قراءات نقدية
إبراهيم أبو عواد: وصف الخمر بين أبي نواس وبودلير
الحسن بن هانئ المَعروف بأبي نُوَاس (145 - 198 ه / 762- 813 م)، شاعر عربي مِنْ أشهرِ شُعَراءِ العصرِ العَبَّاسِي، وَمِنْ كِبار شُعَراءِ الثَّورةِ التجديدية. أحدثَ انقلابًا في مَضمونِ الشِّعْرِ العربيِّ وأُسلوبِه، فَقَدْ تجاوزَ الأغراضَ التقليدية كالمَدْحِ والفَخْرِ، واتَّجَهَ إلى مَواضيع جديدة تُعبِّر عَن التَّرَفِ والتَّحَرُّرِ. وكانَ وَصْفُ الخَمْرِ أبرزَ هذه المواضيع التي ارتبطَ اسْمُه بِها، وَقَدْ قَدَّمَ رُؤيةً فِكريةً مُتكاملة جعلتْ مِنَ الخمر رمزًا للحياةِ والحُرِّيةِ والتَّمَرُّد.
تَجَلَّى أُسلوبُه الفَنِّي في طريقته في رَسْمِ صُورةِ الخَمْر، إذ اتَّسَمَتْ بالدِّقَّةِ والتفصيلِ والحيوية، فَقَد استعارَ مِنْ مُعْجَمِ الضَّوْءِ واللونِ والحركةِ مَا يُضْفي على الصُّورةِ طَابَعًا بَصَريًّا يَكَاد يُحوِّل المَشْهَدَ إلى لَوْحَةٍ فَنِّية، كما لجأ إلى الأساليبِ البَلاغيَّة مِنْ تَشْبيهٍ واستعارةٍ وكِناية، لِيَمنحَ الخَمْرَ صِفَاتٍ إنسانيَّة تَجْعلها شَخصيةً حَيَّةً تَتفاعل معَ الشاعر. ولا يَكْتفي بوصفِ مَظْهَرِها أوْ طَعْمِها، بَلْ يَربِط بَيْنَ لَوْنِها ورائحتها وتأثيرِها النَّفْسِيِّ، فَيَصْنَع لَوْحَةً حِسِّية مُتكاملة تَتجاوز الماديِّ إلى الجَمَاليِّ.
تُمثِّل الخَمْرُ في شِعْرِهِ رمزًا للحَياةِ والمُتعةِ، والتَّمَرُّدِ على القِيَمِ التقليدية، والتَّحَرُّرِ مِنَ القُيودِ الاجتماعيةِ والدِّينية، فَهِيَ لَيْسَتْ مُجرَّد شَراب، بَلْ وسيلة للتَّحَرُّرِ مِنْ سُلطةِ الدِّينِ والمُجتمعِ، والهُروبِ مِنَ الواقعِ القاسي، والتقاليدِ الصارمةِ التي كَبَّلَت الإنسانَ، وتَجسيد لفلسفةِ اللذةِ والاحتفاءِ بالجسدِ واللحظةِ الآنِيَّة.
بِهَذا المَعنى، تَتَحَوَّلُ الخَمْرُ إلى رمزٍ للبحثِ عَن الذاتِ، والتصالحِ معَ الرَّغَبَاتِ الإنسانية المَكبوتة. وَتَجْرِبَتُهُ مَعَ الخَمْرِ حِسِّية في ظاهرِها، لكنَّها تَنْطوي على نَزْعة فِكرية تُمجِّد الحُرِّيةَ الفردية، وتَحْتفي بالإنسانِ في طَبيعته الأوَّلِيَّةِ البِدَائية الغريزية الشَّهْوانية. وَالخَمْرُ لَدَيْهِ رَمْزٌ دُنيوي، مُرتبط بالمُتعةِ والمَجالسِ واللهوِ والعبثِ، وإنْ كانتْ تُخْفي وَراءها احتجاجًا على النِّفَاقِ الاجتماعيِّ والقُيودِ الأخلاقية.
وَتَعْكِسُ قصائدُه صِرَاعًا داخليًّا بَيْنَ اللذةِ والذَّنْبِ، وَبَيْنَ النَّزْعةِ الحِسِّيةِ والنَّزْعةِ الأخلاقية، وَهُوَ مَا يُضْفي على تَجرِبته عُمْقًا إنسانيًّا يَتجاوز حُدودَ اللهوِ والمُجُونِ الظاهريِّ.
لَمْ تَكُن الخَمْرُ عِندَه مُجرَّد شَرابٍ يَسْقي الأجسامَ، بَلْ كانتْ رمزًا فلسفيًّا يَعكِس مَوْقِفَه مِنَ الحَياةِ والوُجودِ والحُرِّية. وَهُوَ يَرى في الخَمْرِ خَلاصًا مِنَ الزَّيْفِ والنِّفَاقِ، وعَوْدَةً إلى الصِّدْقِ الطبيعيِّ في الإنسانِ. وَمِنْ خِلال هذا الرَّمْزِ، أعلنَ تَمَرُّدَه على الزُّهْدِ المُصْطَنَعِ، وَدَعَا إلى فَلسفةٍ جديدة تَحْتفي بالحياةِ ولَذَّاتِها، وَتُؤْمِن بأنَّ المُتعةَ الصادقةَ وَجْهٌ آخَر للحقيقة.
والشاعرُ الفرنسيُّ شارل بودلير (1821 م - 1867 م) مِنْ أبرزِ شُعراءِ القرنِ التاسع عَشَر في فرنسا، وَيُعْتَبَرُ رائد الحَداثة الشِّعْرية الأُوروبية. وَقَدْ شَكَّلَت الخَمْرُ في تَجرِبته الشِّعْريةِ رمزًا مَركزيًّا يُجسِّد الصِّراعَ بَيْنَ الجسدِ والرُّوحِ، بَيْنَ الواقعِ والمِثال، فَهِيَ عِنده لَيْسَتْ مُجرَّد شَراب، بَلْ حالة وُجودية يَسْعى مِنْ خِلالِها إلى تَجاوزِ بُؤْسِ الواقعِ، والارتقاءِ إلى عَالَمٍ مِنَ الجَمالِ والنَّشْوةِ الفَنِّية.
تَتَّخِذُ الخَمْرُ عِندَه بُعْدًا رمزيًّا عميقًا، فَهِيَ تُمثِّل وَسيلةً للتَّحَرُّرِ مِنْ قُيودِ الواقعِ الماديِّ، والانفلاتِ مِنْ ثِقَلِ الزَّمَنِ والمَلَلِ، فَهِيَ لَيْسَتْ مُجرَّد أداة للسُّكْرِ أو المُتعةِ الحِسِّية، بَلْ هِيَ رمزٌ للتَّحليقِ في فَضاءِ الإبداعِ، والانعتاقِ مِنَ الواقعِ المُبْتَذَلِ نَحْوَ عَالَمٍ أكثر صَفَاءً وَنَقَاءً. كَما تَرتبط الخَمْرُ في شِعْرِه بِفِكرةِ التَّمَرُّدِ على النِّظامِ الاجتماعيِّ والأخلاقيِّ، إذْ يَرى فيها وسيلةً للانفصالِ عَن المُجتمعِ البُرْجُوازيِّ الذي يَرفُض قِيَمَه المادية والسَّطْحية.
في فلسفته الشِّعْريةِ، تُمثِّل الخَمْرُ طريقًا نَحْوَ المُطْلَقِ الفَنِّي والرُّوحي، فَهُوَ يَرى أنَّ الإنسان يعيش في عَالَمٍ ناقصٍ وَمَلِيء بالبُؤْسِ والشَّقَاءِ والتَّعَاسةِ، وأنَّ الخَمْرَ تَمْنحه لَحْظَةً مُؤقَّتة مِنَ الكَمالِ والانسجامِ معَ الكَوْن. إنَّها رِحْلة آنِيَّة نَحْوَ السُّمُوِّ، يَستطيع الشاعرُ مِنْ خِلالِها أنْ يَقْترب مِنَ الجَمالِ المِثاليِّ الذي لا يَبْلُغُه في الواقع. وهَكذا، تَتحوَّل الخَمْرُ إلى رمزٍ للفَنِّ ذاتِه، لأنَّهما يَمْنحان الإنسانَ لَحْظةً مِنَ الخَلاصِ مِنْ عُبوديَّةِ الواقعِ.
يَرتبط وَصْفُ الخَمْرِ عِندَه بحالته النَّفْسِيَّةِ المُضْطَرِبَة، فَهُوَ يَعيشُ صِراعًا دائمًا بَيْنَ رَغْبته في الصُّعودِ الرُّوحيِّ وَسُقوطِهِ في عَبَثِ الواقع، وتُمثِّل الخَمْرُ بالنِّسْبَةِ إلَيْه حَلًّا مُؤقَّتًا للقلقِ الوُجوديِّ الذي يُعانيه، إذْ تَمْنحه شُعورًا زائفًا بالطُّمَأنينة، لكنَّها في الوَقْتِ نَفْسِه تُذكِّره بِزَيْفِ تِلْك الطُّمَأنينةِ وَزَوالِها السريع.
وَمِنْ هَذا المَنظورِ، تَظهَر الخَمْرُ كَمِرْآةٍ لِتَمَزُّقِ ذاتِ الشاعرِ بَيْنَ الحُلْمِ والهاوية، بَيْنَ النَّشْوَةِ واليأسِ، في صُورةٍ فَنِّية تُعبِّر عَن التناقضِ الإنسانيِّ العميق. وَهُوَ يَرى في الخَمْرِ تَجْسيدًا لحالةِ الشاعرِ ذَاتِه، فَكَمَا يَسْكَر الإنسانُ بالخَمْرِ لِيَهْرُبَ مِنْ واقعِه، يَسْكَر الشاعرُ بالشِّعْرِ لِيَتَحَرَّرَ مِنَ العَالَمِ العاديِّ، وَيَصْنَعَ عَالَمَه الخاص.
تُشكِّل الخَمْرُ في الشِّعْرِ العربيِّ والغَربيِّ رمزًا مُركَّبًا تَتداخل فيه اللذةُ والتَّمَرُّدُ والبحثُ عَن الخَلاص. وإذا كانَ أبو نُوَاس جَعَلَ مِنَ الخَمْرِ أداةً للتَّمَرُّدِ على القِيَمِ الدِّينية والاجتماعيةِ في العَصْرِ العَبَّاسِيِّ، فإنَّ بودلير جَعَلَ مِنها وسيلةً للهُروبِ مِنْ عَبثيةِ الواقعِ والاغترابِ الوُجوديِّ.
رَغْمَ المَسافةِ الزمنيةِ والثقافية، يَشترك أبو نُوَاس وبودلير في جَعْلِ الخَمْرِ أداةً للحُرِّيةِ والتَّحَرُّرِ، الأوَّل مِنْ سُلْطَةِ الدِّينِ والمُجتمعِ، والثاني مِنْ ثِقَلِ الوُجودِ والزمنِ. لكنَّ الاختلافَ الجَوهريَّ أنَّ خَمْرَ أبي نُوَاس احتفالٌ بالحَياة، بَيْنَما خَمْر بودلير هُروب مِنَ الحَياة.
***
إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن






