قراءات نقدية
حسين علاوي: تأويل الموت في ديوان "جدارية" لمحمود درويش..
ورواية (نهر الرمان) لشوقي كريم..
يعد الموت في الفلسفة والأدب، لحظة كشف للمعنى، لا مجرد نهاية بيولوجية.. فهو الحدّ الذي تتعرّى عنده الأسئلة الوجودية الكبرى: من نحن؟ ولماذا نعيش؟ وما جدوى الوجود إنْ كان مصيره الفناء؟..
في الفلسفة، رأى (هايدجر) الموت، إمكان الوجود الأصيل.. لأن الإنسان لا يكتشف ذاته إلّا حين يعي حتمية موته..
أمّا (أفلاطون) فعدَّهُ تحرّراً للروح من سجن الجسد.. و(نيتشه) جعَلَهُ شرطاً لتجدّد الحياة.. إذ لا تولد القيم إلّا من رماد الفناء.. وهكذا صار الموت مرآة الوجود، ومقياس التجربة الإنسانية..
وفي الأدب، تحوَّلَ الموت مِن حدث مأساوي إلى تجربة تأويلية.. كما في (جدارية) محمود درويش، و (نهر الرمان) لشوقي كريم حسن.. حيث يُستعاد الموت، لا كفناء، بل كحوار مع الغياب ومعنى البقاء.. فهو في النص الأدبي رمز للتحول والعبور، وفي الشعر والرواية يصبح لغة أخرى للحياة، تنطلق بصمتها، وتؤكد أنّ الإنسان لا يموت إلّا ليكتمل وجوده في الذاكرة والمعنى..
وتنتمي رواية شوقي كريم حسن (نهر الرمان) إلى تيار سردي يرى أن الحقيقة لا تُقدَّم جاهزة، بل تُنتَج عبر التأويل.. ولذلك لا يظهر الموت في (نهر الرمان) بوصفهِ واقعة، بل بوصفهِ فضاءً للمعنى يتحرك فيه السارد والقارئ معاً..
ووفقاً للهرمينوطيقا الحديثة المتمثلة في فلسفة (غادامير، وريكور) فهم يرون أنَّ الحدث لا معنى له بذاته.. بل يصبح ذا معنى حين نؤوِّله.. وهو جوهر معالجة شوقي كريم حسن، الذي يرى أنَّ الموت ليس ما يحصل للجسد، بل ما يحصل للدلالة، والموت كتأويل لا كصدمة..
وفي الرواية، تنشأ لحظة الموت باعتبارها نقطة الانكشاف التي تنسحب منها كل الأقنعة.. فلا يموت أحد فجأةً؛ بل ينكشف موته في الروح واللغة والذاكرة، كما لو أن الموت نافذة، أو مرآة، أو نصّ ثانٍ يُكتب في الظلال.. وبهذا يتحول الموت إلى تفسير عميق للوجود الإنساني، تفسير للعلاقة بالآخر.. وتفسير للخيبات.. ولخراب المدن.. ولفساد القوانين.. وللهشاشة الإنسانية.. فالموت إذن، ليس حدّاً، بل تأويلاً للعالم..
والنهر في الرواية ليس عنواناً فقط، بل كيان صحيح يشتغل كأداة تأويلية.. وشاهدٌ لا يموت.. بينما يموت البشر، يبقى النهر حياً، مما يجعله قادراً على قراءة ما لا يستطيع البشر فهمه..
والنهر مؤوِّل التاريخ، وكل موت يسقط قرب النهر يتحول إلى (نص) يقرأه النهر ويحتفظ بدلالته.. هو أرشيف غير مرئي، يعيد ترتيب ما تنهار له الذاكرة الجمعية..
والنهر قانون فوق القوانين.. لأنَّ قوانين الإنسان قد تُلغى وتُبدَّل وتُسوَّف.. أما قانون النهر فهو ثابت.. ما يسقط فيه يعود إلى جوهره.. وهذا ما يمنح النهر معنى القانون الطبيعي الأخلاقي، الذي يتفوق على القانون البشري المأزوم والملوث..
والموت من منظور الوجودية التأويلية، وخاصةً عند (هايدغر، وريكور)، هو أوضح لحظة للذات.. والإنسان في الرواية يظهر ككائن لا يفهم نفسه إلّا في لحظة المواجهة مع نهايته.. فالموت هنا ليس عدواً، بل يفسّر للذات ويوضّح للإنسان ما عاشه، وما ضيّعه، وما تمنى أن يكونه.. ويعيد ترتيب الذاكرة.. فتتحول الحياة إلى دفتر أخير يعاد كتابته وهيكلته: المحبة، الخيانات، الوطن، القوانين المكسورة، والأحلام..
فالموت يعيد ترتيبها وفق ما يسمى بدائرة الفهم التي تجعل النهاية تفسيراً للبداية.. والموت يعرّي زيف القوانين، فحين يقترب السارد من الموت يكتشف أن القوانين التي عاش تحتها ليست عادلة.. وإنّ الزمن السياسي كان وما زال غامضاً.. وإنَّ العدالة لم تتحقق.. والموت يصبح معيار الحقيقة لا يترك مجالاً للمجاملة ولا للنفاق..
وإنَّ المقارنة التأويلية مع جدارية محمود درويش ليس تشابهاً تقنياً، بل وجودياً.. فالاثنان يواجهان الموت بوصفهِ كتاب معنى.. كديوان أو نص روائي.. ففي ديوان (جدارية) لمحمود درويش، يفتح الموت باباً للنص: (هذا هو اسمك).. فالنص يعيد الإنسان من الموت إلى المعنى..
وفي رواية (نهر الرمان) لشوقي كريم حسن، يعيد النهر كل موت إلى جذره الدلالي.. كأن كل موت يحتاج إلى تأويل..
والموت عند درويش محاورة.. وعند شوقي، قارئاً صامتاً، بينما النهر هو الذي يتكلم بدلاً عنه.. وكِلا النصين يعتبر الموت فرصة أخيرة لفهم الحياة لا لإنهائها.. لكن الفرق الجوهري هو أنَّ درويش يواجه الموت فردياً من خلال الجسد واللغة.. بينما شوقي يواجهه جماعياً من خلال معاناة الإنسان وخراب المدن..
وذاكرة العراقي الذي عاش الموت يومياً لعقود طويلة، وبكل أنواعه.. فالموت في رواية (نهر الرمان) مساحة للفهم، لا للحضور والعدم.. وهو تفسير يقدّم الحقيقة التي تهرب منها الحياة.. والنهر عقلٌ رمزي يرى ما لا يراه البشر.. وإنَّ القوانين زائلة، لكن قانون الموت ثابت.. ولذلك فهو أعدل من كل قوانين البشر..
وفي الرواية، الموت ليس هزيمة، بل يتشكل من الألم.. وهو فرصة أخيرة لقول الحقيقة..
ورواية (نهر الرمان) تؤسس لرؤية تأويلية تجعل الموت أفقاً معرفياً، لا نهاية مادية.. وتقرأ الموت بوصفهِ كشفاً وتفسيراً، لا استعادة للذاكرة.. ومحكمة أخيرة للمعنى.. وبهذا تصبح الرواية جدارية عراقية، تقف إلى جانب جدارية درويش، ولكن بصوت محمّل بتجربة الأرض العراقية، وذاكرة إنسانها ومعاناته في الاضطهاد والحروب والإرهاب والدم.. وتكشف التشوّهات التي خلفتها الحروب والخوف من السلطة المتجبرة، وهروب وضياع الإنسان في الشتات والمهاجر..
والقاص والروائي (شوقي كريم حسن) في كل رواياته وقصصهِ القصيرة، دائماً ما يعرّي الواقع، ويمثّل أدبه سرداً إنسانياً غاضباً، يعكس وجدان الإنسان العراقي في أكثر من نصف قرن من الاضطرابات..
إلّا أنه في رواية (نهر الرمان) جعلَ من الموت منظومة من المعاني والتأويلات، ليواجه الإنسان من خلاله حدوده القصوى.. لأنه ليس نهاية الإنسان، بل ليكتب من خلاله آلامه وعذاباته ويقينياته..
فتعد هذه الرواية بحق، نَفَس جديد يصبح فيه النهر مساراً للوعي، لا مجرى، فيغدو مرآة للذات وهي تواجه وتتأمل معنى نهايتها.. وشوقي كريم حسن نجح حين لم يكسر النسق السردي، بل أعاد تشكيله، بحيث ظلت الشخصيات واقعية، لكن رؤيتها للعالم تنفتح على أسئلة وجودية.. بعد أن جعلت الموت تجربة معرفية، لا حادثاً وفقداناً..
فالرواية عمّقتْ الأسئلة الفلسفية، ونجحت حين جعلت للموت معنى لا نهاية.
***
حسين علاوي






