قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية تحليلية موسّعة لقصيدة “صلاة في محراب الثورة

للشاعرة نادية نواصر "ورّاقة الجزائر"

استطاعت الشاعرة الجزائرية ناديا نواصر ان تكتب القصيدة كطقس وطنيّ يتجاوز حدود الشعر. فهي تحضر قصيدة "صلاة في محراب الثورة" بوصفها نصاً طقوسياً قبل أن تكون نصاً شعرياً؛ طقساً تتداخل فيه اللغة بالروح، والذاكرة بالوجدان، والدين بالوطن. فالشاعرة لا تكتب شعراً وطنياً تقليدياً، بل تؤسس محراباً لغوياً تقف فيه مستقبلةً الماضي، مستنطقةً الحاضر، ومرسلةً نبوءةً للمستقبل.

هذه القصيدة ليست خطاباً وطنياً مباشراً، وإنما هي هذيانٌ جميلٌ تتكثف فيه الدلالات والرموز، وتلتقي فيه مستويات التعبير: الانفعالي، التخييلي، العضوي، النَفسي، الأسلوبي، السيميائي، والديني. لذلك فهي قابلة لقراءات متعددة، وفيها إمكانات هيرمينوطيقية كبيرة تسمح بتأويل لا ينتهي.

لقد جعلت الشاعرة نواصر " ورّاقة الجزائر" من الوطن معشوقاً، وأباً، وابناً، وطيفاً، وجرحاً، وقبلةً؛ أي جعلته كياناً وجودياً كاملاً، ما يعيدنا إلى رؤية العالم بوصفه "شبكة انتماء"، وإلى رؤية الحرية بوصفها "السكن في الذات من خلال الآخر". فالجزائر هنا ليست أرضاً فحسب، بل كيانٌ يحرس الشاعرة أكثر مما تحرسه.

أولاً: القراءة الهيرمينوطيقية – الوطن كمعنى يتجاوز لفظه:

القراءة التأويلية تكشف أن الشاعرة لا تقدّم الوطن كموضوع خارجي، بل كـ نصّ داخلي مقيم في الوجدان. من هنا ينبثق معنى الصلاة؛ فالصلاة في اللغة العربية أصلها "الصِّلة"، أي الارتباط. والارتباط هنا ليس عاطفياً فقط، بل وجودياً–قدرياً.

حين تقول:

“إليك يا وطني ابتهالاتي وصيحاتي”

فإنها تعيدنا إلى مفهوم "الابتهال" بوصفه خطاباً موجهاً إلى المطلق، ما يعني أن الوطن يصبح معادلاً للقدسي. وهذا يفتح الباب أمام تأويل ديني–وجودي: الوطن هنا محراب والمعركة صلاة، والشهداء أولياء، والذاكرة كتاب لا يسقط.

القصيدة تتحرك على محور مزدوج:

1. محور الذوات: الشاعرة ← الوطن

2. محور المقدّس: الثورة ← الشهادة ← التاريخ.

وفوق ذلك، لا تتعامل الشاعرة مع الوطن باعتباره كياناً جامداً، بل باعتباره كائناً جريحاً يحتاج إلى حماية، تقول:

“كي أخفيك يا غالي من الأحقاد والزلات والمنكر”

هنا يتحول الوطن إلى طفولة مهددة، والكاتبة تصبح أمّاً له. وفي مواضع أخرى، الوطن أبٌ يحمي، وعاشقٌ يحنّ، وابنٌ يُفتدى. هذه التحولات الرمزية تدلّ على أن الوطن في القصيدة تجربة شعورية معقّدة أكثر من كونه انتماءً سياسياً.

ثانياً: التحليل الأسلوبي – اللغة كأداة مقاومة:

تشتغل الشاعرة على لغة متوترة، حارّة، مشدودة، تُنتج شحنة انفعالية عالية.

لذلك يحضر الأسلوب على مستويين:

1. مستوى الإيقاع الداخلي:

يُبنى النص على:

- تكرار الضمائر: (أنا، إليك، يا وطني).

- تكرار الأفعال: (أعلنت، صليت، دعوت، سخّرت).

- توظيف بنى النداء: (يا وطني، يا غالي، يا بعضي، يا نصفي).

هذا التكرار ليس زخرفة، بل استراتيجية نفسية لإعادة تثبيت الانتماء كلحظة مستمرة، مما يمنح النص طابعاً أقرب للإنشاد الطقسي منه للخطاب الشعري.

2. مستوى الصورة الشعرية

الصورة هنا ليست وصفية بل مجازية–أسطورية:

١- الوطن = شجرة عنب وفلين وصندل.

٢- الشاعرة = سيف أبابيل.

٣- التاريخ = جميلات يعانقن الروح

٤- الوطن = وشم على جدران الأوردة.

هذه الصور تُدخل النص في فضاء أسطوري، حيث تتداخل الطبيعة بالدين بالتاريخ. إن “سيف الأبابيل” وحده يكشف عن تصعيد رمزي يستحضر القوة الإلهية في مواجهة الأعداء، مما يجعل الشاعرة “فاعلًا قدرياً” في بنية النص.

ثالثاً: التحليل السيميائي – الوطن كعلامة كبرى

في المنهج السيميائي، لا نقرأ الكلمات بل العلامات. وهنا نَعثر على منظومة رمزية كثيفة. وأبرز الدوال المركزية:

1. الوطن: يظهر في النص كعلامة مركّبة تجمع بين:

١- الأمومة

٢- الأنوثة

٣- الشهادة

٤-الحماية

٥- الابتلاء

٦- المجد

٧- الجرح

2. الشهادة: دالٌّ طقسيّ يرتبط بالفداء والقداسة والذاكرة الجماعية.

3. الريح / النزاعات / الخيانات:

دوالّ سلبية ترمز للقوى المدمّرة.

4. الصلاة / الركعات / الابتهال:

علامات دينية تصبغ الحرب بطابع القداسة.

5. الإيتام / الثكالى / الأجداد:

شبكة اجتماعية–تاريخية تحوّل الوطن إلى جسد حيّ يتكوّن من معاناة الجماعة.

بهذه المنظومة تُصبح القصيدة نصاً هويةً لا نصاً شعرياً.

رابعاً: تطبيق منهج غريماس – مربع الأدوار ومحاور الفعل

يُظهر النص بنية سيميائية واضحة، ويمكن تطبيق نموذج غريماس كما يلي:

١- الفاعل:

الشاعرة، بصفتها “أنا وطنية” تبحث عن تثبيت الوطن وحمايته.

٢- الموضوع:

حفظ الوطن من “الزلات، الخيانات، النزاعات، الوهن”.

٣- المرسل:

الذاكرة الوطنية – الثورة – الشهداء – التاريخ.

٤- المرسل إليه:

الجيل الجديد، المجتمع، الذات الشاعرة أيضاً.

٥- المساعد:

الإيمان، الثورة، الدموع العسيرة، الأجداد، ابن باديس، ابن مهيدي، الأمير عبد القادر.

٦- المعطِّل:

الأعداء، الخونة، النزاعات، الريح، الخيانات، المبدّدون للشعب.

بهذا يتحول النص إلى دراما وطنية كاملة البنية، فيها صراع وتوتر وتطهير (كاثارسيس)، ما يجعل القصيدة أقرب إلى عمل مسرحي داخلي يعيش داخل الشاعرة لا خارجه.

خامساً: التحليل النفسي – الوطن كجسد بديل عن الأم

في ضوء التحليل النفسي، يمكن القول إن الشاعرة تبني علاقة مع الوطن تقوم على:

1. الاندماج:

تقول:

“ويا بعضي ويا نصفي ويا كلي ويا أني”

وهذا يعكس حالة انصهار نفسي، حيث "الأنا" تذوب في "الوطن" حتى تختفي الثنائية.

2. التعويض:

الوطن يظهر كبديل عن الأم، خصوصاً مع حضور الرموز الأنثوية:

“سنابلكِ، الشهيدات، جميلات التاريخ”.

3. الفقد والجرح:

ثمة ألمٌ دفين يظهر في:

“ذبحوا من النسغ ربيع ورداتي”

ما يشير إلى صدمة جماعية تحملها الأجيال.

4. الشعور بالتهديد:

الإلحاح في حماية الوطن يدل على خوف داخلي من خسارته، وهو خوف تاريخي مبرر في الوعي الجزائري.

سادساً: التحليل الديني – الثورة بوصفها صلاة

المستوى الديني يتفاعل بقوة:

“صلاة”، “محراب”، “ركعات”، “دعوت الله”، “سيف الأبابيل”.

الثورة تتحول إلى عبادة، والشهادة إلى طهارة، والوطن إلى قبلة.

هذا يجعل القصيدة نصاً "إيمانياً وطنياً" لا ينفصل فيه الدين عن الأرض. وفي هذا كصدى

لفكرة بول ريكور عن "الرمز الذي يعطي للفكر أن يفكر"، فالرموز الدينية هنا تنقل المعنى الوطني إلى مستوى روحي.

سابعاً: التحليل الفلسفي – الوطن كوجود

يمكن قراءة القصيدة فلسفياً على عدة مستويات:

1. الوجود–في–العالم (هايدغر):

الوطن هو المجال الذي تتكشف فيه الذات، لذلك تقول الشاعرة:

“أنا المسكون بالوطن”.

2. الجسد الجماعي (ميرلو-بونتي):

الوطن يصبح امتداداً لجسد الشاعرة:

“يا وشما على جدران أوردة”.

3. الحرية والالتزام:

الثورة هنا ليست خياراً، بل التزاماً وجودياً، تقول:

“أنا إن غبت فقد سخرت أحفادي”.

4. الذاكرة والسلطة:

الشاعرة تقاوم عبر الذاكرة سلطة النسيان، وتحول القصيدة إلى آلية مقاومة معرفية.

ثامناً: القراءة الوطنية–التاريخية:

لا يمكن عزل القصيدة عن سياقها الجزائري:

ذكر الشهداء والزعماء.

استحضار الأمير عبد القادر كرمز تأسيسي.

استدعاء الثورة التحريرية، والبطولات النسائية.

حضور مفردات الذاكرة الوطنية: "الشهيدات، الثكالى، الأيتام".

القصيدة تنتمي إلى ما يسمى "شعر الذاكرة"، وتعيد إنتاج الوطن كمساحة مشتركة بين الماضي والحاضر، بين الثورة الكبرى وثورات اليوم.

خاتمة: القصيدة بوصفها مقصداً جمالياً وهوياتياً

تقدّم نادية نواصر " وراقة الجزائر" في "صلاة في محراب الثورة" عملاً شعرياً متعدّد الطبقات، يشتغل على اللغة بوصفها وطنًا آخر، وعلى الرموز بوصفها أوشاماً في الوعي الجماعي، وعلى التاريخ بوصفه روحاً تقيم في القصيدة.

لقد صنعت نصاً:

ذا بُعد هيرمينوطيقي تأويلي

- غنيّ بالصور

-:مشحون بالعاطفة الوطنية

- متخم بالرموز

- قائم على عمق نفسي

- مشغول ببنية سيميائية محكمة

- ومؤسس على رؤية فلسفية للانتماء.

ولذلك، فهذه القصيدة ليست مجرّد مدح للوطن، بل استعادة لروح الثورة الجزائرية في قالب جمالي، يجعل من الشعر صلاة، ومن الذاكرة مضاءً، ومن اللغة سلاحاً لا يصدأ.

إنها قصيدة تُصلّي، وتثور، وتغضب، وتحبّ، وتبكي…

ولكنها قبل كل شيء:

قصيدة لا تزال تقاتل من أجل أن يظل الوطن خطّاً أحمرَ لا يُمسّ.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

صلاة في محراب الثورة

شعر نادية نواصر

الإهداء: إليك يا دزاير الغالية

بلادي خط احمر

الى وطني ابتهالاتي

وصيحاتي

وأغنية من الصندل

واشجار من الفلين والعنب

وحب يثمر يكبر

وقلب من صقيع الفرو

كي اخفيك ياغالي

من الاحقاد والزلات والمنكر

ومن برد الشتاءات

ومن عصف الخيانات

ومن كل الذي قد يأتي

مطعونا

على كف النزاعات

اليك يا حبيب الروح نبضاتي

وشهقاتي

انا ان مت في العشق

فلا تقصص على الاعداء آهاتي

الى الشهداء

والزعماء

والايتام

والثكلى

انا اهديت ورداتي

وسخرت إلى النكبات أناتي

اذا ما الريح هزتك

انا اعلنت ثوراتي

وحرضت

عسير الدمع

ان يسقي جميع جميع ممراتي

الى الشهداء ياغالي

تحايانا

وفي محراب ثورتنا

انا صليت ركعاتي

دعوت الله ياحبا

عزى روحي

وعانقني

بتاريج الجميلات

انا المسكون بالوطن

ويا احلى ابتلاءاتي

انا المفتون بالامجاد والاجداد

وعبد القادر يشهد

وقد نادى غداة الصحو

ايا وطني

من الحب انا اترعت كاساتي

انا ان غبت يا ارض البطولات

فقد سخرت احفاذي

مساء الخير يا وطني

صباح الخير ياوطني

سلام حينما تزدهر

سنابلك

على ارض الشهيدات

سلام حين ما نقسم

باقوال المريدين

وأقوال المريدات

ايا تاريخنا الزاخر

بأعراس البطولات

سلام حين ما غضبي

يصب كل لاءاتي

على من بددوا شعبي

ومن ذبحوا

من النسغ

ربيع كل ورداتي

وهم من فرقوا عمدا

حبيباتي

وهم سرقوا مع الغبش

صباحاتي

الى عينيك يا وطني

ارتحالاتي

وأن ساقوك للوهن

ففي كفي  وفي عزمي

انا سيف الابابيل

وصيحات الجميلا ت

سلام حين تسكنني

وتملؤني وتشغلني

وتحملني الى احلى المقولات

ايا وشما

على جدران اوردتي

ويا بعضي ويا نصفي ويا كلي

ويا اني...

وإني من حرائرك

ومن اغلى السليلات

في المثقف اليوم