قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية تحليلية موسّعة لنصّ خلدون رحمة «القلب أنثى»

يقدّم نصّ «القلب أنثى» للشاعر والناثر خلدون عماد رحمة بنية لغوية مركّبة تتجلّى فيها الشعرية السردية بوصفها طقساً جماليّاً يندمج فيه العاطفي بالميتافيزيقي، والحسّي بالرمزي، والباطن بالظاهر. إنّه نصّ لا يُقرأ من سطحه، لأن بنيته الخطابية مشبعة بالاستعارات الكونية، وبقع النور والعتمة، والتوتر الوجداني الذي يجعل العلامة اللغوية تتجاوز وظيفتها المرجعية نحو وظيفة أنطولوجية تكشف عن تهافت الجسد وتجلّي الروح في لحظات الحب، والانخطاف، والانكسار.

ومن منظور الهرمينوطيقا التأويلية، يمكن القول إنّ النص ينهض على شبكة من الرموز والدلالات المفتوحة التي تستدعي قارئاً متورّطاً في إنتاج المعنى؛ فالحب هنا ليس تجربة انفعالية بل هو أفق وجودي، يشبه ما تحدّث عنه بعض التقاد عن «قفزة الروح في محنة الشغف»، وما أشار إليه البعض الآخر من النقاد حين أكدوا  أنّ الرمز يفجّر التأويل ولا يكتفي بالإحالة.

أمّا من منظور الأسلوبية، فالنص يشتغل على لغة فائقة الحساسية، تتوزّع فيها الحقول الدلالية بين الطيران والماء والانخطاف والسقوط. وهذا التوتّر الحركي يشكّل إيقاعاً داخلياً يحرّك الصور الشعرية ويكثّف جرسها، فيتحوّل القارئ من مجرّد متلقٍّ إلى مشارك في الانفعال. أما الجملة الشعرية فيه فتتراوح بين امتدادٍ انسيابيّ يحاكي تدفّق الماء، وبين انقطاع مباغت يماثل سقوط الحبيبة/الآلهة، وهو قطعٌ يذكّر بالأسلوب الحدّي عند عند النقاد الغربيين حيث تتحوّل اللغة إلى موقع صدمة.

وفي التحليل الرمزي والديني والنفسي، يظهر النص بوصفه سرداً روحياً لعلاقة متعالية: الحبيبة ليست امرأة، بل «إلهة الجمال»، والراوي ليس عاشقاً بل «متصوّف» يعيش تجربة الحلول والانخطاف. العلاقة بينهما تأخذ هيئة «العشق الصوفي» الذي وصفه ابن عربي والحلاج: الفناء في الآخر، وانصهار الوعي بالجنون، والبحث عن الخلاص عبر الجسد والدمع والماء. لذلك لا يكون سقوط الحبيبة حادثة جسدية فحسب، بل رمزاً لسقوط المعنى نفسه، وامّحاء الصورة المقدّسة، وانكسار وهم الخلود العاطفي.

وتتيح السيميائيات الغريماسية قراءة النص باعتباره بنية فاعلية تتوزّع على محاور أدوار متشابكة:

١- الفاعل: العاشق السارد.

٢- المفعول: الحبيبة/الآلهة بوصفها موضوع رغبة ومعنى.

٣- المرسِل: الحاجة الوجودية للعشق والانخطاف، أي الدافع الروحي الداخلي.

٤- المرسَل إليه: الذات الباحثة عن الخلاص أو التجلّي.

٥- المساعد: الماء، الجسد، الضوء، الطيران، اللغة.

٦- المعطِّل: السقوط، الفقد، الغياب، النزيف.

هكذا يتكشّف النص عن صراع وجودي عميق بين الرغبة في إدامة المعنى، وبين انهيار الصورة المقدّسة، لينتهي العاشق إلى اكتشاف أن «القلب أنثى»، أي أن جوهر التجربة الوجودية قائم على الهشاشة، الخصب، القابلية للانكسار، والقدرة على الولادة المستمرة. وهو معنى يقترب من رؤية نيتشه عن «الهشاشة الخلّاقة»، ومن نظرية بيرغسون في الإحساس بوصفه اندفاعاً حيوياً لا يكتمل إلا بالتجلّي والتفتّح.

وعلى المستوى الجمالي والوطني والأنثروبولوجي، يقدّم النص صورة عن الإنسان العربي في توتّره بين قداسة العاطفة وعبء الواقع؛ بين الرغبة في التحليق وبين السقوط في الطين. فالنهر رمزٌ للانبعاث والحداثة، وفي الوقت ذاته رمزٌ للجرح المفتوح الذي يصطبغ بـ«الدم الكرزي»، أي بدم القلب ذاته، لتغدو الجغرافيا مرآة الوجدان.

هذه الدراسة ستسعى إلى:

1. تفكيك البنى الرمزية والدلالية.

2. تحليل اللغة والأسلوب والصورة.

3. تفسير المفردات ذات العمق النفسي والديني.

4. تطبيق منهج غريماس لاستخراج المحاور الفاعلة.

5. قراءة النص في ضوء آراء الفلاسفة والمتصوّفة.

6. الكشف عن الأنساق المعرفية التي يبنيها النص: النسق العشقي، النسق الصوفي، النسق الوجودي، والنسق الجمالي.

خاتمة:

يتبدّى نصّ خلدون عماد رحمة «القلب أنثى» في ضوء تحليلنا المتعدّد المناهج بوصفه تجربةً شعرية وجودية تتجاوز حدود القول العاطفي إلى أفق معرفي وجمالي بالغ التعقيد، حيث تنصهر الأزمنة الداخلية للذات مع جغرافيا العشق، ويتحوّل الجسد إلى موضع تأويل، واللغة إلى كيان يتنفّس ويتوتّر وينكسر. لقد كشف التحليل الهيرمينوطيقي أنّ النص لا يُقرأ إلا كطبقات متراكبة؛ فكل جملة تخفي معنى، وكل صورة تفتح باباً للقراءة، وكل رمز يشكّل مرآة لأعماقٍ لم تُقل.

أما التحليل الأسلوبي والرمزي فأبرز أن الشاعر يكتب بلغةٍ محمّلة بالنبض والتوتّر، لغة تتأرجح بين صفاء الماء وعنف السقوط، بين نشوة الالتحام ورعب الفقد، محقّقاً ما يشبه «موسيقى داخلية» تتنقّل بين الرقة والتوحّش. وبيّن المنهج السيميائي—وخاصة مخطط غريماس—أن النص يقوم على بنية فاعلية تتصارع فيها الرغبة والغياب، الحضور والانطفاء، ليغدو العاشق فاعلاً يبحث عن معنى يهرب منه كلما اقترب، وتغدو الحبيبة موضوعاً تخلقه اللغة ويتلاشى في واقع الفقد.

وعلى المستوى النفسي والديني، تكشف هذه التجربة عن مسارٍ صوفيّ يتقدّم بالعاشق نحو تخوم الفناء، حيث تتبدّل الحبيبة من كيان محسوس إلى رمز كوني، ومن امرأة إلى «آلهة الجمال»؛ وبذلك ينفتح النص على الإرث العرفاني العربي، وعلى رؤى الحلاج وابن عربي في العشق بوصفه طريقاً للخلاص. كما يقدّم النص في عمقه رؤية فلسفية تتقاطع مع نيتشه وكيركغارد وباشلار: فالحب هنا ليس حالة وجدانية فحسب، بل تجربة وجودية تُبنى بالجرح، وتكتمل بالسقوط، وتُتوَّج بإدراك هشاشة القلب وخصوبته في آن.

لقد أظهر النص أن القلب أنثى ليس خاتمةً بل افتتاحية؛ فهو إعلان عن أن جوهر الإنسان — في الحب كما في الوجود — قائم على القابلية للعطاء والجرح معاً، على الاتساع والارتباك، على الرغبة في الخلود في حضن اللحظة، وعلى الوعي بأن كل جمالٍ مهدّد بالسقوط. بهذا تتجلّى القصيدة بوصفها بحثاً عن معنى لا يستقر، وسرداً لجمال يولد من صدمة، وحقيقة تتجسّد حين يتدفّق الدم الكرزيّ على ضفاف النهر، فيغدو النهر مرآةً لقلبٍ ينزف، وقلبٌ ينزف مرآةً للكون كله.

وهكذا، يمكن القول إن «القلب أنثى» نصٌّ يبرق في حدوده الجمالية والرمزية بما يكفي ليمنح القارئ أكثر من قراءة، وأكثر من تأويل، وأكثر من جرح جميل يظلّ يلمع في الذاكرة كلّما انفتحت القصيدة على سؤالها الوجودي الأكبر:

أين يبدأ القلب؟ وأين يسقط؟ وأين—في النهاية—يعثر على ذاته؟

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...................

بخفّة طائرَينِ أزرقَينِ كنّا نلوّنُ وحشةَ

الشاعر والناثر خلدون عماد رحمة

بخفّة طائرَينِ أزرقَينِ كنّا نلوّنُ وحشةَ الطرقات. قلتُ لكِ وخمرُ الحبور يطفح على قلبي: اقتربي منّي أكثرَ لأجعل روحي قميصاً لعريِ هذا الكون، ابتسمتِ بنعومةٍ باهرةٍ وهمستِ فيّ: ما أعمقَ أسرارنا وما أخلدَ عناقنا الطويل عند حافة النهر.

أتأخذني حبيبي إلى النهر لأعمّدَ قلبي بدمع عينيك، أم لأكتشفَ سرّ أنوثتي بين تدفّق الماﺀ وعطش الشهوة في منفى يديك ؟..

أضع يدي بهدوﺀٍ على قوسِ خصرها، أبتكرُ كلاماً غامضَ التكوين والتجلّي: يا حبيبتي أنتِ آلهتي التي أعبُدُ، حُبّكِ ديني وديدني وبرزخ نشوري وفنائي، أنتِ التباسُ الجمال بالرؤيا وانصهارُ الوعي بالجنون واغترابُ الروح بالجسدْ.

كنتُ أتصوّفُ بهالة روحها وأشطحُ، كنتُ أتعشّقُ بسماﺀات عينيها الكونيّتين حدّ التبخّر والفناﺀ.

فجأةً وبلا أيّ مقدمةٍ.. سَقَطَتْ على الأرض، سَقَطَتْ آلهة الجمال حبيبتي بكامل أنوثتها، سقطت كما تسقطُ غزالة عطشى في فخاخ السراب، لا أصدّق ما أرى: وجهها المرمريّ الشفّاف ارتطمَ بحافّة الرصيف، شيﺀ ما انكسرَ والدّمُ الكرزيّ يتدفّق من أنفها الصغير كتدفّق النهر، فستانها السماويّ تعفّر بالغبار وتمزّق من صرخة ذهولي، يا إلهي، كل ارتباك الكون دبّ في كياني كأني مفخخ بأطنانٍ من البارود.

حملتها بجنونٍ وركضتُ، ركضتُ بلا وعيٍ مثل ظبيٍ فتيّ يسابق الشعاع في براري البعيد،ركضتُ بها إلى ما لستُ أعرفُ وكأنّ الجهاتَ تموّهت بالجهاتِ، بعد مسافةِ خوفٍ وتعبٍ وهذيانٍ وجدْتُنِي عند حافة النهر وحيداً، لم تكُ بين يديّ،

لم أجد حبيبتيَ المغمى عليها بين يديّ

لم أجد سوى قلبي بين يديّ

قلبي الذي ينزفُ دماً كرزياً ويصبغ النهر بالأحمر.

حينها آمنتُ أنّ القلبَ أنثى.

القلبُ أنثى...

 

في المثقف اليوم