها السواد. وفي مُوغِل القدم كانت الكآبةُ كاللّيلِ المُدلهم، لها صولاتٌ في الفزع والضياع، وتلك لحظاتٌ يعيشها الكائنُ القنوطُ حين تُربكه الطوارئُ طيلةَ حينٍ من الدهر، رغم وجود البصيص كنوافذ مُشرعة، وروائح القديد المنتصبة على المناضد، ولمّا يكون الذبابُ محلَّ العقد، تُزهر الكآبةُ في ظهورها غير نادمةٍ على ما يفعله العباد. الليل يستطيل، والتوبة مفتوحةٌ في خلجاته، والناس يعبثون، والحمامةُ تريد أن تخرج من النوافذ المشرعة، العطريةُ هنا جميلةٌ في استعاراتها ومحسّناتها البديعية التي اختارتْها الشاعرةُ بحكمةٍ تُشبه هندسةً مُروَّضةً من الواقع، ولا سيّما حين يلوذ البابُ قَسْريًا على هوى ورقِ التوت.
السياقُ لفتةٌ رائعةٌ لا يعيها إلا متمرّسٌ وشاعر، وانجذابٌ إلى رومانسية الشكل، وأكله نباتي… فما أروع التوت حين يُنافس لونَ الرمّان. وما الرمان؟! ما فرّقتْ بينهما إلا هوًى لونيّ من مدوّنةٍ لونيّة لا تريد أن تنزوِي في مكانٍ ضيّق عند الشاعر، مما يفسحُ المجال لتوليد تناصٍّ وشكلانية لمدوّنة اللون المعطّر، تأمّلْ قولَها، واربطْ ثنايا ما قلتُ، تأتيك اللمحةُ إلى جمال البوح وعجائبية اللون:
معطَّرةٌ بالسّواد
أكُفُّ الحمامِ وأجنُحُها.
وموغلةٌ في القتامةِ
أيدي الضباعِ وأعيُنُها.
وهذي النوافذُ
أترعَها ورقُ الليلِ والوجلُ.
وهذي المناضدُ
نضّتْ قرابينها،
وبين المجامرِ
ألقتْ عناوينَها.
تداعى الذبابُ إليها
يلوكُ غبارَ الفتاتِ على جمرِها.
عليها هوى ورقِ التوتِ لمّا ذوى.**
- بياضُ الطهر في قصص الأنبياء**
أمسكتِ الشاعرةُ الموهوبةُ بمَعدنٍ دينيٍّ تاريخيٍّ قصصي، وأسقطتْ وقعَ الوقوعِ على شخوصٍ طاهرةٍ كمريم وزكريّا، لتبني سياقَ القُرب باستعمال أداة التشبيه "الكاف" التي فتحتْ قصصَ الطهر، وفَسّرتْ ألمَ مريم الذي لم تَمنعْها طهارتُها من الإحساس به، هو ألمٌ فِطريّ في الكائن، من عدلِ الله تعالى. رمتْ داخل الحِصن البريء عدلًا إلهيًا يصفُ الألمَ الذي تُعانيه المرأةُ من مخاض الولادة، أو ألم الحرقة على الذرية… هي آلامٌ أوصلتها الشاعرةُ بأسلوب المحاكاة إلى عين يقين القارئ، يقينٌ غيرُ منفصلٍ عن الطهر الفضيل، واستحضرتِ الشاعرةُ "كعبَ أخيل": أمٌّ غمستْه في بركةٍ مقدّسة، لكنها أمسكتْ بكعب رجليه، فصار الضعفُ موضعَ الألم، وصار ألمُ الضعف من أعظم الآلام، كلُّ أنثى لها مَسامُّ ضعفٍ إذا انطلقتْ منها لتُبعدها اكتستْ بالعظمة. هنا نقيس المخيالَ الشعريّ عند الشاعرة الهادي… انظرْ قولَها مرّة أخرى، واكتشفْ بنفسك ضعفَ الأنثى وانطلاقتها من جديد. ولم تمنع الوقاوق والعناكب من الانتباه لكشف مواطن الضعف.
معطّرةٌ بالسوادِ
أكفُّ الحمامِ وأجنحُها.
وموغلةٌ في الخواءِ
مآقي السماءِ وأضلعُها.
وكعبُ "أخيل"
بها تتلهّى الوقاوقُ والعنكبُ.
وأنتِ هنا
يتجرّعُ وجهُكِ
زرقةَ بدرٍ ينامُ على القرفِ.
خرجتْ من الضعف، ولو لم تهُزّ بجذع النخلة لما تساقط الرُّطب، ولما تقوّتْ… ففازتْ بالقرب، وكلّمتْ العناكبَ صغيرَها الذي أرسل السلامَ وبشّر أمَّه بميلادٍ جديد، وبرِّ والدته.
فكانت الهيمنةُ الثقافيةُ الدينيةُ موعدًا لتغليب طهارةِ الموضوع المتداول. ما تبقّى هو توليدٌ لمأساةِ الإحساس بالضعف، وفرحةٌ بالتشبّث باليقين… بالقرب تتبدّد الأشياء، وتنمحي من الأرض كانقراض برج هامان، ومعه الأسباب.
**كأنّكِ مريمُ
تكتبُ شوقَ النخيلِ بطهرِ اليدِ،
وتغرسُ في الطينِ
مُضغةَ حرفٍ
ينِزُّ ضياءً على الخزفِ…
وتسألُ عن زكريّا نخلتَها،
وتسألُ عنه جداولَ
يمتشقُ العنكبوتُ منابعَها.
كأنّكِ أختٌ لهارونَ
تنأى بغصّتها.
ترتّبُ أنفاسُها جُمَلَ النصِّ
في المُقَلِ.
وينضو بأجراسِها
صدأُ النَّضدِ.
ومن خَطوِها
يتدفّقُ ماءُ الأساطير
في النُّجُدِ…**
- المقومات الدينية والاسطورية في قصيدة كأنك مريم
كانت الشاعرةُ ذكيّةً في استعمال المقوّم القرآني والمقوّم الأسطوري، ومزجتهما دون مغالاة، لتُبرهن أن الشاعرة هادية السالمي قدّمت منعطفًا وصفيًا قوامُه امرأةٌ شدّتها أسطورةُ أخيل، ووضّحتْ فيها ضعفَ المرأة ولو بلغتْ مقامَ قدّيسةٍ كمريم عنوانًا لقصيدتها، اعتبارًا لما تقوم به المرأة من مقاومةٍ أسطورية للخروج من الكآبة، جسّدت الشاعرةُ عدّة أدوات منها:
– قداسةُ الصورة:
قطعتْ صورةَ المرأة كقدّيسة أو أمّ أخيل، وهي نظرةٌ تقابلية بين صيغتين استمرّتا في متتالياتٍ سينمائيةٍ جعلت القارئ يشعر أنه يشاهد فيلمًا عن صراع الأسطورة والقداسة، وقد وضعتْ في ذلك متتاليات: الجمر، الخواء، الخزف…
– الترابط النصي:
اعتمدت الشاعرةُ في بوحها المعطّر على التكرار المتجانس "معطّرة بالسواد"، واستشهدت قرآنيًا، مما جعل قراءة النص مستحبّة حتى لمن لا يميلون إلى قصيدة النثر، أقحمت رمزيّاتٍ كثيرة في بنية خطابها: مريم البتول، الألم، زكريا، الطهر، الذباب، الخواء، الماء، بدر، ماء الأساطير…
وكان توفيقها بارزًا في الأسلوب التركيبي الجميل الذي لم يُغَيّب الوضعَ العام الذي تحياه الأنثى، بقولها:"الطُّهرُ لا يُكافَأ بل يُستنزَف".
أ. د. حمام محمد من الجزائر
..........................
كأنّكِ مريم
معطّرَةٌ بالسّواد
أكُفُّ الحمام وأجنُحُها.
و مُوغِلةٌ في القتامةِ
أيْدي الضِّباعِ وأعيُنُها.
و هذي النّوافذُ
أتْرعَها وَرَقُ اللّيلِ والْوَجَلُ.
و هذي المناضدُ
نَضَّتْ قَرَابِينَها،
و بين الْمَجامِرِ
ألْقَتْ عناوينها.
تَداعَى الذّبابُ إليها
يَلُوكُ غُبارَ الْفُتاتِ على جمْرِها.
عليها هَوَى وَرَقُ التُّوتِ لمّا ذَوَى.
**
مُعَطَّرَةٌ بالسَّوادِ
أكُفُّ الْحَمامِ وأَجْنُحُها.
و مُوغِلةٌ في الْخَواءِ
مَآقي السّماءِ وأَضْلُعُها.
و كَعْبُ " أَخِيلَ "
بها تَتَلَهّى الْوَقَاوِقُ والْعَنْكَبُ.
*
و أنتِ هنا
يتَجَرَّعُ وجهُكِ
زرقَةَ بَدْرٍ ينامُ على الْقَرَفِ.
كأنّكِ مريمُ
تكتُبُ شوْقَ النَّخِيلِ بِطُهْرِ الْيَدِ ،
و تغرِسُ في الطّينِ
مُضْغَةَ حَرْفٍ
يَنِزُّ ضياءً على الْخَزَفِ…
و تسألُ عن زكرِيَّاءَ نخلَتَها،
و تسألُ عنه جداولَ
يَمْتَشِقُ الْعنكبُوتُ منابِعَها.
*
كأنّكِ أختٌ لِهارونَ
تَنْأَى بِغُصَّتِها.
تُرَتِّبُ أنْفاسُها جُمَلَ النَّصِّ
في الْمُقَلِ.
و يَنْضُو بأَجْراسِها
صَدَأُ النَّضَدِ.
و مِنْ خَطْوِها
يتدَفَّقُ ماءُ الأساطير
في النُّجُدِ…
***
بقلمي: هادية السالمي دجبي - تونس






