قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: دراسة نقدية تحليلية، تأويلية وسيميائية شاملة لقصيدة "صحراء من لهاث الماء"
للشاعر التونسي محمد علي الحدّاد
تتأسّس القصيدة الحديثة على التوتّر الدائم بين اللغة والعالم، بين الذات ومرآتها، وبين التجربة الشعرية والمطلق الإنساني الذي تسعى إلى الإمساك به. ومن هذا المنطلق تبرز قصيدة «صحراء من لهاث الماء» للشاعر التونسي محمد علي الحدّاد بوصفها نصّاً كثيفاً يتجاوز حدود القول الشعري المألوف إلى فضاءٍ تأويليٍّ رحبٍ، تتشابك فيه الأصوات، وتتعالق الرموز، وتتوالد المعاني في دوائر من العطش والبحث والانبعاث. فهي قصيدة لا تكتفي بأن تقول العالم، بل تعيد تأويله في ضوء رؤيا وجوديّة مشبعة بالأسى والتمرّد، وبنزعة صوفية وجمالية تعيد تعريف العلاقة بين الشاعر والكون واللغة.
يأتي هذا البحث قراءةً نقديّة تحليلية موسّعة تستند إلى المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي في سعيها إلى الكشف عن طبقات المعنى العميقة، وإلى المنهج الأسلوبي لتحليل البنى اللغوية والتصويرية المولِّدة للدلالة، وإلى المنهج الرمزي والسيميائي، خصوصًا وفق مقاربة أ. ج. غريماس في استخراج محاور الفعل (الفاعل/المفعول/المرسل/المرسل إليه/الساعد/المعيق) داخل البنية النصيّة. كما أحاول استنطاق النص على المستويات الجمالي والوطني والوجودي والنفسي والديني، للكشف عمّا يختبئ تحت الجلد الشعري من نبضٍ وتوتّرٍ ورمزٍ، وما يفيض به من إشاراتٍ معرفية وجمالية تُحوّل القصيدة إلى كيانٍ متعدّد الطبقات والدلالات.
ففي هذه القصيدة، يتّخذ الماء — رمز الحياة والخلاص — هيئةً لهاثٍ لا ينتهي، فيتحوّل إلى استعارة كبرى للعطش الإنساني إلى المعنى، وللصراع الأزلي بين الظمأ والارتواء، الحضور والغياب، الخطيئة والتطهّر. ومن خلال هذا الصراع، يرسم الشاعر محمد علي الحدّاد ملامح ذاتٍ قلقة، متشظّية، تكتب وجودها في مواجهة الخواء والخراب، محوّلة الشعر إلى وسيلة للمقاومة والنجاة، وإلى مرآةٍ للوجدان الجمعي الذي يتأرجح بين الحلم والانكسار.
تهدف هذه الدراسة إلى تفكيك البنى الدلالية والرمزية والجمالية في هذا النص المركّب، وقراءة ما تنطوي عليه من أنساقٍ فكرية ومعرفية تتقاطع فيها الأسطورة بالدين، والذات بالوطن، والمطلق باليومي، لتغدو القصيدة خريطة تأويلية للوجود الإنساني في أكثر حالاته عطشاً وتمزّقاً.
سأعود هنا إلى تقسيم الدراسة إلى عدة محاور:
أولًا: التمهيد النظري والمنهجي
1. المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي:
يتعامل مع النص بوصفه شبكة من المعاني المفتوحة، لا تُفهم إلا في ضوء تجربة القارئ والتاريخ والموروث الرمزي.
2. المنهج الأسلوبي:
يركّز على تشكّل المعنى عبر اللغة، من خلال التكرار، والانزياح، والتراكيب التصويرية.
3. المنهج الرمزي والسيميائي (غريماس):
هنا سأعتمد المربع السيميائي و"محاور الأدوار" (الفاعل/المفعول/المرسل/المرسل إليه/الساعد/المعيق) لفكّ خريطة الفعل داخل النص.
4. المستوى الجمالي والوطني:
تحليل كيف يتحوّل الشعر إلى خطاب وجودي ووطني مضمر، وكيف تتجلى التونسية كهوية رمزية أكثر من كونها جغرافيا.
5. المستوى النفسي والديني:
استكشاف التوتر الداخلي بين المقدّس والمدنّس، بين الخطيئة والخلاص، بين الإنسان والله والشاعر واللغة.
ثانياً: القراءة التأويلية العامة للنص
العنوان: "صحراء من لهاث الماء"
يؤسس العنوان مفارقة أنطولوجية: الصحراء (الجفاف المطلق) / لهاث الماء (العطش الدائم للماء، أو اللهاث خلف الحياة).
هذه الثنائية تمثّل البنية التوليدية للنص بأكمله: جدلية الظمأ والارتواء، الغياب والحضور، الموت والحياة.
العنوان هنا ليس توصيفاً مكانياً بل رمزاً كونياً للوجود المأزوم — وجود الإنسان الذي يحيا عطشاً لمعنى لا يُنال.
ثالثاً: المستويات الدلالية والرمزية
1. المستوى الرمزي
النص مشبع بصور تنتمي إلى حقلين رمزيين:
رموز الماء والنار: (الماء، اللهاث، الحريق، الانصهار، المطر، الطوفان، الخرائب).
هذه الرموز تُعيد إنتاج صراع التطهير والهلاك.
رموز الأنثى والخصوبة: (حلمة الضوء، بكارة الماء، مشيمة، عروس الغرباء، امرأة الليل، زنوبيا).
الأنثى هنا ليست جسداً، بل وسيطاً للخلاص أو الفناء.
الماء في النص يتحوّل من عنصر حياة إلى مرآة للعطش، والنار من تطهير إلى لعنة الخلق، ما يجعل النص يتحرك في فضاء "ما بعد الخلق"، في حالة تفكّك كوني.
2. المستوى الأسلوبي، الشاعر محمد علي الحدّاد يبني نصه على الانزياح اللغوي المتتابع:
كثافة الأفعال في صيغة المضارع (يوزّع، يبعثر، ينوء، يتمترس.. .)
→ تُوحي باستمرار الحدوث لا بانقطاعه، كأن الزمن متكرر في حلقة من الوجود المنهك.
هيمنة الجمل الفعلية مقابل الجمل الاسمية → دليل على قلق الوجود.
الاستعارة المركّبة: (قهوة تصطلي بالليلَك / الليل ينوء بكربته القمرية / العريشة تتمترس / أصيص الذاكرة).
هذه الانزياحات اللغوية تكشف عن وعي شعري حداثي يعيد تشكيل اللغة لا وصفها.
3. المستوى النفسي:
النص اعتراف طويل بالمنفى الداخلي، فيه تنكشف ذات ممزقة بين الحنين والخذلان:
"فأنا منسيّ.. لا يسع البرزخ صراخي"
"ولا حاجة لي لتأويل حروفه على حبل الغسيل"
"أمارس وطناً حميميّاً مختلفاً.. في خيمة لا وطن فيها"
الشاعر يُنشد "وطناً ميتافيزيقياً" لا أرضياً، وطناً في اللغة نفسها.
والموت عنده ليس نهاية، بل حالة دائمة من الانتظار والتطهّر.
الصحراء النفسية هي داخل الذات، لا خارجها.
4. المستوى الديني:
النص يوظف تناصّاً مكثفاً مع الكتب المقدسة:
سفر التكوين / السامري / العجل / البرزخ / الأعاصير / الأعمدة / البوم / القلاع / العراء.
هذه المفردات ليست تزييناً بل تأويل شعري للأسطورة الدينية.
حين يقول:
"هنا.. لا قُدس.. ولا قُدّاس.. فسفر التكوين أعاد كتابته الأرجاس"
فهو يُسقط المقدّس في دائرة التجديف الرمزي، حيث يتمرد الشاعر محمد علي الحدّاد على التكوين الإلهي ليعيد خلق العالم بشعره.
إنه "نبيّ الشعر" المخلوع من جنّته.
رابعاً: التحليل السيميائي وفق نموذج غريماس
١- الدور السيميائي
٢- العنصر في النص
٣- الوظيفة والدلالة
٤- المرسل
٥- الذات الباحثة عن الخلاص/المعنى
٦- دافع البحث عن "الماء/الحقيقة"
٧- المرسل إليه.
الشاعر نفسه والإنسان الجمعي
الغاية هي النجاة من العطش الوجودي
٨- الفاعل.
٩- "الأنا الشعرية"
تقوم بفعل المقاومة والبحث.
١٠- المفعول به.
"الماء" بوصفه رمز الحياة والمعرفة
يمثل الهدف المستحيل
١١- الساعد
الرموز الأنثوية / الذاكرة / المطر / الحلم
أدوات جزئية تمنح الشاعر لحظات كشف
١٢- المعيق.
الصحراء / الخراب / النسيان / النظام الاجتماعي / الأعراب
قوى تحبط سعي الذات نحو الخلاص
بهذا يتجلى النص كرحلة بطولية من الجفاف إلى الارتواء الرمزي، لا تتحقق أبداً — فالماء يظل "لهاثاً"، لا وصولًا.
- خامساً: المستوى الوطني والأنساق المعرفية
القصيدة تُضمّر خطاباً سياسياً وجودياً:
"الأعراب يسفّوننا النشيد المازوشي"
"المسيرة الخطيرة أدخلتني مخفرًا مباح الشجب والتنديد"
الشاعر محمد علي الحدّاد هنا يعرّي الخطاب القومي العربي المهزوم، ويحوّله إلى صورة صحراء تلتهم المعنى والحرية.
الوطن يتحوّل من كيان جغرافي إلى مأزق معرفي وأخلاقي.
في المستوى المعرفي، القصيدة تشتغل ضد أنساق السلطة، وضد "لغة الطاعة"، مكرّسة لغة الهذيان الخلّاق كبديل للقول المألوف.
سادساً: المقارنة بين المستويات الأربعة
المستوى
١- الطبيعة الشعورية
٢- الوظيفة الجمالية
الانفعالي
توتر، حنين، قلق، فزع، تمرد
يخلق توتراً متصاعداً في الإيقاع والصور
التخييلي
بنية أسطورية تحاكي الخلق والتدمير
يجعل النص مفتوحاً على التأويل
العضوي
٣- وحدة الإيقاع الداخلي والمجازات المتصلة
يربط بين الصحراء والماء والأنثى
اللغوي
٤- اشتغال على التنافر الدلالي والرمزي.
يؤسس جماليات الغموض والاختراق
سابعاً: الخاتمة التأويلية
قصيدة "صحراء من لهاث الماء" نصّ ما بعد وجودي، يتجاوز الواقعي والسياسي ليؤسس ميتافيزيقيا العطش.
الشاعر يقف في تخوم البرزخ بين الإنسان واللغة، بين الفناء والتطهر.
تتجلى فيه الذات التونسية المبدعة كصوت للكون العربي المنفي في ذاته.
إنه نص لا يُقرأ بل يُؤوَّل، ولا يُؤوَّل بل يُعاش.
"وأنا صحراء من لهاث الماء"
جملة تلخّص المصير الإنساني كلّه:
الوجود لهاث دائم نحو ماءٍ لا يُدرك.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
............................................
صحراء من لهاث الماء
بقلم: محمد علي الحدّاد
أكتفي بشامتي.. وبغمض مُسترق..
وببكارة الماء.. وبحِلمة الضوء..
وبمشيمة عالقة.. أو مختنقة..
وبوحوحة الغرباء.. والهباءة.. فالفيافي..
وأوّزّع عليكم رمادي
لعّلّكم تعرفوني.. في الزّحام..
وفي خريف المداخن..
*
وضراوة لجنّيّات حوراوات يَسْرِقْنَ كيس
أحزاني المثقوب..
ويُلقينه في البحر..
ويُحَرِّفْنَ ٱنحدار دموعي الغائمة لمجرى
الجداول..
فلا صوت لي يا حنيني فَأُُلّحِّن لها..
تقاطر الوحشة في المزاريب..
وٱنسكاب أمطار الخرائب في الخوابي..
*
وتَبَعْثُرِي في بروج الرحيل مثل ـ سِنِّمَّارْ ـ ..
وفي جنّاز بعض العقبان الصديقة
فأنا منسيّ.. لا يَسَعُ البرزخ صراخي..
والأعاصير تُعجبني لمّا تهبني خدودا..
و شفاها تتّأّخر..
عن موعد التفّاح القاني..
تلاعبني.. بمخايل الخرّوب..
وبالخطاف يحوم على رأسي
بالرّغم وأنّني لست هو ذلك
الخزّاف المنبوذ.. إنّمّا أنا توأمه الباكي..
*
وقد أنهكني ذلك الليل المتوّحش ينوء بكربته القمريّة..
النابتة بظهره شجرا وضيئًا.
في ٱقتتاله مع القنافذ الوديعة.. لطالما.. ٱستجارت منه بحموضة الكروم..
يتمترس وراء عريشة.. في طوفان لا سفينة فيه..
ولا من جبل يُعتصم به.. ولا من زِناد لبندقيّة..
تُشعل فتائل الدّيجور..
ثمّ لا مناص من غربتي.. وهذه عروس الغرباء..
سيرتشف دمع حتفي البُومُ
في صفصافه..
.. وإن تَنَّكَرَا لي شجر الجّبٌوز والطريق..
.. .. .سأشتهي من الورد الحريق..
تَغَافَلْ أَيَا طَيْرُ عَنِّي.. تَغَافَلْ..
فما جدوى أن تَتَبَاكَى عَلَيّ..
سيتخّطّفني أنيني..
فلا تفتح منقارك للرّيح..
.. مِثْلَ الأقفال يفتحها الصّديد..
و دَعْكَ منّي.. ومن شجرة ٱمالي.. التي أكلها السّوس..
.. .. .. .. .. . أَبْدَلَتْ رعشتها بِدَّقِ حَجَرٍ على حَجَرْ..
*
ها هو ذاك المستفحل في كتابة ـ أَجنْدَاـ
.. هَاكَذّيّة.. لثورته التجريبّيّة.. يثرثر للحالمين..
و لِذي نهنهات مكمودة.. كضّبي يخرج لسانه للرّيح..
وللمغبونين.. يَعِدُهُمْ بِثَلْمِ لسان الثعالب.
ويُعَّشِّمُّهُّمْ بقرص وجنة الدّجى..
ويُمَّنِّيهم بلثمتين من ورد قُدُودِ الحِسَان..
ولا حاجة لي لتأويل حروفه على حبل الغسيل
في البُكور..
فالنّهار أصبح يتلّقّف لزوجة التنّبأ يلّفّها بالنّارنج وبشيء من دياثته.. و بهتافاته المُتَبَالِهَة..
فأنا متصّدّع أدّخن قهوة تصطلي باللّيلك
وجدير بي أن أهوي إلى نفسي.. وأموء..
وجدار بعيد يمسكني بقوّة..
يدعوني للتشّقّق والهطول..
ممتزجًا بذاتِ الأكمام بخضرتها لا تخطر ببالها..
بِقيثارِ حَافَّةِ السماء
تحت ظُلَلِ الصنوبر و الهندباء..
مغتسلا بالمكوث.. لديها..
منتفظًا بقماط الليل المتنّصل..
يعدو الليل في شوارع من رقعة شطرنج
ثمّ يجالس الأصدقاء متنّكرين بأبّهّتي القارسة..
ويناورونني..
.. .بِمَتَانَةِ الجرح يعرفني الإنتظار كريمًا
وأكثر تبّسّمًّا..
ولكّنّها لن تغفر مرارة صبري المتّشّبّث بأغاني الغجر..
وسَتُسْبِلُ دون تَرَّيُثٍ ستائر الغمام..
.. .. .. .. هل ٱستبيحت هامتي بالفزوع..
وبها ٱطمأنّت ولها غَارَتْ..
ك رذاذ..
لم يُصَّلِّ يوما بالسىراديب المعتمة..
.. .. .. .. .. .. .. .. يطفح جاري المُشّعّث بعلقم ٱمرأة الليل..
وجارته تنشر تغريدة..
على حبل شهوتها..
وتُلْقِمُهُ حجرا بالنهار وتفضحه..
جزاء تنّكره للحياة..
.. .. .. .. .. .. .. .. أيّها السّاقي لا تشنق ذاكرتي اليوم بأصيصك..
بل ٱتركني للغد فخيوط الحرير تشّمّع..
لساني في الرّيح..
فبإثم المهرّج وبٱسمه التنّكري يَسكر الموّلعون فوق حبل النميمة البيضاء تسوّد بالتّدّرج..
وبتسلية لاعبة النّرد.. هل.. تمكر بالياسمين تغريه..
و.. تهديه اللون الأسود..
.. هكذا.. في مقبرة مطّلّة من حديقة زنجيّة
ينغمس السرول..
في ضحكة ظلاله بحركة البيادق..
و.. زنوبيا عشقي تحرق ٱخضرار الحدائق..
من أجل خصوبة لا تقلق..
و فحولة لا ترتاح..
.. .. .. وأنا صحراء من لهاث الماء..
وحده النّرد يغسل الحواس صمتًا أنثويًّا بمشعل نار..
ٱخر ممالك الخيلاء تسقط أسيرة خيال لاعبة النّرد..
تُنجدها الخيول الضاعنة المعارك..
يندلع الجمهور مُتَدَاكِكًا في رقصته بلا صخب جارح
يحيي مٱثر الهنود الحمر..
واليتامى يتحّلّقّون حول كبير المَنْكِبَيْن له خزائن الشّحًة المقرفة والتي هي فقط..
تتقاطر منها أقمصة قوس قزح..
يا لضَحاياها الكُثر.. ويالضُحاها..
يظّنّان بأنّ ٱرتحالي سيغدو ٱرتياح الحقائب
والسحائب و المراكب..
لكّنها الرعود تعيد ترتيب الصدى كيفما بثّته الغرانيق
في لواعج ليل يهيض من دون أوكار..
و صَايَحَتْنِي بوميضها.. المواسم..
شلاّلاً من.. الزُلال.. موجًا.. . وأشتاتًا..
سأتحّمّل وحدي أوزار الرخام..
وعُزلتي.. بجناح مقفوص..
.. .. . إِنْ تَنْسَيْنَ غروبي..
فَسَيَكْفِيكِ قاربٌ بلا مجذاف.. دوح حنان..
لتَسْتَلْقِينَ بين أضلاعه فتنة حافية..
كٱمرأة تهاجر فيه.. لوطن الماء.. لٱنصهار حارق
من نِرْفَانَا..
لعّلّها تُصافي بوهجه خيباتي.. لأتحّرّر بين سباخ الأرخبيل..
*
وأنتَ يا خريف تَذّبُلِّي.. بأوراقكَ المُتلّبّخة في عرائي..
وتُلبسني إيّاها منقوعة بطحالب الصّخور..
وتأتيني يَدُكَ وهي على كَتِفِ غراب..
تزاوراني.. من وراء الظّل..
.. و تنسيان القناع.. في حريق القلاع..
و هذا السّخيم..
من دون أن يُسْعِفَنِي ويَسْكُبَنِي بماء أو دلاء..
يُوَّبِّخُ فراخ الطّير.. إِذْ تَرْكُنُ واجفة..
دون أن يَسْكُنَنِي السّيل..
وتتقمّصّني البذور..
و هذان التوأمان يهوّمان.. ويُذّبِّلاَنِ لي عينيهما..
*
لا عري لي فلقد فقدته ٱمتشاقي الطفولي..
مذ ضاعت سراويل الغبطة في النّشيد الهامشيّ..
إذ ينعقه.. ميثاق رماد جديد لتّتّاريّين جدد..
.. يستنكفون بذاري..
ويطبخون سرّا فلفله طازجّا ببهاري..
.. .. .. .. .. .في خيمة لا وطن فيها.. .. .
أمارس وطنا حميميًّا مختلفًا..
والبلاد زَعْمٌ لا يمكن وصفه.. تحت رشق العواء..
والأعراب يسّفّوننا النشيد المازوشي
في متاهة النفق..
والمسيرة الخطيرة أدخلتني مخفرًا مباح
الشّجب والتّنديد..
وألهتني بالتحديق بأفواه زاعقة فاغرة التحليق..
وعّلّقتني بمشجب الأسئلة الحُّرّة..
ودُهِسْتُ بأقدام جحافل المحزونين..
*
هنا.. لا قُدْسَ.. ولا قُدَّاسْ.. فسِفر التكوين
أعاد كتابته الأرجاس..
و للكنعانيّ المجهول الٱن.. أن يُفنّده..
بِتَأَوُّلِهِ.. برفقة صفعات تتلّهّبّه
من عسس الأحباس..
و للسّامريّ أن يتحّرّق بِخُوَاره.. وهو يَغُّشُّنَا
بِعِجْلِهِ النُّحاسيّ..
وقال لي مخصيّ ٱبن مخزيّ.. هل يتبّخر
دَسَمٌ مسموم في دمك..
وهل يلفظه.. أم يتنّثره طهرك في الأبهر..
و أنا.. لا ٱية لي إلاّ المقت.. وكَفَى بالشِعر وكيلا..
وقال لي البحر.. تَحَرَّرْ مِنْكَ وَمِنِّي..
فما عادت لي ضفاف.. تَحْمِيكَ.. و تُؤْوِيك..
وقال شِعْرُكَ يا غريقي يتحّمّم
في جهّنّم عليه اللّعنة..
وإليك التِّيه..
ما غرّدت البلابل في الجِنان..
*
نلتقي في جهّنّم إذن يا حبيبي..
لنستصرخ علّو الموجة..
فالحِمام بك يترّسّل.. بقدمك اليمنى..
والحَمام ينقم منك.. هو الجائع من مخمصته.. ٱتٍ.. وٱت..
ليأكل من رأسك..
إن لم تكتب شِعر القمح والسنابل..
إن تَهَّيَّبْتَ السلاسل..
ونَكَسْتَ قَدْحَ زِندك..
وبوجع الحناجر.. والمحابر..
لم تُقاتل..
قُضِيَ الأمر الذي فيه تمرح الشّاعرية..
ولكّنّك لن تزعق الٱن.. وستتمّهّل..
وسَتَحْجُل فقط في حديقة بيتك
بالقدم اليسرى..
*
يا.. ذاتِ الأكمام.. في سمائكِ سوسن الصّبر..
وخيبةُ الزّعفران.. هي خيمتي لا أوتاد لها..
إنّها تَقْلِبُنِي على نفسي.. مغلول الدمع..
أتَلَّقَّفُ عريي كساءً مرّقّعًا بالتفاسير..
.. .. .. . إنّمّا خجولاً بحبّ الكائنات الجريحة..
***
🇹🇳 حمّام الأنف café rossignol
بتاريخ 15/ جويلية /2025







